الزواج المستحدث في ضوء المقاصد الشرعية
عبد الحي يوسف
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد.
أولاً: تعريفات
يلزم قبل الخوض في هذا الموضوع أن نعرف بأصلي هذا البحث وهما: الزواج والمقاصد.
أما الزواج فقد عرفه الفقهاء بتعريفات منها:
تعريف الحنفية بأنه مجموع إيجاب أحد المتكلمين مع قبول الآخر أو كلام الواحد القائم مقامهما، أعني متولي طرفي العقد[[1]].
وعند المالكية: عقد بين الرجل والمرأة، يبيح استمتاع كل منهما بالآخر، ويبيِّن ما لكل منهما من حقوق وما عليه من واجبات، ويقصد به حفظ النوع الإنساني[[2]]
وعند الشافعية: عقد يتضمن إباحة وطء بلفظ إنكاح أو تزويج أو ترجمته[[3]]
وقال الحنابلة: النكاح هو عقد التزويج، وهو حقيقة في العقد مجاز في الوطء[[4]].
وعرَّفه بعض المعاصرين بقوله: عقد يفيد حِلَّ العشرة بين الرجل والمرأة بما يحقق ما يتقاضاه الطبع الإنساني، وتعاونهما مدى الحياة، ويحدد ما لكليهما من حقوق وما عليه من واجبات[[5]].
وأما المقاصد فقد عرفها العلامة الطاهر بن عاشور -رحمه الله تعالى- بقوله: هي المعاني والحكم الملحوظة للشارع في جميع أحوال التشريع أو معظمها، بحيث لا تختص ملاحظتها بالكون في نوع خاص من أحكام الشريعة؛ فيدخل في هذا أوصاف الشريعة وغايتها العامة والمعاني التي لا يخلو التشريع عن ملاحظتها، ويدخل في هذا أيضاً معان من الحكم ليست ملحوظة في سائر أنواع الأحكام، ولكنها ملحوظة في أنواع كثيرة منها[[6]].
ثانياً: الترغيب في الزواج:
وقد رغَّب الإسلام في الزواج بصور متعددة الترغيب؛ فتارة يذكر أنه من سنن الأنبياء وهدى المرسلين، وأنهم القادة الذين يجب علينا أن نقتدي بهداهم: (ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجا وذرية)[[7]].
وتارة يذكر في معرض الامتنان: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات)[[8]].
وأحياناً يتحدث عن كونه آية من آيات الله: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون)[[9]].
وقد يتردد المرء في قبول الزواج، فيحجم عنه خوفاً من الاضطلاع بتكاليفه، وهروباً من احتمال أعبائه؛ فيلفت الإسلام نظره إلى أن الله سيجعل الزواج سبيلاً إلى الغنى، وأنه سيحمل عنه هذه الأعباء ويمده بالقوة التي تجعله قادراً على التغلب على أسباب الفقر: (وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم)[[10]].
وفي حديث الترمذي عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ثلاثة حق على الله عونهم، المجاهد في سبيل الله، والمكاتب الذي يريد الأداء، والناكح الذي يريد العفاف))[[11]].
ثالثاً: من مقاصد الزواج في الإسلام:
الإبقاء على النوع الإنساني، ومن هنا حرمت الشريعة الوأد والإجهاض وكل ما يؤدي إلى القضاء على النفس البشرية؛ والزواج هو أحسن وسيلة لإنجاب الأولاد وتكثير النسل، واستمرار الحياة مع المحافظة على الأنساب التي يوليها الإسلام عناية فائقة، وفي ذلك يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ((تزوجوا الودود الولود، فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة))[[12]].
إيجاد الأسرة السعيدة التي تتألف من الزوجين والأولاد:
الشعور بتبعة الزواج، ورعاية الأولاد يبعث على النشاط وبذل الوسع في تقوية ملكات الفرد ومواهبه؛ فينطلق إلى العمل من أجل النهوض بأعبائه، والقيام بواجبه؛ فيكثر الاستغلال وأسباب الاستثمار مما يزيد في تنمية الثروة وكثرة الإنتاج، ويدفع إلى استخراج خيرات الله من الكون وما أودع فيه من أشياء ومنافع للناس.
بالزواج يتوافر سبب من أكبر أسباب العفة، وحفظ الفرج عن الحرام، وحفظ العين عن النظر إلى الحرام؛ فإن الغريزة الجنسية من أقوى الغرائز وأعنفها، وهي تُلِحُّ على صاحبها دائماً في إيجاد مجال لها، فما لم يكن ثمة ما يشبعها، انتاب الإنسان الكثير من القلق والاضطراب، ونزعت به إلى شر منزع؛ والزواج هو أحسن وضع طبيعي، وأنسب مجال حيوي لإرواء الغريزة وإشباعها؛ فيهدأ البدن من الاضطراب، وتسكن النفس من الصراع، ويكف النظر عن التطلع إلى الحرام، وتطمئن العاطفة إلى ما أحل الله.
وبالزواج تحصل السكينة والاطمئنان لكل من الزوجين بصاحبه؛ لأن الله جعل بينهما مودة ورحمة.
وبالزواج يكثر عدد المسلمين تكاثرا شرعيًّا فيه الطهر والصلاح.
وبالزواج يخدم كل من الزوجين صاحبه حينما يقوم كل منهما بوظيفته التي تلائم طبيعته كما جعلها الله - سبحانه -؛ فالرجل يعمل خارج البيت ويكتسب المال لينفق على زوجته وأولاده، والزوجة تعمل داخل البيت، فهي تحمل وترضع، وتربي الأطفال، وتهيئ الطعام لزوجها والبيت والفراش، فإذا دخل متعباً مهموماً ذهب عنه التعب والهموم، واستأنس بزوجته وأولاده، وعاش الجميع في راحة وسرور[[13]].
ترابط الأسر، وتقوية أواصر المحبة بين العائلات، وتوكيد الصلات الاجتماعية وذلك من المقاصد التي يباركها الإسلام ويعضدها ويساندها؛ فإن المجتمع المترابط المتحاب هو المجتمع القوي السعيد[[14]].
رابعاً: نماذج للزواج المستحدث:
لا بد من التنبيه إلى أن بعض أنواع الزواج التي أذكرها هنا ليست حديثة بالمعنى المراد من الحداثة، وإنما حداثتها تتأتى باعتبار حال الناس في السودان، وطروء هذه الأنواع عليهم.
1- الزواج العرفي
وهي ظاهرة كثُر الحديث عنها في الأيام المتأخرة؛ وحقيقتها: اتفاق فتى وفتاة أو رجل وامرأة على الزواج دون علم ولي الفتاة مع جَعْلِ هذا الزواج سراً يتواطأ الزوجان والشهود على كتمانه، وهذه الصورة من الزواج - بالوصف الذي ذكرنا؛ لا يمكن عدُّها زواجاً شرعياً وذلك للاعتبارات التي نطقت بها الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة والعقل والواقع وتتمثل في الآتي:
1- أن علم الولي بهذا النكاح وإقراره إياه شرط في صحته، وقد ذهب إلى هذا على وعمر وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة وعائشة والحسن البصري وابن المسيب وابن شبرمة وابن أبى ليلى والعترة وأحمد وإسحاق والشافعي وجمهور أهل العلم: فقالوا لا يصح العقد بدون ولى. وقال ابن المنذر: إنه لا يُعرف عن أحد من الصحابة خلاف ذلك[[15]]؛ وذلك لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: ((لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل))[[16]].
وقوله -عليه الصلاة والسلام- ((أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل فنكاحها باطل فنكاحها باطل))[[17]].
وقوله صلى الله عليه وسلم ((لا تزوج المرأة المرأة ولا المرأة نفسها فإن العاهر هي التي تزوج نفسها))[[18]].
وربنا -سبحانه وتعالى- خاطب بالنكاح الأولياء ولم يخاطب النساء، فقال -سبحانه-: (ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا)[[19]] أي لا تُزوّجوهم، وقال -سبحانه-: (فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف)[[20]].
وسبب نزول الآية كما روى الإمام البخاري أن معقل بن يسار -رضي الله عنه- زوّج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فكانت عنده ما كانت، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت العدة؛ فهويها وهويته؛ ثم خطبها مع الخُطّاب؛ فقال له: يا لكع[[21]] أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها؛ والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك، قال: فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها؛ فأنزل الله -تبارك وتعالى-: (وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن إلى قوله وأنتم لا تعلمون)[[22]] فلما سمعها معقل قال: سمعاً لربي وطاعة؛ ثم دعاه فقال: أزوجك وأكرمك[[23]].
قال أبو عيسى الترمذي -رحمه الله تعالى-: وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا يجوز النكاح بغير ولي لأن أخت معقل بن يسار كانت ثيباً؛ فلو كان الأمر إليها دون وليها لزوجت نفسها ولم تحتج إلى وليها معقل بن يسار -رضي الله عنه- وإنما خاطب الله في هذه الآية الأولياء، فقال: لا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن ففي هذه الآية دلالة على أن الأمر إلى الأولياء في التزويج مع رضاهن[[24]] ا. هـ.
وقال ابن جرير الطبري -رحمه الله تعالى-: في هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال: لا نكاح إلا بولي من العَصَبَة؛ وذلك أن الله -تعالى- منع الوليَّ من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك؛ فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها؛ لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها؛ وذلك أنها إن كانت متى ما أرادت النكاح جاز لها إنكاح نفسها أو إنكاح من توكله إنكاحها؛ فلا عضل هنالك لها من أحد؛ فينهى عاضلها عن عضلها، وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقاً لا يصح عقده إلا به. ا. هـ [[25]].
2- أن الزواج الشرعي لا بد فيه من الإشهار وهو أهم من الإشهاد؛ ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ((أعلنوه في المساجد واضربوا عليه بالدفوف))[[26]].
وقال لعائشة -رضي الله عنها-: ((هلا أرسلت من يغنيهم أتيناكم أتيناكم))[[27]].
وأمر -عليه الصلاة والسلام- من تزوَّج أن يولم ولو بشاة[[28]].
كل هذا من أجل أن يحصل التفريق بين النكاح الذي مبدؤه الإعلان والإشهار وبين السفاح الذي مبدؤه الإخفاء والإسرار، وهذا الزواج العرفي كما أسموه، يقوم على الكتمان والتخفي، وقد قال -عليه الصلاة والسلام-: ((الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس))[[29]].
وفي موطأ مالك -رحمه الله- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أُتي بنكاح لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال: هذا نكاح السر ولو كنت تقدَّمت فيه لرجمت[[30]].
3- وهذا الزواج يتعلق به حق غير المتعاقدين وهو الولد فاشترط فيه الولي والشهود؛ لئلا يجحده أبوه فيضيع نسبه؛ والمقرَّر في فقه الحنفية أيضا أنه إذا خلا عقد الزواج من شهادة الشاهدين يكون عقداً فاسداً لفقده شرطاً من شروط الصحة وهو شهادة الشاهدين[[31]].
4- أن الغرض الأسمى من الزواج الشرعي يتمثل في حصول السكينة والمودة والرحمة كما قال ربنا -سبحانه وتعالى-: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)[[32]].
وكما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما))[[33]].
أي تدوم المودة والألفة، ومن أغراضه كذلك إيجاد الذرية الصالحة التي تعمر الأرض بطاعة الله، ومن أغراضه حصول التعارف بين الناس بالمصاهرة والنسب كما قال - سبحانه -: (وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسباً وصهراً)[[34]].
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل الزواج العرفي يتكفَّل بتحقيق تلك الغايات؟ أم أنه مجرد شهوة عارضة ونزوة عابرة؛ دون نظرٍ إلى مستقبل الأيام أو عملٍ على تحقيق مقاصد الشرع من ورائه؟ وكل منصف يعلم أن هذا الزواج مصيره إلى الفشل الذريع، وأن العداوة والبغضاء سرعان ما تدب بين الزوجين المزعومين وخاصة عند ظهور بوادر الحمل على الفتاة.
5- الزواج الشرعي يراد به الديمومة والاستمرار إلا إذا قدَّر الله أمراً آخر من وفاة أو طلاق، فهل الذي يُقدم على الزواج العرفي غرضه البقاء مع تلك الزوجة أم أنه يحصر نفسه في قضاء الوطر دون استعداد لتحمل أي مسئولية مادية أو معنوية؟
6- يقول النبي صلى الله عليه وسلم ((لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه))[[35]].
فنقول لمن يقع في مثل هذا الزواج الشائه ويفتي نفسه بحِلِّه: أترضاه لأختك؟ أترضاه لابنتك؟ أتحب أنك في بيتك، أو مشغول بتجارتك أو وظيفتك؛ فتتزوج ابنتك دون علمك؟ إن كنت لا ترضى هذا لنفسك فلمَ ترضاه لبنات المسلمين؟
7- يحلو لبعض الناس أن ينسبوا للإمام أبي حنيفة -رحمه الله تعالى- أنه يجيز للبنت أن تزوِّج نفسها قياساً على صحة تصرفها في مالها دون إذن وليها، وهذا القول فيه تفصيل ليس هذا مجاله، لكن جمهور العلماء الذين قالوا ببطلان النكاح دون إذن الولي أجابوا على ذلك من وجوه:
أولها: أن هذا القياس مردود بالقادح المعروف عند أهل الأصول بفساد الاعتبار لكونه وارداً في مقابل النص
ثانيها: أن هناك فرقاً مؤثراً بين الفرع المقيس والأصل المقيس عليه إذ العرض أغلى بكثير من المال
ثالثها: أن تصرُّفَ الفتاة في مالها يعود ضرره عليها وحدها، أما التصرف في العرض فإن الضرر يعم الأهل والعشيرة، فلا سواء ولا قريب[[36]].
تنبيه مهم
في بعض البلاد يطلق هذا اللفظ - أعني الزواج العرفي - على عقد شرعي صحيح لم يتم توثيقه لدى الجهات الرسمية؛ وذلك لموجب؛ كأن تكون المرأة أرملةً مُصْبِيَةً، ولأولادها معاشٌ يتقاضونه بعد وفاة أبيهم، والقانون يقضي بسقوط هذا المعاش متى ما تزوجت الأم، فهي راغبة في الزواج راهبة من ذهاب المعاش؛ لكون الزوج الجديد غير مستعد للنفقة على أولادها؛ فتلجأ إلى زواج شرعي فيه الولي والشهود وإشهار محدود؛ لتنال المصلحتين معاً، فتعف نفسها وتحصن فرجها، وفي الوقت نفسه يبقى المعاش قوتاً لأولادها وكفايةً لهم، وفي مثل هذا يفتي العلماء بأنه زواج صحيح مستكمل للشروط الشرعية، ففي فتاوى الأزهر سؤال: تزوج رجل ببنت - بكراً - بموجب عقد عُرفيِّ محرَّر بين الزوج والزوجة من نسختين بحضور شاهدين وهذا العقد عُمِلَ تمهيداً لتتميم عقد رسمي؛ ثم توفى الزوج المذكور ولم يدفع شيئاً من المهر ولم يدخل بها؛ فهل هذه الزوجة تُعتبر زوجة شرعية بموجب هذا العقد حيث أجرى من وكيل الزوجة والزوج المذكورين بإيجاب وقبول شرعيين على كتاب اللّه وسنة رسوله بحضور الشاهدين؟ وهل هذه الزوجة تستحق من تركة زوجها المتوفَّى كل المهر المسمَّى حيث إنها لم تقبض شيئاً من ذلك حال حياته؟ مع العلم بأنه لم يحصل طلاق قبل الدخول؟
الجواب: نفيد أولاً بأنه متى كان الحال كما ذُكر به؛ وحصل عقد الزواج مستوفياً جميع شروطه؛ كان هذا الزواج صحيحاً شرعياً يترتب عليه جميع الآثار التي للزواج الصحيح؛ ولا تتوقف صحته على تدوينه في وثيقة رسمية، وثانياً: أنه متى كان هذا الزواج صحيحاً فللزوجة كمال مهرها المسمَّى فلها أن تقبضه جميعه من تركته، وهذا حيث كان الحال كما ذُكِر بالسؤال، واللّه -تعالى- أعلم[[37]].
2- الزواج بنية الطلاق
وهذه القضية يكثر السؤال عنها؛ خاصة من قبل المبتعثين إلى بلاد تكثر فيها الفتن، وتشيع الفواحش، ويكون المقيم بها عُرضةً للوقوع فيما حرَّم الله تعالى؛ فهل يحل له أن يتزوج - زواجاً صحيحاً قد استوفى شروطه وأركانه - لكنه يُضمر في نفسه أنه متى ما انقضت مدته وانتهت مهمته في البلد التي ذهب إليها طلَّق تلك المرأة، وعاد إلى أهله؟
نقول: مذهب أكثر أهل العلم - في القديم والحديث - على صحة هذا الزواج، وأن صاحبه لا يأثم؛ لأن النية لا يطلع عليها إلا الله وقد تتغير؛ ولأن النكاح المستكمل للشروط المطلوبة لا يؤثر على صحته إلا ما دل على إنهاء العلاقة من لفظ أو كتابة أو إشارة من الأخرس، أما إضمار الطلاق أو نيته فلا يُعدُّ واحداً منهما طلاقاً ولا يؤثر على النكاح شرعاً؛ لما ثبت من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال ((إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدَّثت أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به))[[38]].
يقول الدردير -رحمه الله تعالى-: وحقيقة نكاح المتعة الذي يُفسخ أبدا أن يقع العقد مع ذكر الأجل للمرأة أو وليها، وأما إذا لم يقع ذلك في العقد، ولم يُعلمها الزوج بذلك، وإنما قصده في نفسه، وفهمت المرأة أو وليها المفارقة بعد مدة؛ فإنه لا يضر وهي فائدة تنفع المتغرِّب[[39]].
ولبعض العلماء من المحققين المعاصرين رأي يخالف ذلك باعتبار المآلات التي يؤدي إليها هذا النوع من النكاح، يقول الشيخ محمد رشيد رضا -رحمه الله تعالى-: هذا وإن تشديد علماء السلف والخلف في منع "المتعة" يقتضي منع النكاح بنية الطلاق، وإن كان الفقهاء يقولون إن عقد النكاح يكون صحيحاً إذا نوى الزوج التوقيت ولم يشترطه في صيغة العقد، ولكن كتمانه إياه يُعدُّ خداعاً وغشّاً، وهو أجدر بالبطلان من العقد الذي يُشترط فيه التوقيت الذي يكون بالتراضي بين الزوج والمرأة ووليها، ولا يكون فيه من المفسدة إلا العبث بهذه الرابطة العظيمة التي هي أعظم الروابط البشرية، وإيثار التنقل في مراتع الشهوات بين الذواقين والذواقات، وما يترتب على ذلك من المنكرات، وما لا يشترط فيه ذلك يكون على اشتماله على ذلك غشّاً وخداعاً تترتب عليه مفاسد أخرى من العداوة والبغضاء وذهاب الثقة حتى بالصادقين الذين يريدون بالزواج حقيقته؛ وهو إحصان كل من الزوجين للآخر وإخلاصه له، وتعاونهما على تأسيس بيت صالح من بيوت الأمة[[40]].
وللشيخ ابن عثيمين -رحمه الله تعالى- كلام مشابه في تحريم هذا الزواج حيث قال -رحمه الله-: ثم إن هذا القول أي القول بالجواز - قد يستغله ضعفاء الإيمان لأغراض سيئة؛ كما سمعنا أن بعض الناس صاروا يذهبون في العطلة أي في الإجازة من الدروس إلى بلاد أخرى؛ ليتزوجوا فقط بنية الطلاق، وحُكي لي أن بعضهم يتزوج عدة زواجات في هذه الإجازة فقط، فكأنهم ذهبوا ليقضوا وطرهم الذي يشبه أن يكون زنى والعياذ بالله، ومن أجل هذا نرى أنه حتى لو قيل بالجواز فإنه لا ينبغي أن يفتح الباب لأنه صار ذريعة إلى ما ذكرت لك؛ أما رأيي في ذلك فإني أقول: عقد النكاح من حيث هو عقد صحيح، لكن فيه غش وخداع، فهو يحرم من هذه الناحية؛ والغش والخداع هو أن الزوجة ووليها لو علما بنية هذا الزوج، وأن من نيته أن يستمتع بها ثم يطلقها ما زوَّجوه، فيكون في هذا غش وخداع لهم؛ فإن بيَّن لهم أنه يريد أن تبقى معه مدة بقائه في هذا البلد، واتفقوا على ذلك صار نكاحه متعة؛ لذلك أرى أنه حرام، لكن لو أن أحداً تجرَّأ ففعل فإن النكاح صحيح مع الإثم[[41]].
ومن أهل العلم من توسط بين القولين فأباح هذا النوع عند الضرورة؛ ففي فتاوى الأزهر: سؤال: هل يجوز خلال بعثة تعليمية خارج البلاد أن يتزوج الإنسان لمدة زمنية محددة ينتهي بعدها العقد أو يتم تجديده؟ الجواب: نكاح المتعة نكاح مؤقت ينتهي بانتهاء المدة المتعاقد عليها بدون طلاق، ولا توارث عند الموت وقد أحلَّه النبي -صلى الله عليه وسلم- لظرف طارئ ثم أبطله بعد زوال هذا الظرف واستمر باطلاً إلى يوم القيامة، وعلى نسخه جمهور أهل السنة، وقالوا: إن المقصود من الزواج هو الدوام والاستمرار حتى يكون هناك استقرار في الأسرة لتؤدي رسالتها من الرحمة والمودة والسكن وتربية النسل تربية نظيفة؛ والإمام أبو حنيفة قال: إن عقد الزواج إذا كان محدوداً بمدة معيَّنة عقد صحيح ولكن يُلغى التحديد ولا يُلتزم به، وفي "المغنى" لابن قدامة الحنبلي: لو تزوجها بغير شرط المدة إلا أن في نيته طلاقها بعد شهر، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد فالنكاح صحيح، وذلك لعدم الشرط في العقد؛ وإن تزوجها بشرط أن يطلقها في وقت معيَّن لم يصح النكاح.
ومن هذا ترى أن الزواج المؤقت بمدة مشروطة صحيح عند أبي حنيفة ويقع مؤبَّداً ويلغى الشرط، وصحيح عند الحنابلة إذا لم يذكر الشرط وكان في نية الزوج أن يطلقها بعد مدة، ولا ينتهي بمضي المدة كما هو في المتعة، لكن لابد فيه من الطلاق وله حكم الزواج العادي من حيث الميراث والنسب وسائر الحقوق؛ ويمكن الاستفادة بهذين الرأيين، ولكن عند الضرورة القصوى، وليس في كل حال، وعدمه أولى، والصبر والتفرغ للعمل أفضل[[42]].
وللشيخ محمد بن صالح المنجِّد -حفظه الله- كلام نفيس في الآثار السيئة التي تنتج عن هذا الزواج أنقله بنصه؛ حيث قال: ومَن أفتى من أهل العلم بإباحة ذلك إنما هو لمن يدرس أو يعمل في بلاد غربة ويخشى على نفسه الوقوع في الفاحشة، فهذا يتزوج ولو نوى أن يطلِّق فإنه قد يقدِّر الله بينهما أولاداً فيتعلق بهم وبأمِّهم، وقد يقدِّر الله بينهما عِشْرةً حَسَنَةً فيدوم زواجهما، وليست الفتوى لمن يتقصد السفر من أجل الزواج، وليست الفتوى فيمن يذهب ليلتين لبد فقير فيفض بكارة أنثى أو أكثر! ومن لم يستطع ضبط نفسه في سفر لمدة يومين وبعضها أعمال دعوية وخيرية فيحرم عليه السفر أصلاً، ولينظر العاقل في آثار ما يفتي به وما يفعله، وأثر ذلك على الإسلام، فإن الإسلام لم يُشوَّه من أعدائه بقدر ما شُوِّه من أهله بأفعالهم وأخلاقهم. فعلى المسلم الذي يسَّر الله له زوجة أو أكثر أن يحمد الله -تعالى-ويشكره، وعليه أن يلتفت لهنَّ ولأولاده، ليقوم بتعليمهم وتربيتهم التربية الإسلامية الحقة، لا أن يكفر هذه النعمة بترك زوجاته وأولاده دون إصلاح وتربية، ويبحث عن ملذات زائلة لا تقيم أسرة ولا تكسب سعادة، فضلاً عن تعرضه للظلم لنفسه ولزوجاته ولأولاده، ولا مانع من أن يتزوج زواجاً شرعيّاً، وقد أباح له الشرع أن يتزوج بأربع نسوة، لكن ليعلم أن الشرع قد رغَّبه بنكاح ذات الدين؛ لأنها ستكون عِرضه وأم ولده وحامية بيته وماله ومربية ولده، فلا يليق بالمسلم أن ينسى مقاصد الزواج وحِكَمه وأحكامه ليقوم بالبحث عن شهوة يقضيها هنا وهناك، ثم الأدهى أن ينسب فعله إلى الإسلام!! ولينظر هذا الزوج إلى آثار فعله من الكذب، وعدم إعطاء نسائه حقهنَّ، وعدم العدل بينهن وبين من يتزوجها، ثم لينظر لنفسه في حسن اختياره للزوجة التي ينوي طلاقها، وإذا أحسن الاختيار فلينظر إلى الأثر الذي سيخلفه وراءه عليها وعلى أهلها، ولينظر لنفسه على أنه مسلم يمثِّل الإسلام بأحكامه وأخلاقه، وخاصة إذا تعلق الأمر بالثقة بهيئته أو ظاهر استقامته، فإنه سيكون سبباً لنزع ثقة الناس بأمثاله، إن لم يؤدِّ إلى ما هو أعظم وأخطر.
وقد بلغنا من الآثار السيئة للزواج بنية الطلاق ما يجزم المرء المسلم أن لو وقف العلماء القائلون بإباحته على بعضها لكان لزاماً عليهم أن يمنعوا منه، أو يتوقفوا عن القول بإباحته على أقل تقدير، فبعض هؤلاء الزوجات اتُّهمت بعِرضها وشرفها بعد أن تزوجها مَن ظاهرُه الاستقامة، ثم لما قضى شهوته منها في فندق في بلدها أعطاها مؤخَّرها أو قليلاً من المال وأركبها سيارة أجرة إلى أهلها مطلِّقاً لها!! وبعضهن قد وثق أهلها بهذا "المستقيم في الظاهر" فسلَّمه ابنته عرضه دون عقد رسمي ثقة بأنه سيعقد عليها بوكالة في بلده، أو بعد أن يأتي بالتصريح! ثم يقضي شهوته معها ويرجعها إلى أهلها ثيباً بعد أن أخذها بكراً! فانظر أيها العاقل إلى موقف أهلها كيف سيكون أمام جيرانهم وأقربائهم؟ وماذا سيقولون لهم؟ وهل أصبح العِرض سيارةً تُستأجر وتُرجَع بعد انتهاء المدة؟! ألا يخشى هؤلاء أن يعاقبهم الله ببناتهم وأخواتهم؟! وبعض أولئك النسوة عندما علمت أن (مدتها) قد انتهت مع هذا الزوج توسلت له بأن لا يطلقها، وأن يأخذها لبلده كما أوهمها خادمة له ولنسائه ولأولاده! وأنها لو رجعت فستتعرض للسوء من أقربائها وجيرانها، وقد يؤدي ذلك لقتلها! وهذا "المستقيم في الظاهر" يرفض هذه التوسلات ويأبى الاستجابة لبكائها وتوسلاتها. وأخرى انتهت (مدتها) وطلَّقها زوجها، واتصل بأخيها ليأخذها لأهلها! فلم يكن منها إلا أن ادَّعت أمام الناس أنه توفي في حادث سيارة! حفاظاً على كرامتها وعرضها من مقالة السوء! فالله المستعان، وعليه التكلان، والله أعلم[[43]].
3- نكاح المتعة:
وهذا النوع ليس بمستحدث ولا جديد إلا باعتبار أن الناس في السودان -بحكم كونهم من أهل السنة- لم يعرفوا هذا النوع من النكاح، بل إن أكثرهم ما سمع به إلا متأخراً؛ حين ذرَّ الرافضة بقرنهم في هذه البلاد، وصار لهم أتباع يدعون إلى بدعتهم ويحاولون نشر مذهبهم؛ وحُقَّ لأهل هذه البلاد أن يقول قائلهم كما قال القاضي أبو بكر بن العربي -رحمه الله تعالى-: ولقد طوَّفت في الآفاق، ولقيت من علماء الإسلام، وأرباب المذاهب كلَّ صادق، فما سمعت لهذه المسألة بخبر، ولا أحسست لها بأثر، إلا الشيعة الذين يرون نكاح المتعة جائزاً، ولا يرون الطلاق واقعاً، ولذلك قال فيهم ابن سكرة الهاشمي:
يا من يرى المتعة في دينه حلاً وإن كانت بلا مهر.
ولا يرى تسعين تطليقة تُب *** ين منه ربة الخدر
من ههنا طابت مواليدكم فاغتن *** موها يا بني الفطر[[44]]
فما هو نكاح المتعة؟ وما حكمه؟ عرَّفه الحافظ ابن حجر -رحمه الله تعالى- بقوله: تزويج المرأة إلى أجل؛ فإذا انقضت وقعت الفرقة[[45]].
وقال ابن قدامة في المغني: معنى نكاح المتعة أن يتزوج المرأة مدة، مثل أن يقول: زوجتك ابنتي شهراً، أو سنة، أو إلى انقضاء الموسم، أو قدوم الحاج. ا. هـ[[46]].
وصورته أن يقول: أتمتع بكِ كذا مدة بكذا من المال[[47]].
قال الإمام الخطابي -رحمه الله تعالى-: تحريم نكاح المتعة كالإجماع بين المسلمين، وقد كان ذلك مباحاً في صدر الإسلام، ثم حرَّمه في حجة الوداع؛ فلم يَبْقَ اليوم فيه خلاف بين الأمة إلا شيئاً ذهب بعض الروافض[[48]].
وقال السندي -رحمه الله تعالى-: المتعة هي النكاح لأجل معلوم أو مجهول كقدوم زيد؛ سُمِّيَ بذلك لأن الغرض منها مجرد الاستمتاع دون التوالد وغيره من أغراض النكاح، وهي حرام بالكتاب والسنة، أما السنة فما ذكره المصنف وغيره، وأما الكتاب فقوله -تعالى-: (إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم)[[49]].
والمتمتَّع بها ليست واحدة منهما بالاتفاق؛ فلا تحل، أما أنها ليست بمملوكة فظاهر، وأما أنها ليست بزوجة فلأن الزواج له أحكام كالإرث وغيره، وهي منعدمة بالاتفاق[[50]].
يتبع