الملك، المليك، المالك جل جلاله
د. شريف فوزي سلطان
4- لا يُسأل عما يفعل:
قال تعالى: ﴿لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: 23]؛ لأن العادة أن يسأل الكبير الصغير عن فعله، ولا أكبر من الله، وأن يسأل الجليل الذليلَ عن فِعْله، ولا أجَل مِن الله، وأن يسأل الأعلى مقامًا الأدنى ولا أحد أعلى مِن الله[16].
قال الإمام النسَفي: "لأنه المالك على الحقيقة، ولو اعترض على السلطان بعضُ عبيده مع وجود التجانس، وجواز الخطأ عليه وعدم الملك الحقيقي لاسْتُقْبِح ذلك وعُدَّ سَفهًا، فمَن هو مالك الملوك ورب الأرباب، وفعله صواب كله، أَولى بألا يُعترَض عليه؟"[17].
5- أنه فعال في ملكه لما يريد، ولا يقع في ملكه إلا ما يريد:
ولا تحدث حركة في هذا الكون إلا بإذنه؛ روى البخاري في صحيحه مِن حديث أبي ذر، قال: دخلت المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فلما غربت الشمس، قال: ((يا أبا ذر، هل تدري أين ذهبت هذه؟))، قلت: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنها تذهب تستأذن في السجود، فيؤذن لها، وكأنها قد قيل لها: ارجعي من حيث جئت، فتَطلُع من مغربها))، ثم قرأ: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ﴾ [يس: 38]؛ فسبحانه القائل: ﴿وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: 247]، وسبحانه القائل: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [يس: 82].
وعندما كسر إبراهيم الأصنام التي تُعبَد مِن دون الله، أراد قومه أن يُحرِّقوه، فلما ألقَوْه في النار، ما بعث الله ريحًا لتطفئها ولا ماء لتُخمدها، ولا ملكًا ليُخرج إبراهيم، إنما تكلم بكلمة إلى النار، فخضعت لأمر الملك الجبار؛ قال تعالى: ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ﴾ [الأنبياء: 69][18].
فسبحانه: ((كل يوم هو في شأن، ومِن شأنه أن يغفرَ ذنبًا ويُفرج كربًا، ويرفع أقوامًا ويخفض آخرين))[19].
فسبحانه القائل: ((ولا تسبوا الدهر؛ فإني أنا الدهر، الأيام والليالي لي، أُجددها وأُبليها، وآتي بملوكٍ بعد ملوك"[20].
حق الملك جل جلاله:
1- أن تعتقد أنه لا يملك أمر نفعِك أو ضرك إلا الملكُ:
فتَسير في حياتك هذه بوجه واحدٍ، لا تقول إلا الحق، ولا تعمل إلا الحق، ولا تَجبن في مواجهة مَن لا يملك مِن أمرك فضلًا عن أمر نفسه شيئًا؛ قال تعالى: ﴿قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ﴾ [يونس: 49].
فكما أنه لا يملك إنهاء أجَلِك إلا الملك، فكذلك لا يَملك نفعَك أو ضرَّك إلا الملك؛ يقول تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا﴾ [الجن: 20، 21].
2- ألا تسال غيره ولا تطلب ممن سواه:
لأنه لا يملك على الحقيقة غيره ولا يُدبر الأمر سواه، فكل ما أردتَ وتمنيتَ قليلًا كان أو كثيرًا - مِن شفاءٍ أو صحةٍ، أو مالٍ أو ولدٍ أو زوجة، أو نجاحٍ في حياة عملية، أو زوجية، أو صلاحٍ في دين، أو غير ذلك - كل ذلك لا يَملِك خزائنه إلا الله.
فكيف تطلب ممن لا يملك شيئًا وتترك باب مَن يملك كل شيء؟!
وفي بعض الإسرائيليات - الموافقة - أن موسى قال: "يا رب، إنه لتَعرضُ لي الحاجة من الدنيا، فأستحيي أن أسألك، فقال: سَلْني حتى مِلح عجينك وعَلف حمارك"[21].
دخَل هشام بن عبدالملك الكعبة، فإذا هو بسالم بن عبدالله بن عمر، فقال له: يا سالم، سلني حاجةً، فقال له: إني لأَستحيي من الله أن أسألَ في بيت الله غيرَ الله، فلما خرج في أثره، قال له: الآن قد خرجتَ، سلني حاجة، فقال له سالم: حوائج الدنيا أم حوائج الآخرة؟! قال: بل حوائج الدنيا! فقال له سالم: ما سألتها مَن يَملكها، فكيف أسأل مَن لا يَملكها؟![22].
3- استحقاقه وحده للعبادة:
لما كان الحق هو الخالق لكل شيء، والمالك لكل شيء، والمتصرف في كل شيء، فإنه وحده المستحق للعبادة دون سواه، والآلهة التي تُعبَد من دونه مخلوقة مملوكة مربوبة، لا تملك مِن دون الله شيئًا، وألوهيتها باطلة، وعبادتها ظلم وضلال[23].
قال تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 17]، وقال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ * إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ﴾ [فاطر: 13، 14]، وقال تعالى: ﴿وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا﴾ [الفرقان: 3]، وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا﴾ [الإسراء: 56].
فالذي يملك كشف الضر وحده، والذي يقدر على تحويل كل شيء وحده، والتحكم في كل شيء وحده، والهيمنة على كل شيء وحده - الملك جل جلاله الذي لا يستحق العبادة سواه.
4- الطاعة المطلَقة:
فإذا كان الملك الحقيقي الدائم الكامل لله تعالى وحده لا شريك له، فالطاعة المطلقة إنما تكون له وحده لا شريك له؛ لأن مَن سواه مِن ملوك الأرض إنما هم عبيدٌ له تحت إمرته؛ فلا بد مِن تقديم طاعة الملك على طاعة من سواه، وحكمه على حكم مَن سواه، فلا طاعة لأحد إلا في حدود طاعته، أما في معصيته فلا سمع ولا طاعة؛ قال تعالى: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
5- أن تعتقد أنه ملك الملوك وملك الأملاك، فلا يتسمَّى بذلك غيره:
روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أَغيظُ رجلٍ على الله يوم القيامة وأخبثُه، رجلٌ كان يُسمى: ملك الأملاك، لا مَلِكَ إلا الله)).
وفي رواية أحمد: ((اشتد غضب الله على مَن زعَم أنه: ملك الأملاك، لا مَلِكَ إلا الله)).
ويلتحق بذلك ما في معناه؛ كأحكم الحاكمين، وسلطان السلاطين، وقاضي القضاة، وأمير الأمراء ونحو ذلك؛ لأن الملك جل جلاله هو الأحق بذلك، ولا شريك له في ذلك[24].
6- أن نتواضع له:
فإن مَن عرف أن الله هو الملك الحق، فلا بد أن يتواضع ولا يرفع نفسه فوق منزلة العبيد، حتى لو كان مِن الملوك؛ فإنه لا يعدو كونه عبدًا فقيرًا يقع تحت قهر الله وسلطانه[25].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جلس جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنظر إلى السماء، فإذا مَلَكٌ ينزل، فقال جبريل: إن هذا الملك ما نزل منذ يوم خُلِق قبل الساعة، فلما نزل، قال: يا محمد، أرسلني إليك ربُّك، قال: أفملكًا نبيًّا يجعلك، أو عبدًا رسولًا؟ قال جبريل: تواضَع لربِّك يا محمد، قال: ((بل عبدًا رسولًا))[26].
7- أن تعلم أن لكل ملكٍ حِمًى:
فمَن أراد لنفسه النجاة، فليتَّق عقوبة الملك باجتناب محارمه؛ فعن النعمان بن بشير قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الحلال بيِّن والحرام بيِّن، وبينهما أمور مشتبهات، لا يَعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعِرضه، ومَن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حِمى، ألا وإن حمى الله محارمه))[27].
فإذا كان الملوك يجمعون الأرض التي لهم، ويُحيطونها بحمى وسياج، فلا يدنو منها أحدٌ، فمن اقترب منها أو تجاوزها فقد عرَّض نفسه للعقوبة البالغة، فكيف تُتَجاوزُ حدودُ الملك ويُستهان بحقوقه؟!
8- اتقِ الله فيما تملِك:
إذا أردت النجاة بين يدي الله، فانظرْ لكل ما ملكته بنظرتين:
الأولى: أنه قد يُسلَبُ منك في أي لحظة، وغالب السلب إنما يكون على سبيل العقوبة، فوجب أن تكون على حذرٍ؛ قال تعالى: ﴿قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ﴾ [الأنعام: 46].
الثانية: أن تصرُّفك فيما تملِك ابتلاءٌ وامتحان وفتنة؛ كما قال تعالى: ﴿لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ﴾ [المائدة: 48]، وقال تعالى: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [الكهف: 7].
وكلما زاد ملكك زادتْ فتنتك، فاَّتقِ الله فيما تملك؛ قال ابن مسعود: "ما أحد أصبح في الدنيا إلا وهو ضيفٌ وماله عارية، والضيف مُرتحل والعارية مردودة"[28].
وما المالُ والأهلون إلا ودائعُ *** ولا بدَّ يومًا أن تُرَدَّ الودائعُ
9- أن تكون على يقين من أن كل ملك في هذه الدنيا زائلٌ:
أراد أحد الصالحين أن ينصح ملكًا، فكتب على كرسي الحكم: "لو دام لغيرك لَمَا وصل إليك"،
فكل مَلِك في هذه الدنيا ينتهي ملكه بالموت أو بفقْد السيطرة عليه، لكن الله هو الملك الذي لا يُقهر: ﴿كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [القصص: 88].
لا شيءَ مما ترى تَبقى بشاشتُه *** يَبقى الإلهُ ويَفنى المالُ والولدُ
وأخيرًا:
قد يُصبح الإنسان ملِكًا دون أن تكون له رعية يَحكمها إذا قهَر الإنسان شهوته، وتغلَّب على نفسه ووساوس شيطانه، وسيطر على هواه، وحكَم لسانه وعينيه وأُذنيه، فالملك على الحقيقة هو مَن ملَك نفسه وملَك نجاتها.
وكذلك مَن ملك ما يستغني به عن الخلق، وتعفَّف وقنَع بما رزقه الله - كان ملكًا؛ قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ﴾ [المائدة: 20].
ومعلوم أنهم لم يكونوا جميعًا ملوكًا، ولكن كان منهم ملوك! قال ابن عباس: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له زوجة ودار وخادم، سُمِّي ملكًا[29].
وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أصبح منكم معافًى في بدنه، آمنًا في سِربه، عنده قُوت يومه؛ فقد حِيزت له الدنيا بحذافيرها))[30].
[1] - رواه أحمد وأبو داود والترمذي، وصحَّحه الألباني.
[2] - تفسير أسماء الله الحسنى؛ أبو إسحاق الزجاج.
[3] - تفسير ابن كثير.
[4] - المقصد الأسنى؛ الغزالي.
[5] - أسماء الله الحسنى؛ أبو عبدالله محمد لبيب.
[6] - رواه مسلم.
[7] - التبصرة؛ ابن الجوزي.
[8] - شأن الدعاء؛ الخطابي.
[9] - مع الله؛ سلمان العودة.
[10] - رواه مسلم.
[11] - متفق عليه.
[12] - رواه مسلم.
[13] - متفق عليه.
[14] - اسم الله الملك؛ محمد الدبيسي.
[15] - طريق الهجرين.
[16] - هنيئًا لمن عرف ربه؛ خالد أبو شادي.
[17] - تفسير النسفي.
[18] - المعاني الإيمانية في شرح أسماء الله الحسنى الربانية؛ وحيد بالي.
[19] - رواه البخاري مرفوعًا معلقًا.
[20] - رواه أحمد في المسند، وصحَّحه الأرناؤوط، وانظر السلسة الصحيحة، وصحيح الترغيب والترهيب.
[21] - جامع العلوم والحكم.
[22] - صفة الصفوة.
[23] - أسماء الله الحسنى؛ عمر الأشقر.
[24] - انظر: فتح الباري، ج1.
[25] - المعاني الإيمانية شرح الأسماء الحسنى الربانية.
[26] - رواه أحمد وسنده صحيح.
[27] - متفق عليه.
[28] - الزهد؛ الإمام أحمد.
[29] - أسماء الله الحسنى والتأدب معها والتخلق بها؛ أبو عبدالله محمد لبيب.
[30] - رواه الترمذي، وصحَّحه الألباني.