المرحلة الجامعية من أخطر مراحل العمر.. فانتبهوا
مصطفى مهدي
فما لهم على هذه الحال يجلسون؟
ضرب الشَّيطان عليهم قبَّة الغواية، ففصلهم عن العالم الخارجي من حولهم، فهم لا يعون ما الذي هم فاعلون.
وأمَّا هؤلاء الآخَرون (الغلابة!)، الذين أرهقهم السفرُ من محافظات أخرى، وأتعبهم التغرّبُ عن بلادهم، ويريدون التسلُّح بما يجابهون به معارك الحياة، فيجلسون مُخبتين منتظرين ما سيدلي به المحاضِر لعلَّهم ينتفعون.
وفجأة يدخل المحاضر قائلاً: "صباح الخير، يلاَّ يا شباب كله مكانه"، فيجلس الكلّ رادًّا عليه "صباح النّور على البنّور" مكانه، وتُحَلّ الجماعات، وتسكت الأغاني، وتطفأ السَّجائر، ويصطفّ الجميع موجّهًا بصره تجاه المحاضِر الَّذي لم يعلِّق ولم يتفوَّه بكلمة على ما سمعتْ أذُنه، ورأت عيناه، وشمت أنفه، ثمَّ تبسَّم واستدبر الطّلاب مستقبلاً السبّورة ليكتب عنوان محاضرة اليوم: "الحرّيَّة كأحد المنطَلَقات الحضاريَّة وحاجة المجتمعات إليْها"...
وتنتهي المحاضرة وينصرِف المحاضر، وما أن ينصرف إلاَّ واستعادت الصورة السَّابقة مكانها في الوجود.
واعذرني فلن أستطيعَ اصطحابك إلى الحدائق والأماكن المستترة فيها، ولن أستطيع مرافقتك إلى الأدْوار العليا والأقسام ذات قاعات المحاضرات الهادئة قليلة العدد من الطَّلبة والمدرِّسين، ولن أستطيع إرشادَك إلى (جراج) السيَّارات وما يحدث فيها علنًا، وكذلك فلن أُخبرك عمَّا يَحدث، ولكن كلُّ ما يُمكن أن يبلغه عقلُك وتصوُّرك، فهو ذا!
فانظر - رحمك الله تعالى - إلى هذا المجتمع الذي تُشكَّل فيه عقلية وخلفية وشخصية أبنائنا الطلاب في هذه المرحلة الحاسمة من العمر، وانظُر إلى الكمّ الهائل من المغريات والفتن والشَّهوات والشّبهات التي تُلقى من كلّ حدب وصوب، فالمُجتمع نفسه وعناصره منحرفة؛ الأخلاق والأفكار والاتجاهات، فهيئة التَّدريس تُعَدّ إحدى نتائج ذلك المجتمع؛ ولكن في مرحلة متقدّمة سابقة، فهي اليوم تعمل بِمقتضى ميثاق الولاء لنحْو هذه المجتمعات المنحلَّة، الَّتي تحيا بين جنَبات المنتسبين للإسلام في الدول الإسلاميَّة.
وأمَّا المناهج، فحدّث ولا حرج: عريَّة عن الفضيلة، متدرِّعة بالانحراف الفكري، وهذه تُعَدّ النَّظرة العامَّة، والباعث على هذه الرّؤية أنَّ المناهج متأثّرة بالفكر الغربي، ومعلوم أنَّ الفكر الغربي لا يتوافق مع الإسلام؛ بل يَحمل كلَّ ما يخالف الإسلام عقيدةً وسلوكًا، ومن ثَمَّ ستكون المناهجُ على وَفق الرّؤية الغربيَّة، حتَّى ولو سلَّمنا جدلاً اشتِمال بعض المناهج الغربيَّة المصدر والمهيع على جانب من الفضائل والأخلاق، فهي ساترة عورتها باللّباس الغربي، متوشّحة بسَحب المجتمع الإسلامي في دوَّامة الثَّقافة الغربية الكالِحة.
فتأمَّل كيف يمكن لهذه الموارد الكدرة أن ترسم ملامح شخصيَّة شابّ المستقبل، ثمَّ انظر هل هذا من الممكن أن يحمل رسالة؟
هل من الممكن أن يتحمَّل المسؤوليَّة بأي صورة كانت؟
هل هذا سيسْتطيع أن يتخلَّص من الأكنَّة الَّتي أناخت برحْلها على قلب أُمَّته وسمعها وبصرها ولسانِها وفكرها، فضلاً عن أن يدفع ذلك عن نفسه؟
بالطبع لا.
إلاَّ أن ينجلي الصَّدأ بنور النبوَّة، وتبعث تلك الأشباح الميتة بروح الوحْي، ويتكاتف الجميع في التصدِّي لهذه الأمور الخطيرة بالإعداد الجيّد، الذي تنظم جبهاته على مناحٍ كلٌّ منها يمثل ثغرًا يُرمى منه سهامُ الإصلاح والتَّهذيب، والتخْلية والتَّحلية، فتصيب فؤاد تِلْكم الظُّلمات الَّتي ضربت توجُّهات شبابِنا.
وتلك الجبهات يمكن تَقْسيمُها إلى مرحلَتين، وهما:
أ- مرحلة ما قبل دخول الجامعة:
وهذه المرحلة تبدأ من قبل ذلك الوقْت بعام أو اثنين، يقوم الوالِدان خلالهما بشحْذ همم الأبناء، وتوجيههم إلى الجهة الَّتي يكون بها نصرة الإسلام وقضايا الأمَّة الإسلامية.
وبالطَّبع ليس القصد نصرة الإسلام من خلال العمل الشَّرعي والدَّعوة في الصورة التقليديَّة، ولكن من خلال لمْح توجهات الولد وكفاءته ومواهبه ومهاراته، الَّتي بها يؤهّل لخدمة دينه في المكان المناسب لقدرته الفطريَّة والكسبيَّة؛ فإنْ كان طبيبًا فليكن قدوة، وإن كان عاملاً فليكن أسوة.
فعلى الأسرة في هذه المرحلة واجبٌ كبير، يتمثَّل في تسْليح الولد بعددٍ من الأمور التي تقوِّم شخصيَّته وفكره، وتمثّل خطًّا دفاعيًّا لأيّ اعتداء فكْري أو ثقافي في معركتِه القادمة مع الحياة والمجتمع، وهذه الأمور تتمثَّل في:
1- الجانب الديني:
وهذا الخطّ الدفاعي هو الأكثر أهمّيَّة، وهو الَّذي يقود الولدَ في جَميع مراحل الحياة، وخصوصًا هذه المرحلة التي تعدّ مفترقًا لطرُق متشعّبة؛ فالإيمان بالله - سبحانه - والاستسلام لله - تعالى - والانقياد لأمره، ومراقبته في الحركات والسكنات، هو الذي يقود جند القِيَم والأخلاق والهدف في منطلقات المرْء المسلم، فلا بدَّ من اختِيار أحدِ النَّهجين: إمَّا سبيل رِضا الرَّحمن - عزَّ وجلَّ - وإمَّا سبيل تبعيَّة الشَّيطان - لعنه الله سبحانه.
2- الجانب الأخلاقي:
فالطَّالب يجب أن يتحلَّى بالفضيلة، وكذلك يهتمّ مَن حوله بالتحلِّي بها والدَّعوة إليها، فلتحرص الأسرة على بيان منقبة ذلك ومرْتبته عند الله - تعالى - وعند العقلاء من بني البشر، ولتهتمّ الأسرة بإمْداد الشَّابّ بما يحفظ عليه قلبَه وسمعَه وبصرَه من الأخلاق والقِيَم والسلوكيَّات والآداب، الَّتي يستطيعون بالتمسُّك بها مواجهةَ ضروب الانحِلال في المجتمع، الَّذي اقتربتْ ساعةُ الانضمام إليْه مع الفِرار منه.
3- الجانب النفْسي الغائي والتَّفريغي:
المقْصود بهذا العنوان هو أن يعلم المسلم أنَّه مطالب بأشياء في كلّ مرحلة من مراحل حياته تتناسب مع قدراته، ومن خلالها يقوم بنصرة ما خُلق من أجْله؛ من خلال العمل به والدَّعوة إليه؛ فالجانب الغائي هو الهدف الَّذي يُجعل أمام عينيْه ويُدفع إلى تحقيقه، ويُعلَّم أنه معقود عليه الآمال، فلا ينبغي أن يقصر، ولا أن يفرط، ولا أن يخذل؛ بل عليه التزام نهج الأبطال، وبذل الرجال، في تحقيق تِلْك الأهداف والآمال.
وأمَّا الجانب التفريغي، فهو أن يُرسم له الخطط الَّتي من خلالها يمكنه تفريغُ الطَّاقة البدنيَّة والفكريَّة، ولا يكون هناك مجال للوساوس والانحرافات التي يمليها سلطانُ الشباب في تلك المرحلة.
ب- مرحلة الدراسة الجامعية:
تعدُّ هذه المرحلة هي المعركةَ الحقيقيَّة بين ما تربَّى عليه المسلمُ من الدين والقيم، وغُرس فيه من المبادئ والأخلاق، وبين ذلك المجتمع المنحلّ الَّذي يُجلب بخيل الشيطان ورَجِله من كل حدب ينسلون، فتراهم يقذفونَه بالشَّهوات واللذَّات والشُّبُهات، من خلال النِّساء المتبرِّجات السَّافرات، اللاتي هنّ أقرب لكونهنَّ كالعاهرات من كونهنَّ كالطالبات، ومن خلال أصدقاء السوء من المدخنين والمدمنين للمخدرات والمسكرات والأفلام والأغاني والحفلات، وغير ذلك من النَّزوات والصبوات، ومن خلال المعلِّمين الذين لا يتمسَّكون بما يناسب مكانتهم، فيكونون قدوة صالحة في الهدي والسَّمت والدّلّ، ومن خلال المناهج التي تَحمل الدَّعْوى إلى التحرُّر من كلّ شيء حتى الدين.
فلا تعجبن - أخي الكريم وأختي الكريمة - من طرحي، ولا تظنّ أنّي أبالغ؛ بل تاللَّه إنَّه لغيض من فيض فيما يواجهه المسلم في هذه المرحلة.
فأنا أتكلَّم عن تجارب ومعايشة لكل نموذج من هذه النماذج التي أشرت إليها، فبالفعل التعامل معهم نوع من المعركة؛ لأنَّك إمَّا أن تنجو منهم، وإمَّا أن تلحق بهم، وفي الفِرار مجاهدة وتضحية ومشقَّة وبذل؛ فَلذلك تُعَد بالفعل معركةً شكَّل جبهتيها تراكمُ الانسلاخ من الإسلام شيئًا فشيئًا على مرّ العصور على جبهة، وعلى الأخرى الطّموح والسعي الحثيث إلى استعادة أمجاد الإسلام والمسلمين على أيْدي المخلصين من العاملين والدُّعاة إلى الإسلام.
اعلم - أخي الكريم - أنَّ هذه المرحلة تحتاج نوعًا من المراقبة والمتابعة، وإقامة الحوار والمناقشات مع الشباب، وحثّهم على تعْديل كلّ معوجّ بمراتب الإصلاح المعروفة والمقرَّرة شرعًا.
وكذلك تَحتاج بين الحين والآخر إلى التَّذكير بالمهامّ والآمال المرجوّ تحقيقُها، بالإضافة إلى سدّ ما يُمكن سدُّه من أبواب الشَّهوات والشُّبهات بصورة تجعل القلب ينْفر منها فلا تعصيه الجوارح.
كذلك التَّذكير بأنَّ غير المخلصين من عناصر ذلك المجتمع، قد فرَّطوا وخانوا الأمانة، وتخلَّوا عن حاجات أمَّتهم، ولم يعملوا بالنِّعَم الَّتي منَّ الله - تعالى - بها عليهم ولم يشكروها؛ بل كفروها واستعملوها في معصية الله - تعالى - فخسِروا أنفُسَهم، وتسبَّبوا في خسارة أمَّتهم.
وكذلك ربط الطَّالب بالصُّحْبة الطَّيبة الَّذين يذكِّرونه بالخير ويحثُّونه عليْه، ويدْعونه إليه - إلى الهدى ائتنا - وعلى ذلك فلا يُترك مجال إلاَّ ويضرب فيه بسهم، ولا يبقى له من القُوى شيء؛ فوقته وجهده وفِكْره وطاقته موزَّعةٌ بين دراسته وبيْته ومسجده وصحبة الخير، وهكذا إلى أن ينفض الشَّيطان منه يديه - بأمر الله تعالى.
وهكذا إلى أن تنتهي هذه المرْحلة، ولا تضرّ المسلم إلاَّ أذًى، فلا يكون لتلكم الفِتَن عليه من أثرٍ بإذن الله تعالى، ويخرج منها أشدَّ قوَّة وصلابة في الحقّ والإيمان به، والولاء له، والعمل به، والدعوة إليه، فإذا ثبت ونجا - بفضل الله تعالى - من هذه المرحلة الخطيرة، الَّتي يكون فيها في طَور الترقّي ولم تشتدَّ قواه، فنجاتُه بعد ذلك من الأمور التي ثبت نَجاحُها بالعادة والتَّجربة غالبًا.
ولا أجد ما أذيِّل به تلكم الكلمات إلاَّ ما يحلّي الموضوع ويزينه، ويكون أهمَّ ما فيه وأعظمه؛ ألا وهو قول الله - تعالى -: ﴿ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [العنكبوت: 68].