عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-12-2020, 09:05 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,616
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير سورة الكافرون

تفسير سورة الكافرون


محمد حباش








تفسير السورة:
البدء بكلمة (قل) لرفع الحرج عن النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فقد كان مأمورًا بالرِّفق واللين، ومخاطبة الناس بالتي هي أحسن، كما قال تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: 125]؛ فلما كان الخطاب هنا غليظًا، أراد الله رفع الحرج عنه، وبيان أنه مأمور بهذا الكلام، ودليل ذلك قولُه صلى الله عليه وعلى آله وسلم في حديث سبب نزول السورة: ((حتى أنظر ما يأتيني من ربي))؛ ليجعل حُجَّتَه أن الذي عليه طاعته قد منع من ذلك.


ومن اللطائف التي نجدها في كتاب الله العزيز أن مسائل الاعتقاد غالبًا ما تأتي تلقينيَّة؛ كقوله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص: 1]، ﴿قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة: 136]، ﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا [آل عمران: 64]، ﴿قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [الأنعام: 14].


وقال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون: 1]، ولم يقل: "يا أيها المشركون"؛ فتناولت كلَّ كافر، سواء كان ممن يُظهِر الشرك، أو كان فيه تعطيل لما يستحقُّه الله واستكبارٌ عن عبادته.


وكذلك فإن قوله: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون: 1] خطابٌ لكل كافر يتناوله وصف الكفر، مَن مضى منهم ومَن يأتي إلى يوم القيامة، وليس لأناسٍ خاطبهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم في حياته، ولو كان كذلك لكانت السورة براءةً من دِينِ أولئك فقط، ولم تكن براءة من الشرك بجميع أنواعه.


﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 2] جملة فعلية، والجملة الفعلية دالةٌ على الحدوث والتجدُّد، والفعل "أعبد" جاء بصيغة المضارع، والمضارع يعم الحاضر والمستقبل؛ وقال: "ما تعبدون" ولم يقل: "من تعبدون"، و "ما" تدلُّ على الصفة، فإن "ما" في اللغة إمَّا لما لا يعلم، أو لصفات ما يعلم، كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى [الليل: 3]؛ أي: وخالق الذكر والأنثى.


فقوله: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ؛ أي: لا أعبد معبودكم؛ والمعبود هو الإله، فكأنه قال: لا أعبد إلهكم، ولا تعبدون إلهي، كما ذكر الله لنا عن يعقوب: ﴿إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ [البقرة: 133]؛ فقوله: ﴿لا أعبد يتناول نفي عبادته لمعبودهم في الزمان الحاضر والمستقبل، وقوله: ﴿ما تعبدون يتناول ما يعبدونه في الحاضر والمستقبل.


﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 3] جملة اسمية، والجملة الاسمية دالة على الوصف والثبوت، فإنهم لما اتصفوا بكفرهم على وجه الثبات، نفى عنهم عبادة الله على وجه الثبات، فإن تابوا وأسلَموا، انتفى عنهم ذلك الوصف بكفرهم، وانتفى عنهم ذلك الثبات، أمَّا الذين بقُوا على كفرهم، فأولئك لا يعبدون أبدًا العبادة الصحيحة التي يعبدها النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم.


ومعنى الآية: ما دمتم ثابتين على كفركم، فأنتم لا تعبدون معبودي لا في الحال ولا في الاستقبال؛ فقابلت هذه الآية ما قبلها في تبرئته مما يعبدون في الحاضر والمستقبل.


﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ [الكافرون: 4] جملة اسمية، فالجملة الفعلية ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 2] نفي لإمكانه، وهذه نفي لاتصافه، فيكون أبلَغَ في النفي.


وقوله: ﴿ما عبدتم يتناول ما عبدوه في الزمن الماضي؛ لأن المشركين يعبدون آلهةً شتَّى، كما أن كلَّ طائفة لها معبودٌ سوى معبود الطائفة الأخرى.
﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 5] قابلت هذه الآية ما قبلها في تبرئته مما عبدوه في الماضي.


فإن قيل: نجد تكرارًا في هذه السورة، فما الغاية منه؟ فنقول: إنَّ القرآن وإنْ كان نزل بلغة العرب فله شأن اختصَّ به لا يشبهه كلامُ البشر، وأنه ليس في القرآن مكرَّر لا فائدة فيه، فإذا رأيت شيئًا منه تكرَّر من حيث الظاهر، فتأمَّل جيدًا، وانظر إلى سوابقه ولواحقه؛ لتنكشف لك الفائدة منه.


فقوله: ﴿لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ [الكافرون: 2] نفي للحال والمستقبل؛ وقوله: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 3] مقابلة؛ أي: لا تفعلون ذلك في الحال ولا في الاستقبال؛ وقوله: ﴿وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ [الكافرون: 4]؛ أي: لم أعبد قط ما عبدتم؛ ولهذا أتى في عبادتهم بلفظ الماضي؛ وقوله: ﴿وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ [الكافرون: 5] مقابلة؛ أي: لم تعبدوا قط في الماضي ما أعبده أنا دائمًا، فاستوفت الآياتُ أقسامَ النفي ماضيًا وحالًا ومستقبلًا عن معبوده ومعبودهم، وتضمَّنت البراءة من كلِّ ما يعبده الكافرون في كل زمان ماضٍ وحاضر ومستقبل، وعلى هذا فلا تكرار أصلًا؛ فكلُّ آية تتعلَّق بما قبلها، وهذا كقوله تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ [الانشقاق: 2]، وكقوله: ﴿فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ [الرحمن: 13].


﴿لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ [الكافرون: 6] الدين هو العبادة، وقد أطلق ها هنا على الكفر دينًا في قوله: ﴿لَكُمْ دِينُكُمْ، ونظير ذلك ذكر الله لنا قول فرعون لقومه: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [غافر: 26].


﴿وَلِيَ دِينِ: حُذفت الياء من ديني؛ لأنه رأس آية، فحسُن الحذف لتتفق الآيات؛ كقوله تعالى في سورة الفجر: ﴿فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ [الفجر: 15]، فقوله: ﴿وَلِيَ دِينِ؛ أي: عبادة لله خالصة من الشرك، كما قال سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ [البينة: 5]، وما سواها فليست بالعبادة التي أمر الله بها.


فتحقَّقت في هذه السورة مع قصرها شمولُ البراءة من كلِّ معبود سوى الله، والبراءة من كلِّ عبادة لم يشرعها اللهُ؛ إذ إن كل عابد لا بد له من معبود يعبده، وعبادةٍ يسلكها إليه، وهذه السورة تضمَّنت الاختلافَ التام في المعبود وفي العبادة.


فإن قيل: هناك من الناس من لا يعبد شيئًا، فليس في السورة شمول البراءة؟! فنقول: كلا، مَن في الظاهر لا يعبد شيئًا فهو يعبد هواه، وله عبادة يسلكها إليه، كما تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا [الفرقان: 43]، ويعبد المال واللباس والدنيا، وله عبادة يسلكها إلى ذلك؛ كما روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قال: ((تعس عبدُ الدينار، والدرهم، والقطيفة، والخميصة، إن أُعطي رضي، وإن لم يُعطَ لم يرضَ)).


فسورة الكافرون سورةٌ شاملة كاملة، وقد أخطأ مَن قال: إنها منسوخة، وإن آخرها نُسخ بآية السيف؛ بل السورة كلها محكمة عمومها نص محفوظ، وهي من السور التي يستحيل دخول النسخ في مضمونها؛ فإن أحكام التوحيد التي اتفقت عليها دعوة الرسل يستحيل دخول النسخ فيها، وهذه السورة أخلصت التوحيد؛ ولهذا سميت بسورة الإخلاص.


تنبيه: البراءة من عمل الكفار لا تعني أن نُسيء إلى الذين يعيشون منهم في كنف الدولة الإسلامية وتحت حمايتها؛ مِن عمَّال وسيَّاح وغير ذلك؛ بل لهم من المسلمين حسنُ المعاملة، وألا يجوروا عليهم في حُكْم من الأحكام، فعقد الذمة يوجب حقوقًا علينا لهم إذا لم تصدر منهم مخالفاتٌ توجب نقضَ هذا العقد؛ فقد قال لنا ربُّنا عز وجل: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الممتحنة: 8]؛ فالكافر الذي يحسن إلى المسلم فالمسلم يكافئه، بل يتأكَّد في حقِّه مكافأته على صنيعه؛ ليقطع منَّتَه عليه، ولا يكون منه رِقٌّ للكافر، ولأن هذا يدخل في باب الدعوة إلى الله عز وجل، فإذا رأى الكفار من المسلمين هذه الأخلاقَ الطيبة والفاضلة، كان ذلك مدعاةً لدخولهم في الإسلام، فهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمَّة الله تعالى وذمَّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن اعتدى عليهم بنوعٍ من أنواع الأذيَّة، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى وذِمَّة رسوله؛ فعن صفوان بن سليم عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ألَا مَن ظلم معاهدًا أو انتقصه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئًا بغيرِ طيب نفس، فأنا حجيجه يوم القيامة))؛ صحيح أبي داود.


أمَّا مَن تعرَّض لهم بالقتل، فقد روى البخاري في صحيحه عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتَل معاهدًا، لم يَرَحْ رائحة الجنة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عامًا)).


ولنا في صحابة رسول الله أسوةٌ حسنة في فَهم مبدأ التعامل مع الكفار غير المعادين؛ فعن عقبة بن عامر الجهني: أنه مرَّ برجلٍ هيئته هيئة مسلم، فسلَّم، فردَّ عليه: وعليك ورحمة الله وبركاته، فقال له الغلام: إنه نصراني! فقام عقبة فتبعه حتى أدركه، فقال: "إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين، لكن أطال الله حياتك، وأكثر مالك، وولدك"؛ صحيح الأدب المفرد؛ فهذا إحسان وبِرٌّ ظاهري يندب إليه، شريطة ألا يصل إلى المودَّة الباطنة التي نُهينا عنها؛ من محبَّتِهم، ونُصرتهم، وإعانتهم على المسلمين.


نسأل الله أن يعصمنا بالتقوى، إنه قريب مجيب، وصلى الله على نبيِّنا محمد وعلى آله وسلم، والحمد لله رب العالمين.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.04 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.41 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.16%)]