شعر الشتات الشركسي المعرب والعربي (1)
د. إيمان بقاعي
3- من قصيدة (أنتِ.. والوطن)
أنتِ والوطن اسمانِ.. حبيبان
تسكنان
في خاطري
في حاضري
في كلِّ بُرهةٍ من الزمانزنابِق نديّةً
كأنّها ظِلال.[11]
وكذلك ما كتبه القاص والشَّاعر عصام وجوخ[12] في قصيدته: (يوم للحزن أيام للفرح القادم):
أنا إن طربْتُ فمِن سعد أيامي الخوالي
إن حزنْتُ فمن بعد أحبابي الغوالي
لي في الغيابِ حبيبتانِ معا معي
في خاطري في يقظتي ومنامي
معي في كل حين
حبيبتان تتقاسمانِ روحي وقلبي والحنين
لأجل عينيها وعينيها
نشيد حرفي وإيقاع أغنيتي على اللِّحن الحزين
حبيبتي الصُّغرى اسمها جنة الجولان
تنأى
يا للغياب الطّويل المُر
تغيّب النَّوم الهنيء الحلم عن العيون
الجنة الحبيبة الكبرى قفقاسيا - شركستان
بعيدة جدًّا قريبة جدًّا
من ضفاف الرُّوح مِن شغاف قلبي المفتون
جمال وجهها
جلال قدرها
ظلال عرشها
تلك الجموع
النَّكسة المأساة
بحر الدُّموع الأسود المحزون.[13]
وتكثر كلمات الغربة مع مغادرة "أوشحة مافة" بوجهه العتيق المقدس: "لقد انتهى كل شيء"[14]!
تعلن الرِّوائية زهرة عمر بوجع على لسان إحدى شخصيات روايتها الثَّرية رغم البحث الدَّائب عندها عن ممسك لجذور القوم المقطوعة من جغرافيا والمزروعة في جغرافيا.
حمل الشّراكسة معهم أوجاعهم ومعها آمال كبيرة، فالأوطان المغادَر إليها بينهم وبينها إلفة تُدعى: الدّين، والدّين وطن لعله كان بلسمًا للجراح المفتوحة النَّازفة، أو لعله كان بعض بلسم...
نعم! كان النّداء محمَّلاً بالأمل الّذي لم تستطع أوجاع الاقتلاع أن تقضي عليه وتسحقه. لكن الأحزان القديمة تراكم فوقها أحزان جديدة: مرض، جوع، عدم استقرار، حروب، أطماع، كآبة.
حمل الشّراكسة كآبتهم وضجرهم وتشردهم فصار الوقت مموهًا وطرح السّؤال: "ما هو الأمس وما هو اليوم وما هو الغد؟ ما هو بالأمس كان ذات يوم مستقبلاً غائبًا بين طيات المجهول مثقلاً بالأماني والأحلام ثم أصبح الزَّمنَ القاسي وبعدها انطفأ وتحول: أصبح ذلاً، رجع صدى الزمن الغادر"[15].
صار الزَّمان سؤالاً تمامًا كما صار الوطن سؤالاً. ويعود الشّركسي - ابن الشَّتات الأبدي - ليستقرئ تاريخه، لعل وعسى:
"في السِّفر الأول أقرأ أيام القفقاس الذَّهبية
أساطير وملاحم، وجبابرة نارْتيون،
ريادة فكر وحضارات شركسية"[16]
يقترب الزَّمان أكثر، فإذا به أمام حروب الشّراكسة والرّوس وإذا به أمام البطل القوقازي شامل:
"في السِّفر الثّاني: قصة أبطال الحرية
ومن البحر إلى البحر الغضب السَّاطع شامل
والحرب ضروس تقتات الأخضر واليابس
تأكل حتى الصَّخر ولكن لا تلمس وهج الأفئدة الوطنية[17]
ويتابع الزَّمن اقترابه، فبعد انتهاء الحرب، يبحث الشّركسي في الرّماد بين الأنقاض فيستخرج سِفر الهجرة - بداية الشَّتات، وهو سفر الوجع وسفر النّكبة:
"والسِّفر الثّالث هجرة..
هذا السِّفر الموجع نكبة"[18]
موت وذل وقهر وأسر وغرق وشتات:
"جماجم أطفال تكسر...
وكرامات شيوخ جبليين تذل وتقهر
وصبايا.. صبايا.. لا أجمل.. لا أحلى منهن بكل بلاد العالم
لا أطهر لا أنقى منهن بكل بلاد العالم تؤسر.
قوافل في أعماق البحر الأسود تغرق
وقوافل في شتى أرجاء المعمورة تتفرق"[19]
إنه الشَّتات بكل مآسيه وأوجاعه.
إنه الصَّفعة - النّكبة.
اقتلاع يُحَس حين تهدأ العاصفة ويتلمس المقتلع جذوره العارية مِن التربة - الأم وينسى أن العادات الشّركسية تحتِّم عدم البكاء، فيبكي - لا عن ترف ولا عن صفعة صغيرة - بل عن وجع أكبر منه: وجع الوطن المبعد. وتكاد العيون بريق نورها ينطفئ، وهل من نور خارج الوطن الأم؟
"وعيون تبكي..
تذرف دمعًا ودمًا..
تعمى مِن هجر الأوطان"[20]
والبكاء حين تنفجر مكامن الوجع ويضيع الأغلى، يصبح كالوطن المتروك: مُباحًا ومشروعًا إلى أن يتوقف النَّزيف.
ومع البكاء ومع انطفاء النُّور تدريجيًّا، تسمع في الأرجاء مراثي الشّراكسة الّتي تتجدد كل مرة مع كل غزو حزنًا يتراكم ويزيد التمزق:
"وشفاه تنشد وتنوح
بكل أناشيد الأحزان"[21]
بيد أن انتظارًا ما لحلٍّ ما يخترق الحزن المتراكم فيرسم أملاً يعين على احتمال أن يعيش المرء عاريًا من الانتماء، عائدًا تارة إلى الزمن الغابر وأخرى متلمسًا الواقع المعاش.
ينادي الشّركسي - من بين دموعه ومراثيه - الوطن الأم المرتجى، وطنًا حلُّ نسيانه واحد كما يبدو، هو العودة.
وجد الشّركسي ملاذه وأراد أن يحقق انتماءه ولكن، هل يسمح الكبار الّذين يمتلكون القوة والمعرفة والّذين يرسمون مصائر الصغار بتحقيق آمال الشّعوب الصَّغيرة؟
نعم إن تسلحت الشّعوب الصَّغيرة بالعلم. إنه الحل الّذي تطرحه زهرة عمر في نهاية روايتها قائلة: "إن الجهل والضّعف هما اللّذان جعلا الشّعوب الكبيرة أشبه بقدَر الشّعوب الصَّغيرة، قدَر لايُرَدّ وإن تعرض لمقاومة محقة"[22].
[1] فتحي كونكور: الشراكس تهجير أم هجرة:صفحة: الشراكس في البلاد العربية والمهجر: Facebook.
[2] يقول ورزاي أفليك في ديوانه: (رقصة الغجر) المنشور في نالتشك 1985 من قصيدته: (حفنة سوناتات) [تر: ممدوح قوموق]:
غاضبة تضرب الريح نافذتي بقوة/أسمع صوت غناء متواصلاً لا ينقطع/ ومن سمائي يطل هلالٌ مضيء/يحرق بنوره الفضي ظلمات الليل/كنت سأنطلق الهوينا محلقاً في الفضاء/بهذا الأمل الوحيد الذي يقوم مقام الجناحين/مازالت بطولاتكم شواهد الطريق على دربي/وهي ملء العين وملء الأسماع وفي نقاء الطفولة/عندما انهمر رصاص الأعداء عليكم يُجندلكم/لم أكن أنا على الأرض في تلك الأيام/وها أنا الآن أبحث عنكم في قاع البحر/محاولاً ما استطعت، أن أعيد اعتباركم/ويفتح تاريخنا البوابة، يناديني للطريق/إن التاريخ بالنسبة إلينا نخب بطولة.
[3] من خلال تقرير أرسله إلى الجنرال كاتراتشيف يشرح المسؤول في إدارة شؤون الهجرة في القنصلية الروسية في ترابزون أحوال المهجرين وأوضاعهم المأساوية على طريق الترحيل الطّويل:"حضر إلى باتوم سبعين ألف شخص أثناء ذهابهم إلى تركيا، يموت منهم وسطيًّا سبعة شراكسة في اليوم ومن بين الـ 24,700 شخص الذين أخرجوا إلى ترابزون مات منهم حتى الآن تسعة عشر ألفًا. أما من بين المتواجدين هناك والبالغ عددهم 63,900 شخص فيموت منهم كل يوم ما بين المائة و الثمانين إلى المائتين والخمسين شخص. وبالنسبة إلى المتواجدين بجوار سامسون والذين يخمن عددهم بنحو مائة وعشرة آلاف فيموت منهم مائتين شخص وسطيًّا كل يوم. ولقد أعلمت بأن الـ 4650 شخص الذين تم إحضارهم إلى ترابزون وفارنا واسطنبول يموت منهم حوالي الأربعين إلى الستين شخص يوميا". أما البقية الباقية منها فقد كانت في حالة مأساوية يرثى لها إذ تفرقت في البلاد ما بين دوبروجا وبلغاريا وصربيا وأرناؤوط وسوريا والعراق حيث كان يتم إسكانهم على الدوام في أماكن غير آمنة[فتحي كونكور: المصدر السابق].
[4] وليد طاش، جذور مأساة تهجير الشّراكسة عن وطنهم [محاضرة ألقيت خلال الأسبوع الثقافي الشّركسي الثّاني عمان ونشرت في الإخاء، العدد 35، أيلول 1991، ص3 _ 7].
[5] قادربتش قومبل، ديوان وردة والدي، قصيدة (أيها الزمن أيها الزمن إنك تنفرد بالرأي)، تر: عز الدّين سطاس ط1979.
[6] قادربتش قومبل.
[7] نفسه.
[8] علي شوجن تسوكر، قصيدة أماه، من الأدب الشّركسي المعاصر، تر: عادل عبد السلام (دمشق: الآداب الأجنبية، 1981) ع: 27، ص75 _ 76..
[9] نفسه.
[10] ولد في الناعور في الأردن عام 1943، وقد نشر قصائده في مجلات: الإخاء ونارت وفي بعض الصحف الأردنية. وقد تم جمعها بعد وفاته في عام 2009م وإصدارهافي ديوان شعر يحمل اسم: (خمسة أسياف تسكن جسدي) في ذكرى وفاته الأولى عام 2010م.
[11] من اختيار الشاعر: فيصل حبطوش خوت أبزاخ.
[12] عصام وجوخ أديب وشاعر، عضو اتحاد الكتاب العرب، له: (يوميات جولاني)، (جولان يا ألمي)، (الخروج من دائرة الوهن)، و(أقاصسص جولانية). عصام وجوخ من قرية المنصورة كاتب قصة قصيرة – عضو اتحاد الكتاب العرب .
3- وصدر له :
• يوميات جولاني ( قصص قصيرة)
• الخروج من دائرة الوهن (قصص قصيرة )
• جولان يا ألمي ( رواية )
• يوميات جولاني ( قصص قصيرة )
• أشعار منشورة في الصحف والدوريات
• حائز على جوائز في القصة في السعودية وسوريا
[13] عصام وجوخ: يوم للحزن أيام للفرح القادم، منشورة في مجلة ألبروز، العدد: 25، 2009.
[14] زهرة عمر، ص84.
[15] زهرة عمر، ص198.
[16] عصام وجوخ، قراءات في أسفار التّاريخ (دمشق: النشرة الثّقافية، جمعية المقاصد الخيرية الشّركسية، 1994)، ع: 7، ص139.
[17] نفسه، ص139 _ 140.
[18] نفسه، ص140.
[19] نفسه.
[20] زهرة عمر.
[21] نفسه.
[22] زهرة عمر، ص304.