أدلة وجود النظم في القرآن
الشيخ مسعد أحمد الشايب
ملحوظات على المشهد والسورة:
1- هذا هو أكبر المشاهد في قصة سليمان عليه السلام وعدد آياته ثلاثون (30) آية؛ أي: ما يقرب من ثلث آيات السورة الكريمة[9]، ومن حيث الجمل والكلمات فالمشهد يزيد عن ثلث السورة؛ فهو تقريبًا تسعة وثلاثون (39) من عشرة ومائة (110) سطر تقريبًا؛ ولذا فهو حاكم على الطابع العام للسورة وليس محكومًا عليه، وقد قرن بهذا المشهد - في ثناياه - الحديث عن ملكة سبأ ودعوة سليمان لها ولقومها إلى توحيد الله.
2- مشهد القصة في معظمه يتحدث عن نعم الله تعالى على سليمان عليه السلام والمعجزات والغرائب والخوارق التي حباه الله بها من تعليم منطق الطير، واتخاذ الإنس والجن والطير جنودًا، ومعرفة منطق الحشرات، والكلام مع النملة، والحديث مع الهدهد وتكليفه بالمهمة الدعوية لمملكة سبأ، ونقل عرش ملكة سبأ، وبناء الصرح الممرد من قوارير.
3- اصطبغت السورة بالجو العام لمشهد قصة سليمان عليه السلام، فجاء الحديث بعد مطلع السورة عن موسى عليه السلام وبعض معجزاته من كلام الله سبحانه وتعالى له، وانقلاب عصاه ثعبانًا، وخروج يده من جيبه بيضاء من غير سوء، وبعد مشهد قصة سليمان عليه السلام ومشهد قصة صالح عليه السلام ومشهد قصة لوط عليه السلام نجد السورة تسير على نفس النهج من ذكر الغرائب والعجائب والخوارق التي لا يقدر عليها إلا الله سبحانه وتعالى، فتشير إلى الدابة التي تكلم الناس يوم القيامة، وإلى خروج الناس وحشرهم من قبورهم فزعين بالنفخ في الصور يوم القيامة، ثم الإشارة إلى زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة، والله أعلم.
وفي سورة سبأ:
يقول الله تعالى: ﴿ وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ * يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ * فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ ﴾ [سبأ: 12 - 14].
ملحوظتانِ على المشهد والسورة:
1- مِن أهم أغراض تلك السورة العظيمة إبطال أحوال أهل الشرك من اتخاذهم أصنامًا آلهة من دون الله سبحانه وتعالى، وتكذيبهم بالبعث، وباليوم الآخر وما فيه من أهوال وأحوال، وجحودهم بنعم الله عز وجل عليهم؛ لذلك كان من أهم أغراضها الحث على شكر نعم الله عز وجل، ولعل ما يرشد إلى ذلك ابتداؤها بحمد الله عز وجل وتعليل هذا الحمد بأنه سبحانه وتعالى له ما في السموات وما في الأرض، وعلمه بما يلج في الأرض وما يخرج منها وبما ينزل من السماء وما يعرج فيها، وتخلل ذلك إثبات الحمد له سبحانه وتعالى في الآخرة أيضًا، ويرشد إلى ذلك أيضًا ذكر قصة أهل سبأ وما كان من فتح الله عليهم، ثم ما كان من تبدل نعمهم بسبب جحودهم وعدم شكرهم الله سبحانه وتعالى؛ فقد كانوا مثلًا عظيمًا لسلب النعمة عن الجاحدين الكافرين؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ ﴾ [سبأ: 17] إشارة إلى ما كان من تبدل جنتيهم، وما كان من إرسال سيل العرم عليهم.
2- وقد جاء مشهد قصة سليمان عليه السلام ومن قبله مشهد قصة أبيه داود عليه السلام ومن بعده مشهد قصة أهل سبأ معترضًا بين إبطال أحوال أهل الشرك، وجاء مشهد قصة داود وسليمان عليهما السلام مصطبغًا بهذا الغرض، ألا وهو الحث على شكر نعم الله؛ فقد كانا مثلًا عظيمًا على إسباغ النعمة على الشاكرين؛ قال تعالى: ﴿ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ ﴾ [سبأ: 13]، والله أعلم.
وفي سورة (ص):
يقول الله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ * إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ * فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ * رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ * وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ * قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ * فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ * وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ * هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ﴾ [ص: 30 - 40].
ملحوظات على المشهد والسورة:
1- سبب نزول السورة ما رواه ابن عباس رضي الله عنه: (مرض أبو طالب، فأتته قريش، وأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوده، وعند رأسه مقعد رجل، فقام أبو جهل فقعد فيه، فقالوا: إن ابن أخيك يقع في آلهتنا، قال: ما شأن قومك يشكونك؟ قال: ((يا عم، أريدهم على كلمة واحدة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي العجم إليهم الجزية))، قال: ما هي؟ قال: ((لا إله إلا الله))، فقاموا، فقالوا: أجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ قال: ونزل: ﴿ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ ﴾ [ص: 1]، فقرأ حتى بلغ: ﴿ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ﴾ [ص: 5])[10].
2- مِن أغراض تلك السورة الكريمة توبيخ المشركين على تكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكبرهم على قبول ما أرسل به، وتهديدهم بمثل ما حل بالأمم المكذبة قبلهم، وأنهم إنما كذبوه لأنه جاء بتوحيد الله عز وجل، ولأنه اختص بالرسالة من دونهم، كما هو في سبب النزول، وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم عن تكذيبهم، وأن يقتدي بالرسل من قبله.
3- ابتدئ بذكر داود عليه السلام من الأنبياء الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم؛ لأن الله أعطاه ملكًا وسلطانًا لم يكن لآبائه؛ ففي ذكره إيماء إلى أن شأن النبي صلى الله عليه وسلم سيصير إلى العزة والسلطان، ولم يكن له سلف ولا جند؛ فقد كان حال النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بحال داود عليه السلام، وأدمج في خلال ذلك الإيماء إلى التحذير من الضجر في ذات الله تعالى، واتقاء مراعاة حظوظ النفس في سياسة الأمة، إبعادًا لرسوله صلى الله عليه وسلم عن مهاوي الخطأ والزلل، وتأديبًا له، وكان داود عليه السلام أيضًا قد صبر على ما لقيه من حسد شاول (طالوت) ملك إسرائيل إياه على انتصاره على جالوت ملك فلسطين[11].
4- جاءت قصة سليمان عليه السلام مكملة وتابعة لقصة داود عليه السلام؛ فهي بيان لنعمة أخرى من نعم الله عز وجل على داود عليه السلام، ومما يشهد لذلك أن جميع قصص السورة المجمل منها والمفصل بدأ بقوله تعالى: ﴿ وَاذْكُرْ ﴾، بينما بدأت قصة سليمان عليه السلام بقوله تعالى: ﴿ وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ ﴾ [ص: 30]، قال العلامة أبو السعود: (وعدم تصدير قصة سليمان بهذا العنوان (أي: اذكر)؛ لكمال الاتصال بينه وبين داود عليهما السلام)[12]؛ اهـ.
5- جاءت فاتحة السورة مناسبة لجميع أغراضها؛ إذ ابتدئت بالقسم بالقُرْآن الذي كذب به المشركون، وجاء المقسم عليه أن الذين كفروا في عزة وشقاق، وكل ما ذكر فيها من أحوال المكذبين سببه اعتزازهم وشقاقهم، ومن أحوال المؤمنين سببه ضد ذلك، والله أعلم.
رابعًا: مِن الأدلة أيضًا على وجود النظم في القُرْآن: العود على البدء (الختام بما كانت به البداية): فكثيرًا ما نرى السور القُرْآنية تبدأ بفاتحة ما، أو بقضية ما، أو معنى ما، ثم تنتقل من معنى إلى آخر، ومن قضية إلى أخرى، ثم نراها تعود إلى الفاتحة الأولى والمعنى الأول والقضية الأولى، وهذا التنقل بين المعاني والقضايا ثم العود إلى البداية ليس إلا لرابطة تجمع تلك القضايا؛ كسورة الحشر بدأت بالتسبيح وانتهت به، وكسورة الممتحنة بدأت بالنهي عن موالاة غير المسلمين وانتهت به أيضًا، والأمثلة كثيرة.
يقول الشيخ الفراهي: (إنى رأيتُ في ترتيب كلام الله - وله الحمد على ما أراني - أن الكلام ينجر من أمر إلى أمر، وكله جدير بأن يكون مقصدًا، فيشفي الصدور، ويجلو القلوب، ثم يعود إلى البدء فيصير كالحلقة... من عادة العرب وفطرة البلاغة أن ينجر الكلام من أمر إلى أمر، ومنه إلى أمر آخر، ثم يعود إلى الأول أو إلى الوسط حتى يعود للأول أو إلى ما يتصل به، وإذا كان المخاطب عالمًا بأسباب الكلام لم يشكل عليه نظمه)[13]؛ اهـ.
ولنضرب مثالًا على ذلك بسورة المزمل؛ فقد بدأت بنداء النبي صلى الله عليه وسلم وحثه على قيام الليل، فقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 1 - 4]، ثم خُتمت بخطابه صلى الله عليه وسلم وصحابته بقيام الليل أيضًا بعد أن خفف الله سبحانه وتعالى القيام والقراءة فيه للأغراض والظروف الحياتية والمعيشية، فقال تعالى: ﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المزمل: 20]، وبين البدء والختام كانت هناك قضايا، الهدف منها هو الهدف من قيام الليل، وهذا هو الرابط الذي يجمعها ويربطها بقيام الليل.
فقد كان بين البدء والختام الأمر بقراءة القُرْآن الكريم وترتيله؛ قال تعالى: ﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 4]، ولعل المقصود بذلك قراءته وترتيله في قيام الليل، ويشهد لذلك عطف ترتيل القُرْآن على قيام الليل (بالواو) التي هي لمطلق الجمع، ويشهد له أيضًا قوله تعالى: ﴿ إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وِطَاءً وَأَقْوَمُ قِيلًا ﴾ [المزمل: 6] على قراءة ابن عامر وأبي عمرو ﴿ وِطَاءً ﴾ بكسر الواو مع المد[14]، وهو مصدر واطأت فلانًا على كذا مواطأة، والمعنى أن القراءة في الليل يتواطأ فيها قلب المصلي ولسانه وسمعه على التفهم للقُرْآن والإحكام لتلاوته، ويشهد له أيضًا قوله تعالى في آواخر السورة: ﴿ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ ﴾ [المزمل: 20].
ثم كان الأمر بذكر الله، والانقطاع عن كل ما يَشغَل ويُلهي عن ذكره سبحانه وتعالى، وعن الأعمال التي تمنعه من قيام الليل ومهام النهار في نشر الدعوة ومحاجة المشركين، فقال تعالى: ﴿ وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا ﴾ [المزمل: 8].
ثم كان الأمر بالصبر على الأذى القولي للمشركين والمكذبين بالرسالة، والهجر الجميل لهم (ترك المخالطة بدون إيذاء أو انتقام، وليس ترك الدعوة إلى الله) فقال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا ﴾ [المزمل: 10].
ثم كان الأمر بعدم شَغْل البال بهم، وبعدم الرد عليهم، وانتظار عقوبتهم من الله سبحانه وتعالى، فقال تعالى: ﴿ وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا ﴾ [المزمل: 11].
وكل هذه الأوامر القُرْآنية مع الأمر بقيام الليل في أول السورة وختامها هدفها واحد وغايتها واحدة؛ هي تربية النبي صلى الله عليه وسلم وتقوية قلبه، وتزكية رُوحه وسريرته؛ ليقوى على القيام بأعباء النبوة وتكاليف الوحي والرسالة، وهكذا كان العودُ على البدء علَمًا من أعلام وجود النظم في القُرْآن.
خامسًا وسادسًا: مِن الأدلة على وجود النظم القُرْآني: التآلف والتعاضد بين آيات السورة الواحدة، كما تآلفت وتعاضدت وتشابهت السور القُرْآنية، كما بينت في الدليل الأول، وكذلك تكرار تعبير خاص في السورة القُرْآنية.
ولنضرب مثالًا على هذين الدليلين بسورة المرسلات:
فأقول: سورة المرسلات سورة مكية على رأي جمهور المفسرين؛ فقد نزلت خطابًا للكفرة والمشركين المكذبين بدعوته صلى الله عليه وسلم، وكان من أغراضها الاستدلال على وقوع البعث وإعادة الخلق يوم القيامة، ووعدت منكري ذلك بعذاب الآخرة، وتطرقت إلى شيء من أهواله؛ لذا نراها بدأت بقسَمٍ بمخلوقين من المخلوقات العلوية (الرياح والملائكة)[15] على أن ما توعدهم به الله سبحانه وتعالى من العقاب والجزاء بعد البعث لواقعٌ يوم القيامة؛ قال تعالى: ﴿ وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ [المرسلات: 1 - 7]، ولما أفاد سبحانه وتعالى وقوع البعث، وكان المشركون ينكرون وقوعه مستدلين على ذلك بعدم التعجيل بوقوعه - بيَّن لهم سبحانه وتعالى ما يسبقه من أهوال وأحوال زيادة في تهويلهم وإرعابهم، وإعلامًا لهم أن وقوع عقابهم وجزائهم مؤخر إلى حصول تلك الأهوال والأحوال العظيمة، وهذا الإخبار عن أمارات وقوع وحلول ما يوعدون هو تأكيد لوقوع وحلول ما يوعدون من العقاب والجزاء؛ ولذا عطفت هذه الآيات بالفاء التفريعية على القسم وجوابه، وختمت تلك الطائفة من الآيات بتهديد ووعيد، وهو قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 15]؛ أي: عذاب وهلاك حاصل للمكذبين بالقُرْآن ونبي القُرْآن إذا النجوم طُمست، وإذا السماء فُرجت، إلى آخر ما جاء من أهوال وأحوال، أمارات على الوقوع، وهي على ذلك جواب (إذا)، ومن المفسرين من جعل هذه الآية متأخرة وكان حقها التقديم، فتجعل استئنافًا (ابتداء الكلام) بقصد التهديد والوعيد للمشركين الذين يسمعون القُرْآن، وتهويلًا ليوم الفصل في نفوسهم ليحذروه، وهي متصلة في المعنى بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ ﴾ [المرسلات: 7]، وإنما قدم قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ [المرسلات: 8] وما بعده ليؤذن بمعنى الشرط؛ قال تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 8 - 15]، وتكررت (إذا) بعد حرف العطف (الواو) - مع إمكانية إغناء حرف العطف عنها - في أوائل الجُمل المعطوفة على قوله تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ [المرسلات: 8]؛ لإفادة الاهتمام بمضمون كل جملة من هذه الجمل؛ ليكون مضمونها مستقلًّا في جعله علامة على وقوع ما يوعدون[16].
ثم توجَّهت الآيات بخطاب مستأنف للمشركين الموجودين كله تهديد وتحذير معترض بين ما تقدم وبين خطاب أهل الشرك يوم الحشر، حيث ذكَّرهم سبحانه وتعالى بما أصاب به الأمم السابقة المكذبة، وأن ما أصاب السابقين سيقع أيضًا بالآخرين، وتلك سنَّتُه سبحانه وتعالى في عقاب المجرمين المكذبين، فقال تعالى: ﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ * كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ [المرسلات: 16 - 19].
وقد تكرر قوله تعالى: ﴿ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴾ في هذه الطائفة من الآيات أيضًا، فقيل: إن ذلك لمعنى التأكيد فقط، وقيل: بل في كل آية منها ما يقتضي التصديق، فجاء الوعد على التكذيب بذلك الذي في الآية.
قلت: وأنا أميل إلى الرأى الثاني وأرجحه، وإن كان التأكيد حسنًا شائعًا في كلام العرب، والقول في إعرابها كالقول في سابقتها، فإما أن تكون متأخرة وحقها التقديم والهدف من هذا التأخير أن تصير بمعنى التذييل، ويكون المعنى: عذاب وهلاك للمكذبين يوم يقال لهم: ﴿ أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ﴾ [المرسلات: 16]، وإما أن تكون جوابًا لقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ ﴾ [المرسلات: 8]، فتكون الآية تأكيدًا لفظيًّا لنظيرتها المتقدمة.
يتبع