عصمة المجتهد
الشيخ وليد بن فهد الودعان
العِصمة: بكسر العين وسكون الصاد، أصلها في اللغة من عصم، وهو أصل يدل على إمساك ومنع وملازمة، فاعتصَم بالله: إذا امتنع به، وعصمه الله؛ أي: منَعه الله من سوء يقع فيه، واستعصم؛ أي: التجأ، وأعصمتُ فلانًا؛ أي: هيأتُ له شيئًا يعتصم به، ومنه قوله تعالى: ﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ﴾ [آل عمران: 103]؛ أي: تمسَّكوا بعهد الله، وعُصِم؛ أي: وُقِيَ ومُنِعَ.
والعصمة: الحفظ، واعتصم به؛ أي: امتنَع وأبى، ومنه قوله تعالى: ﴿ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف: 32]؛ أي: تأبَّى وامتَنَع، ولم يُجبْها إلى مطلوبها، ومنه:
فأشرَط فيها نَفْسه وهْو مُعصِمٌ ♦♦♦ وألقى بأسبابٍ له وتوكَّلَا[1]
والاعتصام بالكتاب والسنة؛ أي: ملازمتُهما، ومنعُ النفس عن اتباع سواهما[2].
وأما تعريف العصمة في الاصطلاح، فقد اختلف فيه[3]، وأحسن ما يقال في تعريفها أنها: مَلَكة إلهية تحمِل على اجتناب المعاصي مع التمكُّن منها[4].
وهذا التعريف قد حفظ لنا جانبين:
الأول: أن العصمة من توفيق الله، وإعانته للعبد، وبمشيئته النافذة.
الثاني: أن للعبد اختيارًا؛ فليس هو بمسلوب القدرة، كما أن فعله مؤثر في عصمته وامتناعه[5]، ولكن المراد بالعصمة هنا ما يشمل الامتناع عن المعاصي وعدم الوقوع في الخطأ العرَضي، وعلى هذا فيكون التعريف السابق إنما هو تعريف لجزء من المراد بالعصمة في هذا المبحث، وإذا ثبت المراد بالعصمة هنا، فهل يمكن أن تكون العصمة من أوصاف المجتهد أو لا؟ هذا ما سنبينه في هذا المطلب، ونوضح رأي الشَّاطبي في ذلك.
رأي الشَّاطبي:
يرى الشَّاطبي أنه لا عصمة للمجتهد، وأن العلماء المجتهدين قد يُخطِئون، بل ويقعون في المعاصي، وحينئذ فاتباع قول المجتهد وانقياد الناس إليه في الحكم إنما هو من حيث كونه مبلغًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو المبلغ عن الله تعالى، لا من جهة كونه معصومًا عن الخطأ.
قال الشَّاطبي في إثبات كون المجتهد يُتَّبَع إذا حكَم بمقتضى الشريعة، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم هو المنتصب للحكم مطلقًا: "وثبت ذلك له - عليه الصلاة والسلام - وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق؛ فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلَّت، فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث يحكم بمقتضاها[6] حتى يساوي النبي في الانتصاب للحكم بإطلاق، بل إنما يكون منتصبًا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة، بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم، لم يكن حاكمًا، إذا كان الغرض خارجًا عن مقتضى الشريعة الحاكمة، وهو أمر متفق عليه بين العلماء؛ ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردُّها إلى الشريعة؛ حيث ثبت الحق فيها؛ لقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ ﴾ [النساء: 59][7]".
وقال الشَّاطبي: "وأما أمته فكل واحد منهم غير معصوم، بل يجوز عليه الغلط والخطأ والنسيان، ويجوز أن تكون رؤياه حُلْمًا، وكشفه غير حقيقي، وإن تبين في الوجود صدقُه واعتيد ذلك فيه واطَّرد، فإمكان الخطأ والوهم باقٍ، وما كان هذا شأنَه، لم يصحَّ أن يُقطَعَ به حكمٌ"[8].
وقال: "لكن لما أن كان أفرادُ المجتهدين غيرَ معصومين من الخطأ، أمكن التعارضُ بين الأدلة عندهم"[9].
وقال: "... كاختلاف جمهور الأمة والإمامية[10]، وهم الذين يشترطون المعصوم، والحق مع السوادِ الأعظم الذي لا يشترط العصمةَ"[11].
والخطأ لا بد وأن يقع من المجتهد في اجتهاده؛ ولأجل ذلك حذَّر العلماء من زلة المجتهد[12].
وهذا مفيد فائدة لا شك فيها؛ أن المجتهد ليس معصومًا[13]، بل ذكر الشَّاطبي أن ممن زلَّ عن الدليل، وأعرض عنه، واعتمد على الرجال، وخرج بذلك عن جادَّة الحق واتباع السلف، واتبع بذلك هواه وشهوته، فضَلَّ وأضلَّ: فِرقةَ الإمامية؛ حيث اتبعوا ما يسمى بالإمام المعصوم، ولو جاء بمخالف لما جاء به النبي المعصوم حقًّا، وبذلك حكموا الرجال على الشريعة، ولم يحكموا الشريعة على الرجال، وإنما أنزل الشرع ليكون حاكمًا على الناس[14].
قال الشَّاطبي: "ومن أمثلته أن الإمامية من الشيعة تذهب إلى وضع خليفةٍ دون النبي صلى الله عليه وسلم، وتزعم أنه مِثل النبي صلى الله عليه وسلم في العصمة بناءً على أصل متوهَّم، فوضَعوه على أن الشريعة أبدًا مفتقرة إلى شرح وبيان لجميع المكلفين، إما بالمشافهة، أو بالنقل ممن شافَهَ المعصومَ، وإنما وضَعوا ذلك بحسب ما ظهر لهم بادئ الرأي في غير دليل عقلي ولا نقلي، بل بشُبهة زعموا أنها عقلية، وشبهة في النقل باطلة، إما في أصلها، وإما في تحقيق مناطها، وتحقيق ما يدَّعون وما يُرَد عليهم به مذكورٌ في كتب الأئمة"[15].
ووافق الشَّاطبيَّ على ذلك الجمهورُ، بل هو إجماع على القول بعدم اعتبار خلاف المبتدعة، لا سيما في مثل هذه المسائل القطعية، ويدل على الإجماع ما استفاض عن السلف من أقوال صريحة في عدم عصمة المجتهد، وكونه عُرضةً للخطأ، ومن ذلك ما استفاض عن بعض السلف من المقولة المشهورة: "ليس أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يؤخذ مِن قوله ويُترَك"[16]، وما ذلك إلا لأن جانب غيره لا يؤمن عليه من الوقوع في الخطأ، وأيضًا ما ورد عن كثير من الصحابة والسلف من الاعتراف بالخطأ[17].
وقال الباجي عن المجتهد: "ولا يجوز أن يقال: إنه معصوم؛ لأن ذلك خلاف دِين المسلمين"[18].
وقال السمعاني في أثناء تعليله لمسألة التفويض: "لأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان معصومًا من الخطأ، فيجوز أن يقال له: احكُمْ؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب، وهذا لا يوجد في حق غيره، فلم يؤمن خطؤه"[19].
وقال ابن تيمية: "واتفقوا كلهم على أنه ليس أحد معصومًا في كل ما يأمر به وينهى عنه، إلا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم"[20].
وقال الطوفي: "الفرق بينه وبين سائر المجتهدين عصمته وتأييده الإلهي دونهم"[21].
ويدل على ذلك أيضًا اتفاق الأصوليين على وقوع الخطأ من المجتهد في بعض الأوقات؛ كتقصيره في النظر، ونحو ذلك[22].
وقد صرح كثيرٌ من العلماء بأن المجتهد يخطئ، وهذا يفيد عدم عصمته[23]، كما صرح جماعة كثيرة من العلماء بعدم عصمة المجتهد[24].
وخالفه في ذلك بعض أهل البدع؛ كالشيعة؛ حيث قالوا بعصمة الأئمة[25]، بل نقله الطوسي عن كثير من الأمة، فقال: "وكثير من الأمة يقولون بعصمة الملائكة، والأئمة، وعصمة حواء، ومريم، وفاطمة"[26]، ونقل عن مويس بن عمران[27]، والنظام[28]، أنهما جوزا تفويض الحكم للمجتهد ووقوعه، بأن يقال له: احكُمْ؛ فإنك لا تحكم إلا بالصواب، وهذا يعني عصمته، إلا أن هذا القول قول شاذ لا يعوَّل عليه[29]، بل قال السمعاني: "إن هذا في غير الأنبياء لم يوجد، ولا يوجد توهمه في المستقبل"[30]، وقال الشوكاني: "وهل هذه المقالة إلا مجرد جهل بحت، ومجازفة ظاهرة؟!"[31].
أدلة الشَّاطبي ومن وافقه:
أشار الشَّاطبي إلى الاستدلال على أن المجتهد غير معصوم؛ وذلك أنه قرر أن العلم المعتبر شرعًا هو العلم الباعث على العمل، ثم أخذ في التدليل على ذلك، ثم ذكر اعتراضين على ما قرر:
أولهما: ما ثبت بالأدلة الشرعية من أن العلم لا يحفظ صاحبه عن الوقوع في المعاصي والزلل، ومن أمثلة ذلك:
قوله تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ﴾ [النمل: 14].
وقوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 146].
وقوله تعالى: ﴿ وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾ [المائدة: 43].
وقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 102]، والشاهد من هذه الآيات أنها أثبتت العلم لهؤلاء، إلا أن العلم لم يمنع من وقوعهم في الخطأ والمعاصي، بل وما هو أعظم من ذلك؛ كالضلال والكفر[32].
ثانيهما: ما ثبت في الأدلة الشرعية من ذمِّ علماء السوء:
كقوله تعالى: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ [البقرة: 44].
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى ﴾ [البقرة: 159].
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ [البقرة: 174].
وحديث: ((إن أشدَّ الناس عذابًا يوم القيامة عالمٌ لم ينفَعْه اللهُ بعِلمه))[33].
وحديث: ((أولُ مَن تُسعَّر بهم النار يوم القيامة ثلاثة))، وفيه: ((ورجلٌ تعلَّم العلم وعلَّمه، وقرأ القرآن، فأُتِيَ به فعرَّفه نعمه فعرَفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلمتُه، وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ، ولكنك تعلمتَ العلم ليقال: عالم، وقرأت القرآن ليقال: هو قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فسحب على وجهه حتى ألقي في النار))[34].
ثم أجاب الشَّاطبي عن هذين الاعتراضين بما يُثبت عدمَ عصمةِ المجتهد، فذكر أن الرسوخ في العلم ينافي مخالفة الأدلة؛ كما قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الزمر: 9].
وقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾ [فاطر: 28].
إلى غيرِ ذلك من الأدلة[35]، ويدل على ذلك التجرِبة العادية؛ لأن ما صار كالوصف الثابت لا يتصرَّف صاحبه إلا على وَفْقه في المعتاد، فإن تخلَّف فالأمور ثلاثة:
أولها: العناد؛ كما قال تعالى: ﴿ وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ﴾ [النمل: 14].
وقوله تعالى: ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ ﴾ [البقرة: 109].
وغالبًا ما يكون هذا إلا لغلَبةِ الهوى على القلب، وحبِّ الدنيا أو الجاه.
وثانيها: الزلة الناشئة عن الغفلة، التي لا ينجو منها بشر، فيصير العالم بدخول الغفلة غيرَ عالم، ويشهد لذلك - على قولٍ - قولُه تعالى: ﴿ إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ ﴾ [النساء: 17]، وقوله تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201].
وهذا لا يُعتَرَض به على القاعدة المقررة، كما لا يقال للإنسان إذا غفَل عن سمع أو بصر: إنه غيرُ مجبول على السمع والإبصار.
ثالثها: كونه ليس من أهل هذه المرتبة، فلم يصِرِ العلم له وصفًا، أو كالوصف، وهذا راجع إلى غلط في اعتقاد العالم في نفسه، أو اعتقاد غيره فيه، ويدل عليه قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ ﴾ [القصص: 50].
وفي الحديث: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعًا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبقِ عالمًا اتخذ الناس رؤوسًا جهالًا، فسئلوا، فأفتوا بغير علم؛ فضلُّوا وأضلُّوا))[36].
يتبع