الكتاب والحكمة: السردية الأخلاقية للقرآن
النبوة
يخبر القرآن أن الله يعرف مواطن ضعف الإنسان بدقة: القلب والتهديد المستمر عليه من وساوس الشيطان، وإغراءات الحياة الدنيوية ودوافعها الأنانية، هو لا يترك البشرية وحدها منغمسةً في الفساد بل يرسل لهم الرسل بالهدى والهداية، وهذا ينسجم مع الفطرة التي تقابلها ويكمّلها لمساعدة البشرية في التغلب على ضعفها لتأكيد عهدها وميثاقها للإيمان بالله وعبادته.
يذكر القرآن في مواضع عديدة أن البشرية بشكل عام كانت أمةً واحدة، مثل قوله: ” وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا” (يونس:19)، وفي “كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ” (البقرة:213)، وفي سياق آخر في آياتٍ كـ (النمل:93) و(السجدة:8) و(المائدة:48)، والتي تشير على أغلب الظن إلى مرحلةٍ متقدمة من التاريخ يقول فيها الله أنه كان بالإمكان أن يجعل الناس أمة واحدة لكن الحكمة الإلهية اقتضت الاختلاف بينهم.
جانبٌ من هذه الحكمة قد وُضّح في قوله تعالى: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أتقاكم” )الحجرات:13(، هذه الآية يتجلى فيها الرفض الحاسم لأي نوعٍ من أنواع التمييز العرقي، وخلقُ أممٍ متنوعة يزيد من فرصة حدوث التجربة الكونية في لقاء الآخرين الذين يختلفون عنا في الثقافة ومع ذلك نتشارك معهم هذه الذات الإنسانية، وجعل التقوى هي المعيار القياسي يضمن ألا تلعب الظروف المادية أي دور في النجاح الأخروي فيما يتعلق بالأخلاق.
وكما أنه يستخدم كوصفٍ عام للإنسانية جمعاء، فإن مصطلح أمة يستخدم أيضًا لوصف أمةٍ نبوية محددة بعينها كما في قوله:” وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ” (الأعراف:159)، كلمة ملّة تبدو كمصطلح لنفس الفكرة الأممية وهي مرتبطة تحديدًا بإرث نبي الله إبراهيم كما في قوله:” ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (النحل:123)، ويحوي القرآن أيضًا مفهوم الأخوة فعلى مستوى البشر كلهم يذكر القرآن:” يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً” (النساء:1)، وأما بالنسبة للأمة المؤمنة تحديداً ففي قوله:” إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ” (الحجرات:10).
وبما أن الملة تكون مرتبطةً بنبي معين فهي تتلقى وحيًا خاصًا من شريعة الله، هذا المفهوم للقانون الإلهي والأخلاقي للإنسانية له أساسٌ ضمني في النص الشرعي وله أيضًا أساسٌ صريح مباشر في قوله:” ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا” )الجاثية:18(، وكلمة شريعة في اللغة العربية مشتقة من الطريق المؤدي لمورد الماء، مما يشير بشكلٍ رمزي للطريق المؤدي للشيء الأكثر أهمية في حياة الإنسان، يجدر الإشارة هنا إلى أنه لا يوجد في المعجم العربي القرآني فرقٌ جليّ بين مصطلحي القانون والأخلاق حيث ينسجم الاثنان مع بعضهما تحت مظلة الشريعة.
تبرز العديد من النصوص القرآنية دور الأنبياء والرسل كمبشرين ومنذرين في إشارة ضمنية للوعد بالجنة أو التخويف بالنار، ويأتي النمط القرآني في سياق وصف كل رسول من الرسل بمناداته لقومه بالنداء المتكرر: “يا قومِ”، بينما أرسل النبي محمد عليه الصلاة والسلام للناس والجن أجمعين كما ذُكر في (الأنبياء:107) و(الأحقاف: 29-31) و(البقرة:151)، وأخبر الله بتفصيل السبب في إرسال النبي محمد لسكان الجزيرة العربية في قوله: ” كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ”
كلمة “آياتنا” يمكن تفسيرها بالعلامات أو الوحي والبراهين أو الآيات القرآنية، في هذا السياق في الحديث عن النبي تتوافق كل هذه التفسيرات بقدرٍ ما عند استصحاب بلاغة الآيات القرآنية بما يثبت مصدرها المقدس، فالمصطلح يشير إذن إلى الوسائل التي أنتجت موثوقية النبي كمتحدثٍ عن الله وكباعثٍ للإيمان في أمته والتي وبدونها لا يستطيع الاستمرار في مهمته، ثم تأتي “التزكية” والتي هي مبنيةٌ على أساس التغيير الداخلي خيرًا كان أو شرًا، فهي ما يكفل النجاح أو الخسران في الدنيا والآخرة، ويمكن ربط هذا المقام بمقام روحي أسمى وهو مقام الإحسان: وهو السمو فوق المتطلبات الأساسية للطاعات المفروضة لتحصيل المناقب العليا.
بالعودة للفظتي الكتاب والحكمة، فإنّي أرى أنه يمكن تطوير قراءةٍ متسقة من خلال فهم المصطلحين المقترنين بشكل عام على أنهما يشيران للواجبات المأمور بها والمبلغة من قبل الرسل ومقاصدهم الحكيمة، هذا التفسير يتحاشى التهمة التي يمكن توجيهها عند تفسير المصطلح بالكتاب والسنة للشافعي (ت 204 هـ) بأنها لا تأخذ بالحسبان المدى الواسع الممكن للاستخدام النصي للمصطلح.
وبالطبع فكما أن احتمالية فهم كلمة “كتاب” على أنها تشير إلى القانون لا يمنع بالضرورة أنها تشير أيضًا إلى المعنى الكلي للوحي، فقراءة “الحكمة” على أنها ترمز لمنطق القوانين الإلهية لا ينفي من القرآن الحكمة غير المرتبطة باتباع الأوامر، ومثل ذلك بارز في العديد من القصص والأمثال القرآنية كما في قوله تعالى: “وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ” (القمر: 4-5).
إذا تم فهم الكتاب والحكمة اللذان جاء بهما الرسل ضمن النظرة الكونية القرآنية على أنهما الأوامر الإلهية وحكمته في خلقه، فيصبح من المهم حينها أن نربط هذا بالإطار الأوسع لحياة الناس، والآية الرئيسية التالية تمرر هذا المفهوم الأوسع: “لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ” (الحديد:25).
هذه الآية تحملُ أهميةً خاصة لأنها تجمع بين الخيوط المختلفة التي تمت مناقشتها حتى الآن، وتعمل كنقطة انطلاق لبيان موضوع العدالة المجتمعية، في سياق الآية تم إعطاء الرسل ثلاثة أمورٍ: البراهين لإثبات صدقهم، على غرار مصطلح “الآيات” المذكور آنفًا، والأوامر والالتزامات من قبس الوحي والميزان في إشارةٍ لمقياس الأخلاق أو القانون الطبيعي المحدد داخل الخليقة، وهذه الآية مرادفة لقوله تعالى: “اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ” (الشورى:17)، جُعلت هذه الأمور الثلاثة لسبب معين وهو تمكين البشرية من إقامة القسط، وكلمة “قسط” هي إحدى كلمتين عربيتين في المفردات القرآنية تطابق معنى كلمة “Justice” في اللغة الإنجليزية، الكلمة الأخرى هي “عدل”، يمكننا أن نستنتج بالاعتماد على دراسة معانيهما اللغوية والكتابية أن هذين المصطلحين لهما دلالات مختلفة تتعدى المعنى العام للعدالة: العدل هو الخاصية الذاتية للمساواة، والقسط هو عدلٌ نشأ بشكل أساسي في المجال المجتمعي.
هذا الفهم للقسط بالإضافة للمبحثين السابقين للميزان والحكمة يمكّننا من وضع التعريف التالي: العدالة المجتمعية هي حالة المجتمع التي تتحقق بحكمة أوامر الله والتي تتناسب مع ميزان القيمة الأخلاقية، مثل هذا المجتمع العادل هو أسمى طموح أخلاقي للحضارة الإنسانية كنشاط منظم، يتجلى فيه كل القيم الأخرى الجديرة بالثناء مثل الرحمة والخير والتقوى، وبالنسبة لكل إنسان فإن دينه يتوقف على محاولته لتحقيق خلافة الإنسان في الأرض والمصير الرابح في الآخرة، وكما يشير (العطاس) فإن مفهوم الدّين يستلزم إنشاء حضارةٍ على الأرض بسمات عامة معينة تشمل: “الميل الطبيعي للإنسان لتشكيل المجتمعات اتباع القوانين والسعي إلى حكومة عادلة”.
فالخطاب القرآني يفترض ضمنيًا أن المجتمع العادل مبني على أسس القانون الطبيعي، يتجسد هذا النمط في القرآن في شخص النبي محمد ﷺ الذي عاش في ذروة التاريخ المقدس وتلقى الوحي الأخير المُنزل في دورة الإصلاح والإفساد، لذلك وُصِف بخاتم النبيين في سورة (الأحزاب:40)، وهو ما يتطابق مع ما ورد في (آل عمران:81) من أن الله أخذ عهدًا من الأنبياء يؤكد سلطانه عليهم، وينعكس هذا في عدة آيات تنص على أنّ على أمة المؤمنين أن يكونوا شهداء على سائر الأمم في الدنيا والآخرة والرسول هو كذلك شهيد عليهم، وهكذا يتصور القرآن أن النبي محمد ﷺ هو مبعوث السلطة الإلهية والخليفة الأخير لجميع الأنبياء، خليفة الله بامتياز، ومع ذلك فحقيقة أن القرآن موجَّه للنبي وليس عنه تعني أن المفسرين كثيرًا ما وجدوا دليلًا على ما سبق في خفايا العبارات بدلًا من العبارات الصريحة، يفسر الألوسي (ت 1270) قوله تعالى: “وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً” (البقرة:30)، حيث يقول إن توجيه الخطاب مباشرة إلى النبي هنا يلقي الضوء على أن عليه الجزء الأكبر من الخلافة المذكورة، و يصور القرآن النبي محمد ﷺ كالنبي إبراهيم من قبله، مَثلًا في السلوك الواجب اتباعه: ” لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” (الأحزاب:21)، هذا الامتياز هو في المقاصد الكبرى التي من أجلها خُلق البشر ليقوموا بإرساء العدالة المجتمعية كخلفاء لله، وأخيرًا ليتمكنوا من العود إليه فرحين في الآخرة.
الحياة الشخصية للنبي ﷺ مرتبطة أيضًا بهذا السياق، الآية التالية تكررت مرتين في القرآن الكريم: “هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ” (الصف:9) و(التوبة:33).
وهناك آية مشابهة في سورة الفتح 28 لكنها استبدلت “ولو كره المشركون” بقوله -سبحانه- “وكفى بالله شهيداً”، يمكن قراءة هذه الآية على أنها تدل على اكتمال الوحي الإلهي رغمًا عن عداوة المعارضين للنبي وهو تفسير منسوب إلى الصحابي ابن عباس.
ونقيضًا لذلك فإن إحدى اتجاهات التفسيرات القرآنية المنتشرة في الترجمات الحديثة للقرآن يفسر “ليُظهره على الدين كله” بقوله “جعله مهيمنًا على جميع الأديان الأخرى”، ومع ذلك فإن هذا الرأي لا يتناسب مع البناء اللغوي للآية من ناحيتين: أولًا كلمة دين هنا جاءت بصيغة المفرد وليس الجمع، ثانيًا عندما يستخدم القرآن التعبير “أظهر/يُظهر على” فإنه لا يشير للهيمنة بل لجعل الشيء معروفًا، ومن الأمثلة على ذلك ما جاء في الآية الثالثة من سورة التحريم والتي تشير إلى أن الله كشف للنبي سرًا متعلقًا بزوجاته، وما جاء في سورة الجن في الآية 26 والتي تنص على أن الله لا يكشف الغيب لأحد إلا من ارتضاه من رسول كما وضحت الآية التي تليها.
نقطةٌ أخرى هي أن كلا الآيتين، (الصف:9) و(التوبة:33) يتبعان آياتٍ يُذكر فيها أن الله عز وجل “يتّم نوره”، ويمكن فهم هذا بمعنى الوحي المتتالي للنبي محمد الذي ينير معرفته بشرع الله، وقد أُعلِن عن اكتمال مرحلة التنزيل أثناء الحجة الوحيدة للنبي في السنة العاشرة للهجرة، عندما تلا تلك الآيات الخالدة: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا” (المائدة:3).
الآخرة
المرحلة الأخيرة من الرحلة الروحية وفقًا للقرآن هي مثل المرحلة الأولى في أنها تحدث في عالم يتجاوز المعرفة البشرية الطبيعية ويتعلق بكل ما يأتي بعد الموت بما في ذلك القبر نفسه والقيامة الكبرى، ويوم الحساب والمقام الأخير في الجنة أو النار.
يواجه الإنسان عند الموت حقيقةٌ كانت حتى ذلك الحين غائبةً عن الأنظار، ويدرك الإنسان حينها المسؤولية الأخلاقية على الفرد ويعي حقيقة العودة لله للحساب، كما في قوله: ” وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ” (ق:19).
يقول الغزالي: “عند الموت تُكشف أمامه أشياء لم تتكشف له من قبل في حياته، كما تنكشف أمورٌ للرجل المستيقظ كانت قد أخفيت عنه في سباته، فكذلك الناس في سباتٍ وعند الموت يستيقظون”
إن النتيجة المنطقية للالتزام الأخلاقي هي وجود جزاءٍ بالمقابل، إما مكافأة أو عقوبة، وهذا ما توفره الساحة الأخروية، إن صدق الشخص مع الميثاق والإقرار بربوبية الله هي الواجب الأساسي ويبرزها الله إلى جانب اتباع رسله، والسلوك الظاهري، وعباداته، ونقاء القلب الداخلي، وبناء على ذلك يُرسَل الإنسان إلى مصير الجنة أو النار، ومن البديهي في القرآن أن الله عادل تمامًا في تنفيذ حكمه كما يقول: “وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُون” (يونس:54).
هذا المفهوم عن العدل الإلهي الكامل مبني على فكرة أن الله وضع الحساب الذي يأخذ بالحسبان كل صغيرة وكبيرة ولا تظلم فيه روح واحدة: ” وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ” (الأنبياء:47).
في هذه الآية موازين العدل في الآخرة موازية للميزان المعدّ لقياس القيمة الأخلاقية في الحياة الدنيوية، ووصْفُ اللهِ عز وجل نفسهُ بأنه لا يظلم عباده هو أيضًا طبعٌ لغويٌ مهم في القرآن عند الحديث عن عدله سبحانه، المعنى المستخلص أن هناك معايير كحد أدنى وأعلى لشريعة إقامة العدل في الآخرة: لا تقليل من الحسنات ولا زيادة على السيئات كجزاء.
وأيضًا بعد ترسيخ هذه الفكرة بناءً على حكمة الله، فإن لله الحق في مضاعفة أجر الأعمال الصالحة، وهذا مصرّحٌ به في آيات مثل: ” وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ” (البقرة:261)، ومثل ذلك في مغفرة الذنوب، أما فيما يخص الذنوب العظيمة فقد ذكرت في قوله تعالى:” إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ ۚ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا” (النساء: 48)، ومع ذلك فحتى الشرك يمكن أن يُغفر بالتوبة الصادقة قبل الموت كما ذكر في سورة (النساء: 110)، بينما الذنوب والمعاصي التي تحدث في حالة انعدام الإيمان يمكن أن تُغفر أو تبدّل لحسنات من الله عز وجل عند حضور الإيمان كما في الآية 70 من سورة الفرقان.
إذن هناك فكرة توحيدية مضمنة يمكن استبانتها في الوعد الثنائي في القرآن بعدم ظلم الله للعباد وبحضور رحمته سبحانه، وبدلًا من أن يكون هذان العنصران مجرد تعبيرين كيفيين لإرادته بحيث تكون كل عقوبةٍ عادلة وكل أجر رحمة، فإنهما يعكسان السر العميق لحكمته، فرحمة الله واسعة ولكنها تصل للبشر وفقًا لشروطه.
أظهر هذا المبحث أن قراءة قصة القرآن لحالة الإنسان بشكل كلي يمكن أن تزودنا بجوانب أساسية لعلم اللاهوت الأخلاقي الخاص بها والذي يُفقد عند النظر في الآيات متفرقةً، الفكرة المهيمنة في هذه السردية هي حكمة الله في خلق الحياة كدَين مستحق والنجاح في اختبار الأخلاق هي طريقة سداده، وعلى الرغم من أن موضوع الحكمة هذا يجعل الحياة البشرية حياةً ذكيةً ذات هدفٍ إلا أنه لا يزال هناك عنصر عدم القدرة على الوصف في استعمالها كخاصية لوصف العلم الإلهي، في العالم المخلوق يتم تمثيلها بالميزان والذي يٌقرأ كمرادف قرآني للقانون الطبيعي، وهذا التفسير السياق القرآني العام بالإضافة لفكرة الفطرة تحديدًا يقود لمعرفة العادات الأخلاقية الأساسية على الأقل قبل الإقبال على الوحي، إذن فالعدالة التي يأمر القرآن أتباعهُ بإقامتها تقوم على إدراك حكمة التشريعات الإلهية بحيث تُبنى على القانون الطبيعي.
المصدر : د. رامون هارفي، ترجمة: زياد الحازمي
منقول