عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 16-11-2020, 03:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,928
الدولة : Egypt
افتراضي رد: النظم القرآني في سورة الرعد

النظم القرآني في سورة الرعد (3)
د. محمد بن سعد الدبل



لم يَغِبْ عن الباحثين من علماء الأدب ونقاده أن الأدب يؤثر فينا باجتماع عنصريه الأصليين: اللفظ والمعنى، وإن كانت الحقيقة أن اللفظ والمعنى يمثلان تمثيلاً كاملاً ما يراد نقلُه إلى المتلقي فكرًا وعاطفة، أو انفعالاً، أو تخيلاً، أو تصويرًا؛ فهما في الحقيقة شيء واحد، لا ينفصل أحدهما عن الآخر إلا كما تفارق الروح الجسد فتتركه ميتًا لا حياة فيه، ولا يستدل على الروح إلا إذا كانت متحيزة في ذات من الذوات، أو جسد من الأجساد.


والفائدة كلها منوطة بالجملة والتركيب، أما أجزاء هذا التركيب، فإنها لا تغني وحدها.


ولكن مما لا شك فيه أن الكل تتكون قيمتُه بقيمة الأجزاء التي تكوَّن منها هذا الكل؛ فإن البناء لا يكون سليمًا قويًّا قادرًا على الحياة إلا بسلامة الدعائم التي أُقيمَ عليها، وسلامة اللَّبِنات التي تكوَّن منها.


ومن هذا المنطلق تكلم أكثر علماء البلاغة في قيمة الألفاظ المفردة؛ لأن سلامة الكل تتبع سلامة الجزء، فرُبَّ لفظة غريبة أو وحشية كدَّرت عبارة طويلة، وذهبت بسماتِ الحسن والجمال الذي اجتمع في كثرتها.


ومنذ قديم وجدْنا من العلماء من تكلم في اللفظ الأدبي في حال إفراده، وجعل له صفاتٍ ومعالِمَ تتأكد بها جودتُه، ويفضل بها غيرَه من سائر الألفاظ، ومن هؤلاء الباحثين: أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت 255هـ) الذي صرح بمذهبه في تفضيل اللفظ، وتقدير العبارة، وغالى في هذا التفضيل، حتى لقد ذهب إلى أن "المعاني مطروحة في الطريق، يعرفها العجمي والعربي، والبدوي والقروي، وإنما الشأن في إقامة وزن الكلمة، وتخيُّر اللفظ، وسهولة المخرج، وفي صحة الطَّبع، وجودة السَّبك[1]".


وقد اعتنق رأيَ الجاحظ كثيرٌ من علماء الأدب، منهم: أبو هلال العسكري (ت395هـ) إذ قال: "ليس الشأن في إيراد المعاني؛ لأن المعاني يعرفها العربي والعجمي، والقروي والبدوي، وإنما الشأن في جودة اللفظ، وصفائه وحُسنِ بهائه..."[2]، وهو بهذا ينقل رأيَ الجاحظ نقلاً يكاد يكون حرفيًّا.


ومن هؤلاء النقاد الذين يقدرون اللفظ المفرد، ويجعلون له صفات ذاتية: قُدَامة بن جعفر (ت337هـ)، الذي يرى أن مقياس الحسن للفظ أن يكون سمحًا، سهل مخارج الحروف من مواضعها، عليه رونق الفصاحة، مع الخلوِّ من البشاعة... [3]، وممن أشاد باللفظة المفردة، وجعل لها خصائص تميزها بالحسن، وتقبح إذا فقدت تلك الخصائص: ابن سنان الخفاجي (ت466هـ)، الذي تناول كتابه: "سر الفصاحة" اللفظة المفردة من أدنى جزئياتها؛ من الصوت، والمخرج، والحرف.

وجعل لهذه اللفظة المفردة الجيدة ثمانية أوصاف، هي:
1- أن يكون تأليف اللفظة من حروف متباعدة المخارج.
2- أن يكون لتأليفها في السمع حسن ومزية.
3- أن تكون غير متوعرة ولا وحشية.
4- وأن تكون غير ساقطة عاميةٍ.
5- أن تكون جارية على العُرف العربي الصحيح غير شاذة.
6- وألا تكون قد عبِّر بها عن أمرٍ آخر يُكرَه ذِكرُه.
7- أن تكون معتدلة غيرَ كثيرة الحروف.
8- أن تكون مصغَّرة في موضع عبِّر بها فيه عن شيء لطيف أو خفِيٍّ أو قليل، أو ما يجري مجرى ذلك[4].


ومع أن ضياء الدين بن الأثير (ت637هـ) قد أنحى باللائمة على الخفاجي بأنه في كتابه: "سر الفصاحة" قد أكثر مما قل به مقدار كتابه من ذكر الأصوات والحروف، والكلام عليها، ومن الكلام على اللفظة المفردة وصفاتها مما لا حاجة إلى ذكره....[5]؛ مع ذلك شغل كلامُ ابن الأثير عن اللفظة المفردة، وصفات حسنها، وأسباب قبحها - جزءًا كبيرًا من أول دراسته في كتابه: "المثل السائر"، فقد نعَتَ اللفظة المفردة بكثير من الأوصاف، وجعل ألفة الكلمة وجريانها في اللغة الأدبية من الأسس التي تقوم بها الألفاظ، وتستحق المزية والتقدير، واعترف بالتفاوت بين الألفاظ التي يظن أنها من قبيل المترادف؛ فهو يقرر أن أرباب النظم والنثر من صناع الكلام غربلوا اللغة باعتبار ألفاظها، فاختاروا الحسن من الألفاظ واستعملوه، ونفوا القبيح منها فلم يستعملوه، فحُسْن اللفظة سببٌ في استعمالها دون غيرها، واستعمالُها دون غيرها سببُ ظهورها وبيانها، وذلك سبب يدعو إلى وصف اللفظة المفردة بالفصاحة؛ ولذلك يرى أن الفصيح من الألفاظ هو الحسن، ويقول: إن هذا من الأمور المحسوسة التي شاهدُها من نفسها؛ لأن الألفاظ داخلة في حيز الأصوات، فالذي يستلذه السمعُ منها ويميل إليه هو الحسن، والذي يكرهه وينفِر منه هو القبيح، ويضرب لذلك مثلاً بأن السمع يستلذ صوت البلبل من الطير وصوت الشُّحْرُور، ويميل إليهما، ويكرَه صوت الغراب وينفِر منه، كذلك يكره نهيق الحمار، ولا يجد ذلك في صهيل الفرَس.


ويستمر ابن الأثير في الشوط إلى مداه في حسن الألفاظ المفردة وقبحها، ويرى أن لفظة "المزنة" "والديمة" حسنة يستلذها السمع، وأن لفظة "البعاق" قبيحة يكرهها السمع، وهذه اللفظات الثلاث من صفة المطر، وهي تدل على معنى واحد، ومع هذا فإنك ترى لفظتي "المزنة" و"الديمة" وما جرى مجراهما مألوفة الاستعمال، وترى لفظ "البعاق" وما جرى مجراه متروكًا لا يستعمل، وإن استعمل فإنما يستعمله جاهل بحقيقة الفصاحة، أو من كان غيرَ ذي ذوق سليم[6].


وإذا كان هذا الاتجاه نحو تقدير اللفظة المفردة، والحكم عليها بمقتضى الحروف التي تتألف منها، وجرس أصواتها على السمع؛ أي: جعل الكلمة المفردة ذات خصائص ذاتية تجعلها حسنة أو قبيحة - إذا كان هذا يمثل رأي طائفة كبيرة من النقاد والعلماء، فإن هناك رأيًا مقابلاً لهذا الرأي، هو رأي عبدالقاهر الجرجاني (ت471هـ) الذي يصرح "بأن الكلمة المفردة لا قيمة لها قبل دخولها في التأليف، وقبل أن تصير إلى الصورة التي يفيد بها الكلامُ غرضًا من أغراضه في الإخبار، والأمر والنهي، والاستخبار، والتعجب، وتؤدي في الجملة معنى من المعاني التي لا سبيل إلى إفادتها إلا بضم كلمة إلى كلمة، وبناء لفظة على لفظة، وليس بين اللفظتين تفاضل في الدلالة حتى تكون إحداهما أدل على معناها الذي وُضعت له من الأخرى[7]".


وليست العبرة عند عبدالقاهر باللفظ في ذاته، وإنما العبرة بالنظم، ودليل ذلك قوله: "فقد اتضح إذًا اتضاحًا لا يدع للشك مجالاً أن الألفاظ لا تتفاضل من حيث هي ألفاظ مجردة، ولا من حيث هي كلم مفردة، وأن الألفاظ تثبت لها الفضيلة وخلافها في ملائمة معنى اللفظة لمعنى التي يليها، أو ما أشبه ذلك مما ليس له تعلق بصريح اللفظ، ومما يشهد لذلك أنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع، ثم تراها بعينها تثقُل عليك وتُوحِشك في موضع آخر.."[8].


ولا شك أن تعصب عبدالقاهر لفكرة النظم التي اعتنقها وشرحها في كتابيه: "أسرار البلاغة ودلائل الإعجاز" على ذلك النحو الذي أشرنا إليه من الآراء الجيدة في تقدير حسن الكلام، فإننا لا نستطيع أن نجحد قيمة اللفظة في ذلك النظم، والذي هو ضم كلمة إلى كلمة، ولا نجحد أن اللفظ الجميل يزداد جمالاً بحسن موافقته لِما جاوره من الألفاظ، وهذا التجاوز هو الذي يكشف عما فيه من جمال، ويبين عن صفات الحسن الكامنة فيه، ولا نستطيع أن نُقِرَّ عبدالقاهر على كل ما ذهب إليه، وكذلك نختلف مع أولئك الذين يجعلون للألفاظ المفردة ذلك الاعتبار؛ إذ لا بد من مراعاة اللفظة المفردة بأجراسها، ومقاطع حروفها، والدقة في انتقائها، ومراعاة توافر الحسن في جميع جزئياتها، ومن ثم طريقة وضعها في الترتيب، بحيث تتلاءم مع ما قبلها وما بعدها، ولا نقلل من قيمتها على حساب النظم؛ لأن الألفاظ هي اللبنات الأولى اللاتي بهن تتكوَّن الجملة وشبه الجملة في تأدية المعنى المراد، وكذلك نعطي الجملة قيمتَها من حيث مراعاة حسن الجوار، ووضع كل جملة بجانب أختها، ونعطي المعنى قيمته؛ حيث لا غموض، ولا إبهام، ولا تعمية، ولا ألغاز.



إذا تبين لنا المزية في النظم، وأنه لا بد من مراعاة الدعائم التي يقوم عليها وهي اللفظ مفردًا، والجملة مركبة، والمعنى مسوقًا، فلنطبق تلك المزية، ولنستظهر بعض أسرار هذا النظم وعناصره في سورة الرعد، تلك السورة التي آثرنا أن تكونَ محور الدراسة في هذا البحث، "والتي من أهدافها غرس عقيدة التوحيد في النفوس، وانتزاع ما يخالف تلك العقيدة من الضمير، والدعوة إلى العمل الصالح المكوِّن للإنسان المهذب الكامل، الناهض بالجماعة، بسَنِّ شريعة الإسلام من عند الله"[9]، وتجلية طبيعة النبوة والرسالة"، مطوفة بالقلب البشري في مجالات وآفاق وأبعاد وأعماق؛ إذ تعرض الكون كله في شتى مجالاته؛ في السموات المرفوعة بغير عمد، والأرض المبسوطة وما فيها من حركة وسكون، كل ذلك لإقرار عقيدة التوحيد في النفوس.


وهي من أعاجيب السور القرآنية التي تأخذ في نفس واحد، وإيحاء واحد، من بدئها إلى نهايتها، تفعم النفس وتزحم الحس بالصور والظلال والمشاهد والخوالج[10]"، وهي سورة مكية غير آيتين، هما قول الله - تعالى -: ﴿ وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ﴾ [الرعد: 31]، وقوله - تعالى -: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]؛ فإنها مدنيتان، وعدد آياتها: خمس وأربعون، وقيل: ثلاث وأربعون، وعدد كلماتها: ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وعدد حروفها: ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف"[11].


وكان من واجبنا في هذه الدراسة المتخصصة لهذه السورة الكريمة أن نلم ببديع نظمها، وعجيب تركيبها، ومحكم فواصلها، ورائع صورها، لولا أن تتبُّع ذلك كله واستقراءَه لفظًا لفظًا وتركيبًا تركيبًا وفاصلة وفاصلة وصورة صورة من الآمال البعيدة عن طوق البشر؛ إذ إنه لا تكفي فيها الإشارات السريعة، أو اللمحات الخاطفة، ولكنها تحتاج إلى النظرة العميقة، والفحص الدقيق عن كل حرف من الحروف، أو صورة من الصور؛ ولذلك يجد الباحث نفسه مضطرًّا إلى أن يجتزئ بالقليل ليدل على الكثير، وكما قيل: "حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق".


ولذا سنتعرض لخصائص نظم تلك الألفاظ والحروف في طائفة من آيات السورة الكريمة، متفحصين كيف التحمت لَبِنات هذه الآيات؟ انتظم من مجموعها ذلك العِقدُ الفريد في أجمل صورة حية كل ذرة في خليتها، وكل خلية في عضوها، وكل عضو في جهازه، حتى يبرز اللفظ وقد أخذ مكانه المقسوم وَفْق خط مرسوم.


[1] انظر الحيوان للجاحظ ص 444، الطبعة الأولى 1287هـ، تحقيق فوزي عطوي، مطبعة شركة الكتاب اللبناني، بيروت.

[2] انظر الصناعتين لأبي هلال العسكري ص 63، 64، الطبعة الثانية، تحقيق علي البجاوي، ومحمد أبو الفضل إبراهيم، مطبعة الحلبي.

[3] انظر قدامة بن جعفر والنقد الأدبي؛ للدكتور بدوي طبانة ص 193، الطبعة الثالثة، 1389هـ، الحديثة.

[4] انظر ذلك مفصلاً في البيان العربي؛ للدكتور بدوي طبانة ص194، 206، الطبعة الرابعة، المطبعة الفنية الحديثة 1388هـ.

[5] انظر ذلك مفصلاً في البيان العربي؛ للدكتور بدوي طبانة ص 194، 206، الطبعة الرابعة، المطبعة الفنية الحديثة، 1388هـ.

[6] المصدر السابق ص 273.

[7] انظر دلائل الإعجاز لعبدالقاهر الجرجاني ص 35، التأثير محمد رشيد رضا.

[8] انظر دلائل الإعجاز لعبدالقاهر ص 33، طبعة المراغي.

[9] انظر من بلاغة القرآن لأحمد أحمد بدوي ص 230، الطبعة الثانية، مطبعة نهضة مصر.

[10] انظر في ظلال القرآن لسيد قطب، المجلد الخامس، ط بيروت ص 63، 4غ، 110.

[11] انظر تنوير المقباس من تفسير ابن عباس لأبي طاهر محمد بن يعقوب الاسترابادي.





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 30.58 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 29.95 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.05%)]