عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-11-2020, 07:47 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 157,763
الدولة : Egypt
افتراضي رد: نور البيان في مقاصد سور القرآن: سورة البقرة

نور البيان في مقاصد سور القرآن: سورة البقرة
أحمد الجوهري عبد الجواد






«فإن أخذها بركة»: من قرأها في خلال هذين الأسبوعين الماضيين كما تواصينا.
من لم يدرك، فليقرأها هذا الأسبوع، وليَنْوِ حفظها، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، يندم الإنسان في مواقف كثيرة حين يصيبه أذًى، لو أنه كان يحفظ سورة البقرة، لو كان يأخذها ويقرأها، لحفظه الله تعالى، حينما لا يرى بركةً في حياته، يندم لو كان عاقلًا، لو أني أخذت سورة البقرة، لبورك لي في مالي وولدي وصحتي وحياتي وعمري، وهكذا.


«وتركها حسرة، ولا تستطيعها البطلة»، وهذا مرض نستطيع أن نسميه مرض العصر، مرض داهم غاشم عام في كثير من البيوت، وأكثر منها من الأشخاص، عافانا الله والمسلمين.



الأسحار والأعمال والمس الشيطاني، أنكره من أنكره، وأقر به من أقره، لكنه واقع، والناس يحسونه ويعانون منه، ولا مجال لإنكاره، فقد صار واقعًا يعيشه الناس، ويعانون منه الأَمَرَّيْن [17].


سورة البقرة حصانة من هذا الشر العظيم، من هذا المرض الخطير، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في فضل سورة البقرة: ((من قرأها في بيته ليلًا لم يدخل الشيطان بيته ثلاث ليال، ومن قرأها نهارًا لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيام)) [18]، يمتد مفعولها إلى ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ؛ إذًا ممكن تقرأ في الأسبوع مرتين فقط، ويحفظ الله بها البيت.


لا تقل بعد ذلك: نعلق حدوة حصان، أو سنبلة قمح، أو خرزةً زرقاء ... أو نحو ذلك من التمائم الباطلة الشيطانية التي يتعلق بها كثير من الناس؛ إنما من أراد حصانةً، فليقرأ سورة البقرة على الأقل مرتين في الأسبوع، يحفظ الله بيته بمن فيه بفضل الله تعالى، واقرأها في ليل أو نهار، كل ذلك متاح لك.


سورة البقرة هي أكبر سورة، وأطول سورة في القرآن كله، وفيها أعظم آية في القرآن، وهي آية الكرسي: ﴿ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ [البقرة: 255]، آية جليلة عظيمة فيها تقديس وتعظيم لله رب العالمين.

في سورة البقرة أطول آية في القرآن كله، ما من آية في طولها، ألا وهي آية الدين أو المداينة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ [البقرة: 282].

في سورة البقرة آخر آية أنزلت من القرآن مطلقًا، ولم ينزل بعدها شيء من القرآن؛ كانت ختام كلام الله لنا في القرآن الكريم، نزلت وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام بعدها بليال؛ هي الآية الخامسة والثمانون بعد المائتين؛ الآية بعد آيات الربا، وقبل آية الدين: ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 281] [19]، الآية الثمانون بعد المائتين.

هكذا لهذه السورة فضائل عظيمة، وفضائل جليلة، وهدفها لخصه بعض العلماء في كلمتين مع طولها، مع عظمها لخصها العلماء في سطر، قال: تدور سورة البقرة حول محورين اثنين، وتركز على نقطتين اثنتين، وكأنها تخاطبنا نحن المسلمين والعالمين من حولنا في هذه الأمة منذ بعثة النبي عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، تخاطب جميع الناس الموجودين بأمرين اثنين:
الأول: أن بني إسرائيل حملوا رسالة الله، فلم يحملوها، فصاروا كالأنعام، بل هم أضل، وأنتم أيتها الأمة الخاتمة - هذا هو الأمر الآخر - أيتها الأمة الخاتمة حملتم رسالة الله من بعدهم، فلا تكونوا مثلهم، واحذروا أن تفعلوا فعلهم وخذوا الكتاب بقوة.

هذا ملخص السورة، ولذلك كما قلنا في البداية: تجد فيها حديثًا طويلًا من أولها إلى آخرها عن بني إسرائيل، وقبحهم وجرائمهم، وكذلك تجد فيها تكليفات عظيمة، معظم أركان الإسلام - إن لم تكن كلها - موجودة في سورة البقرة، فقد أمر الله فيها بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وفرض فيها الصيام، وفرض فيها الحج؛ قال تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ﴾ [البقرة: 43، 83، 110، والنساء: 77، والنور: 65، والمزمل: 20]، وقال سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ [البقرة: 183]، وقال تعالى: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [البقرة: 196]، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ﴾ [البقرة: 178]، وهكذا فرائض عظيمة.

وفيها تحريم الربا التحريم القاطع: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ﴾ [البقرة: 278، 279]، سورة بعظمها تدور حول هذين الأمرين:
بنو إسرائيل كانوا قبلكم متنازلين أو معرضين عن شريعة الله، ولم يحملوها كما ينبغي، بل حرَّفوها وبدَّلوها واستهانوا بها، وأهانوا مَن بلَّغهم إياها من الرسل: ﴿فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا﴾ [الأحزاب: 26]، هذا من الأنبياء يفعلون بهم هكذا: قتل وأسر.

الأمر الآخر أنتم أيتها الأمة الأخيرة أيتها الأمة الخيرة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]؛ احرصوا على شريعة الله، فلا تضيعوها، ولا تُفوتوها، ولا تلقوها كما ألقاها بنو إسرائيل؛ إذا جاءكم الأمر، فقولوا: سمعنا وأطعنا، ولا تقولوا - كما قالت بنو إسرائيل لموسى -: سمِعنا وعصِينا.

هذا مع أن سورة البقرة مدنية، وسورة الفاتحة مكية، وسورة آل عمران بعدها مدنية؛ إلا أن سور القرآن كلها كالعقد الواحد متناسبةً؛ فإن سورة الفاتحة جاء فيها قول الله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6].

فصل الله مضمون هذا الصراط في سورة البقرة، وماذا علينا أن نفعل؟ حتى ذكر لنا القبلة التي نتوجه إليها؛ الصلاة التي نؤديها، الصيام، الحج، القصاص، المحرم من الربا، أحكام النساء، أحكام اجتماعية، وأحوال شخصية في الطلاق ونحو ذلك، فصل الله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة: 6]، وبالتالي فهذا تفسير لقوله أيضًا: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة: 5].

في سورة البقرة تفصيل آخر لشيء ورد في سورة الفاتحة مجملًا، تقول دائمًا في سورة الفاتحة - وأنت تقرؤها -: ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ [الفاتحة: 7]، فذكر الله لك في أول السورة أول فريق: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ...﴾ [البقرة: 2، 3] إلى آخره: ﴿أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة: 5]، وذكر المغضوب عليهم - وهم اليهود - وفصَّل القول فيهم، كما قلنا على طول السورة بجرائمهم الكثيرة المتعددة.

سورة البقرة أخيرًا، وليس آخرًا، فالكلام فيها كثير، وتعلمون حجمها وكبرها وعظمها، فلا نستطيع أن نوفيَها حقها، لكنها إشارات نسأل الله أن تكون وافيةً ونافعةً.

سورة البقرة لمح فيها بعض العلماء لمحةً جميلةً؛ حتى سموها أو قالوا فيها: إنها تدور حول موضوع البعث؛ تدور حول موضوع بعث الله للموتى، وإحيائه لهم يوم القيامة، مع أن هذا الموضوع موضوع السور المكية يظهر فيها كثيرًا جدًّا؛ لكن فعلًا سورة البقرة لم تبعد عن هذا الموضوع، بل ذكرت فيه وقائع عدة، ففي أولها ذكر الله تعالى قصة البقرة، وفي ضمنها من خلال السنة قصة القتيل الذي أحياه الله في بني إسرائيل، ويقول الله تعالى: ﴿فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [البقرة: 73]، وذكر فيها عن بني إسرائيل حينما قالوا: أرنا الله جهرةً أهلكهم الله تبارك وتعالى، ثم قال: ﴿ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [البقرة: 56].

ذكر الله تعالى قصة الرجل الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها؛ أعلاها في أدناها، وأدناها في أعلاها؛ ساقطة ميتة لا حياة فيها؛ فقال - من باب العجب، وليس من باب الإنكار، من باب التعجب من عظمة قدرة الله تعالى -: ﴿قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا﴾ [البقرة: 259]، سبحان الله؛ يعني: كيف يحيي الله هذه بعد موتها، كأنه يحب أن يرى هذه الآية: ﴿فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ [البقرة: 259]؛ إنه كان ميتًا لا يعد الأيام، فقال: لبثت يومًا أو بعض يوم: ﴿قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ...﴾ [البقرة: 259] إلى آخر الآية.

وفيها أيضًا موقف مع سيدنا إبراهيم عليه السلام فيما يتصل بإحياء الموتى: ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى﴾ [البقرة: 260]؛ ليس شكًّا من إبراهيم، ولكنه يريد أن يرتقي من علم اليقين إلى عين اليقين؛ أن يرى بعينه من جمال هذه الآية وروعتها كيف هذا الميت يُحيا من جديد بعد أن مات، مات، ليست سكتةً مؤقتةً أو مفاجئةً، وإنما موت محقق: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى﴾ [البقرة: 260]؛ أي: أنا مؤمن والحمد لله: ﴿وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ [البقرة: 260]، أُريد طمأنينةً أكثر، وعلمًا أزيدَ، فأعطاه الله آيةً ملخصها: ﴿فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ [البقرة: 260]، كل طير من صنف؛ أي: أنواع من أنواع الطير: ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ [البقرة: 260]؛ أي: اذبحهنَّ ودق لحمهنَّ وعظامهنَّ في كتلة واحدة مختلطة، فتداخلت اللحوم والعظام من هذه الطيور الأربعة المختلفة الأنواع، ثم قسم هذه الكتلة من اللحم والعظم أربعة أقسام، وضع كل قطعة منها على رأس جبل، وهذه القطعة مختلطة من لحم عصفور على لحم كذا على لحم، الله يعلم ماذا كانت الأنواع؟ ولا يهمنا أن نعرفها، ولكن هذه القطعة الواحدة مختلطة: ﴿ثُمَّ ادْعُهُنَّ﴾ [البقرة: 260]؛ أي: نادِ عليهن: ﴿يَأْتِينَكَ سَعْيًا﴾ [البقرة: 260]، وقد فعل إبراهيم هذا ونادى على الطيور، فعادت من جديد تطير إليه وتلبي نداءه بقدرة الله سبحانه وتعالى الذي وعد ببعث العباد يوم القيامة؛ ليدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات، وليدخل الذين كفروا النار وبئس المصير.

نسأل الله تبارك وتعالى أن يكون لنا فيما أفاض علينا من فضله وفيضه - أوفر الحظ والنصيب من النفع والعلم والعمل الصالح، اللهم آمين، اللهم علِّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، ونعوذ بك من علم لا ينفع.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد، فأوصيكم عباد الله بتقوى الله العظيم، ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي من عصيانه تعالى، ومخالفة أمره؛ فهو القائل سبحانه وتعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [فصلت: 46].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين، وذريته وأهل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
أما بعد:
فيا أيها الأحبة الكرام، لا تنسوا محور السورة، ومقصود السورة؛ فهذا هو الذي نسعى إلى معرفته، نسأل الله أن يهدينا إليه هدايةً رشيدةً، وأن ينفعنا به، وعرفنا أن مقصود هذه السورة أن ننظر إلى تاريخ بني إسرائيل على أنهم عصاة لله؛ على أنهم هم المغضوب عليهم؛ هكذا باؤوا بغضب على غضب، كما حدثنا الله في سورة البقرة، هم الذين قالوا لنبي الله موسى عليه السلام: ﴿سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا﴾ [البقرة: 93]، هم الذين قالوا له: ﴿فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ﴾ [المائدة: 24].

أخي المسلم، هل ترضى لنفسك أن تكون من هؤلاء العصاة؟!
هل ترضى لنفسك أن تبوء - عافاك الله وإياي - بغضب من الله؟
هل يرضى عاقل لنفسه هذا؟

هذا مثال بين أيدينا، فلنحذر منه، ولنحذر من مثله ومن فعله، هل لو كان نبي الله عليه الصلاة والسلام بين أيدينا قائمًا يأمرنا وينهانا، يكلفنا ويدلنا ويهدينا؛ أكنا نقول له: سمعنا وأطعنا، أو سمعنا وعصينا؟!

تختم سورة البقرة في خواتيمها بهذا الموقف الجليل، حينما قال الله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284]، معنى هذه الآية: أن الله تعالى يحاسبنا على خطرات القلب، وعلى خواطر النفس، وعلى الأشياء التي تخطر ببالنا دون أن نتكلم بها، أو نعزم نيةً عليها، أو نفعلها، مجرد أن يمر خاطر على قلبي من خير أو شر؛ الله يحاسبني عليه، نظهره ونبديه، أو نخفيه ونُكنه في صدورنا.

لما سمع الصحابة هذه الآية وجدوها ثقيلةً عليهم لا يُطيقونها؛ لأن حديث النفس يأتي إلى أحدنا رغمًا عنه، ليس بإرادته ولا اختياره، قد يكون الإنسان في صلاة أو في عبادة، أو في جلسة مباحة ويأتيه خاطر سوء، ولا يقوم له ولا يعتبر به، ولكنه يخطر بباله، يحاسبك الله عليه، وجد الصحابة أن هذا الأمر شاق جدًّا، فمَن منا يتحمل؟!

فذهبوا إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وأشاروا له بأنهم على فزع عظيم وخوف جليل، فلم يقفوا بين يديه وقوفًا، وإنما نزلوا على ركبهم، وقفوا على ركبهم، وهذه الجلسة عند العرب تشير إلى أن هذا الإنسان وراءه ما يُفزعه، وراءه خطر عظيم، وأرادوا أن يظهروا مدى الهول الذي يشعرون به؛ فجلسوا هذا الجلوس، وهذه الهيئة، ثم قالوا: «أي رسول الله، كلفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها»، يا رسول الله، أمرنا بالصلاة فصلينا، وبالصيام فصمنا، وفي رواية: وبالصدقة فتصدقنا، ونزلت هذه الآية ولا نطيقها، لا نقدر عليها، فإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يربي الأمة ولا يملك أن يتكلم من عند نفسه، ولا أن يقترح على ربه، قال لهم - معلمًا إياهم -: ((أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا)) [20]، فساعتها أدركوا وأطاعوا.

انظر أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ما شاء الله منتهى الطاعة؛ حتى وإن كان التكليف صعبًا؛ ليس ذبح بقرة من الأبقار، أو غنمة من الغنم، لا، إنه تكليف صعب فوق طاقة الإنسان، ومع ذلك قالوا: ﴿مِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]؛ يعني: يا ربنا اغفر لنا جرأتنا على رسولك، اعتراضنا على هذه الآية؛ فقد وقعنا في خطر وخطأ عظيم، اغفر لنا يا رب: ﴿ مِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ﴾؛ لما كانت هذه الكلمة جليلةً جدًّا، وعظيمةً جدًّا عند الله تعالى، وكان هذا الموقف موقفًا إيمانيًّا لا مثيل له - سجَّله الله في القرآن تشريفًا لأصحابه، وذكرى طيبة عاطرة لأربابه الذين قاموا به صادقين أمام النبي عليه الصلاة والسلام، فصرنا نقرؤه إلى أن تقوم الساعة: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285]، والدين يسر، وإن كان التكليف صعبًا سيأتي اليسر لا محالة، ولا يسر إلا بعد عسر، وبمجرد أن قالوا هذا، أنزل الله الوحي بنسخ الحكم الأول [21]، وكأنه كان يختبر إيمانهم؛ أتقبلون أم تعترضون؟ فلما قبلوا، لم ينتظر عليهم؛ ليعملوا إنما فاجأهم وعاجلهم بالفرج، نزل قول الله تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] إلى آخر الدعاء في السورة وختام السورة.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم في معنى هذا التخفيف وهذه الرحمة الناسخة لما سبق، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله تجاوز عن أمتي ما حدَّثت به أنفسها)) [22]؛ يعني: حديث النفس؛ هذا الخواطر عفا الله عنها، ما عدنا نحاسب عليها بحمد الله، بسبب إيمان وتصديق الصحابة واستسلامهم رضي الله عنهم، نزل هذا التخفيف عليهم، ولنا من بعدهم، جزاهم الله عنا خير الجزاء.

إذًا أحبتي أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، اقْبَلوا الدين وإن بدا شديدًا، وإن بدا صعبًا، لكنه في حقيقته يسر، وفي عاقبته يسر: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 5]، هكذا قال الله تعالى في القرآن: ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185].

أيها الكرام الأفاضل، لا تنسوا هذا الدرس، فإن درس آل عمران إن شاء الله سوف يأتي ويغطي عليه، فاحتفظ لذلك بشيء عندك، عد إلى البيت واكتب ما تذكر من الخطبة، احتفظ بشريط يحفظ لك هذه الخطبة، فقد ساق الله - ليس مني، ولكن منه هو على لساني فقط - لكم رزقًا، نسأل الله أن يكون نافعًا، لا تتركه يُنسى بآل عمران والنساء وما بعدها، فكل علم ينسي الإنسان ما قبله ويغطي عليه، هذا شأن العلم، فلذلك لا بد أن ندوِّن هذه العلوم، وأن نحفظها عندنا؛ لعلها تنفعنا يومًا من الأيام نتذكرها، أو تنفع من بعدنا، وخير ما نورثه لأولادنا وأهلينا علمٌ يُنتفع به.

وفقنا الله وإياكم لما فيه الخير، ومع سلسلتنا المباركة إن شاء الله تعالى نلتقي، ونسأل الله في ختام هذا الموقف أن يغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسررنا وما أعلنا، اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار، اللهم إنا مقبلون على كتابك نتدبره ونتفهمه ونتعلمه، فاللهم علِّمنا منه ما ينفعنا، وذكِّرنا منه ما نُسِّينا، اللهم حفظنا القرآن يا رب العالمين، اللهم ارزقنا القرآن حفظًا وتلاوةً وفقهًا وعملًا، واجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته، اللهم ارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، اجعلنا ممن يقيمون حروفه وحدوده، ولا تجعلنا ممن يقيمون حروفه ولا يقيمون حدوده، اللهم لا تجعلنا ممن لا يقيمون حدود القرآن، اللهم لا تجعلنا ممن لا يقيمون حدود القرآن، وإن أقاموا حروفه وجملوا أصواتهم، اللهم اجعلنا من أهل القرآن الطائعين الذكَّارين الشَّكَّارين يا رب العالمين، وانفعنا بالقرآن أحياءً وأمواتًا، ويوم تبعث العباد، أدخلنا به الجنة، ورَقِّنا به في منازل الجنة، حتى نصعد إلى الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

اغفر اللهم للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات؛ إنك سميع قريب مجيب الدعوات ورافع الدرجات.
اجعل اللهم خير أعمالنا خواتيمها، وخير أعمالنا أواخرها، وأوسع أرزاقنا عند كِبر سننا، وخير أيامنا يوم نلقاك يا أرحم الراحمين.
عباد الله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل: 90]، اذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم... وأقم الصلاة.


[1] قال السيوطي: "وقد ثبتت جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار، ولولا خشية الإطالة لبيَّنت ذلك"؛ الإتقان: 1/ 186، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن: 2/ 276.

[2] قال الطيبي: فإن قلت: هل يجوز أن يقال: قرأت سورة البقرة، أو قرأت البقرة؟ قلت: لا بأس بذلك، وقد جاء في حديث النبي؛ فتوح الغيب: 3/ 583.

[3] ضعيف، رواه الطبراني في الأوسط: 6/47، برقم (5755)، عن أنس بن مالك، ولفظه: «لا تقولوا سورة البقرة، ولا سورة آل عمران، ولا سورة النساء، وكذلك القرآن كله، ولكن قولوا السورة التي يذكر فيها البقرة، والسورة التي يذكر فيها آل عمران وهكذا القرآن كله»، والبيهقي في شعب الإيمان: 4/172، برقم (2346)، عن أنس بن مالك رضي الله عنه.

[4] تفسير ابن أبي حاتم: 1/ 137، برقم: (693)، وتفسير الطبري: 2/ 186.

[5] اسمه: عاميل؛ تفسير القرطبي: 1/ 446، والإتقان: 4/ 96، ومعترك الأقران في إعجاز القرآن: 1/ 368.

[6] انظر القصة في تفسير القرطبي: 1/ 446.

[7] رواه البخاري: 6/ 185، في باب تأليف القرآن، من كتاب فضائل القرآن، برقم (4993)، عن عائشة رضي الله عنها.

[8] متفق على صحته، رواه البخاري: 5/ 55، في باب تزويج النبي صلى الله عليه وسلم عائشة، وقدومها المدينة، وبنائه بها، من كتاب مناقب الأنصار، برقم (3894)، ومسلم: 2/ 1038، في باب تزويج الأب البكر الصغيرة، من كتاب النكاح، برقم (1422)، عن عائشة رضي الله عنها.
وانظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد، للصالحي الشامي: 11/ 166.

[9] الخمرة - بضم الخاء، وسكون الميم -: حصيرة أو سجادة صغيرة؛ لسان العرب: 4/ 258، مادة: [خ م ر].

[10] رواه مسلم: 1/ 244، في باب جواز غسل الحائض رأس زوجها وترجيله وطهارة سؤرها، والاتكاء في حجرها وقراءة القرآن فيه، من كتاب الحيض، برقم (298)، وأبو داود: 1/68، في باب الحائض تناول من المسجد، من كتاب الطهارة، برقم (261)، عن عائشة رضي الله عنها.

[11] بل الصحيح أنه يجوز فيها الهاء؛ قال الفيومي: "ويجوز دخول الهاء فيقال: (الخمرة) على أنها قطعة من الخمر"؛ المصباح المنير، ص: 181، وقال الجوهري: "خمرة وخمر وخمور؛ مثل: تمرة وتمر وتمور"؛ الصحاح: 2/ 649، كلاهما مادة: [خ م ر]، وقال النووي: "وهي لغة ولا إنكار عليه"؛ تهذيب الأسماء واللغات: 3/ 98.

[12] تقدم تخريجه.

[13] لم أجده عن أحد، والذي وجدته هو تسمية سورة النساء بسورة النساء الكبرى، والطلاق بسورة النساء الصغرى، قال الفيروزآبادي - متحدثًا عن سورة النساء -: واسم السورة سورة النساء الكبرى، واسم سورة الطلاق سورة النساء الصغرى؛ بصائر ذوي التمييز: 1/ 169، والتحرير والتنوير، لابن عاشور: 4/ 211.

[14] رواه مسلم: 1/ 553، في باب فضل قراءة القرآن، وسورة البقرة، من كتاب صلاة المسافرين وقصرها، برقم (804)، عن أبي أمامة رضي الله عنه.

[15] قال القاضي عياض: البطلة - بفتح الباء والطاء - أي: السحرة، فسره في الحديث؛ مشارق الأنوار: 1/ 87، ومطالع الأنوار، لابن قرقول: 1/ 488.

[16] متفق على صحته، رواه البخاري: 9/121، في باب قول الله تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ [آل عمران: 28]، من كتاب التوحيد، برقم (7405)، ومسلم: 4/2102، في باب الحض على التوبة والفرح بها، من كتاب التوبة، برقم (2675)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[17] قال القرطبي: ذهب أهل السنة إلى أن السحر ثابت وله حقيقة، وذهب عامة المعتزلة وأبو إسحاق الأسترآبادي من أصحاب الشافعي - إلى أن السحر لا حقيقة له، وإنما هو تمويه وتخييل وإيهام، لكون الشيء على غير ما هو به، وأنه ضرب من الخفة والشعوذة؛ تفسير القرطبي: 2/ 46.

[18] صحيح لغيره دون: «ثلاث ليال»، رواه أبو يعلى في مسنده: 13/547، برقم (7554)، وابن حبان في صحيحه: 3/ 59، في باب قراءة القرآن، من كتاب الرقائق، برقم (780)، عن سهل بن سعد رضي الله عنه.

[19] انظر: البرهان: 1/ 209، والإتقان: 1/ 102، والدر المنثور: 2/ 116.

[20] رواه مسلم: 1/ 115، في باب بيان قوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ﴾ [البقرة: 284]، من كتاب الإيمان، برقم (125)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.

[21] كان بين نزول هذه الآية ونسخها سنة، تفسير الثعلبي: 2/ 300، والتفسير البسيط، للواحدي: 4/ 520.

[22] متفق على صحته، رواه البخاري: 7/ 46، في باب الطلاق في الإغلاق والكره، من كتاب الطلاق، برقم (5269)، ومسلم: 1/ 116، في باب تجاوز الله عن حديث النفس والخواطر بالقلب، إذا لم تستقر، من كتاب الإيمان، برقم (127)، عن أبي هريرة رضي الله عنه.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 44.76 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 44.14 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.40%)]