♦ التَّعلُّمُ والتَّعلِيمُ:
شرف العلم مسْتَمَدٌّ من شرف مُتَعَلَّقِه، ولما كانت علومُ القرآن مُتَعَلِّقَةٌ بأشرف الكتب وأعظمها، كانت أشرفَ العلوم وأعظمَها على الإطلاق، فكان خيرَ المُتَعَلِّمين والمُعَلِّمِين من كان تعلُّمه وتَعْلِيمُه في القرآن وما يتعلَّقُ به، ولا ينفكُّ ذلك عن العمل[37].
ويشملُ ذلك تعلُّمُ تلاوتِهِ وتفسيرِهِ، واستنباطِ أحكامِهِ، وكلِّ ما يتعلق به، فعَنْ عُثْمَانَ بن عفان رضي الله عنه عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «خَيْرُكُمْ مَن تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ»[38]، وهذه الخَيرِيَّةُ مختصَّةٌ بحال التَّعليم، ولا تنفي خيريَّةَ غيرِهم مما اختُصُّوا به من التفضيل.
♦ العمل بمدلول خطابه:
ذكر الله لنا في كتابه شكوى رسوله صلى الله عليه وسلم من هجر أمته للقرآن فقال: ﴿ وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا ﴾ [الفرقان: ٣٠]، ويتحقق هذا الهجر بترك علمه وحفظه، وترك الإيمان به وتصديقه، وترك تدبره وتفهمه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره، والعدولُ عنه إلى غيره[39].
فمن مقتضى الإيمانِ بالله الإيمانُ بكتابه، ومن مقتضى الإيمانِ بكتاب الله امتثالُ أوامره والانتهاء عن نواهيه، فمن قام بحق كتاب الله حقَّ القيام كان له القرآن شافعًا عند الله تعالى حتى يدخل الجنة، ومن هجره وفَرَّطَ في حقِّه كان له خصمًا عند الله تعالى حتى يُسَاقَ إلى النَّار، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الْقُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌّ مُصَّدَّقٌ، مَن جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَمَن جَعَلَهُ خَلْفَ ظهره سَاقَهُ إِلَى النَّارِ»[40].
فإمَّا أن يكون القرآن حجةً للإنسان عند الله، وإما أن يكون حجة عليه، فعَن أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «... وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا»[41].
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من فئة من الناس يكونون في آخر الزمان، يقرؤون القرآن، ويحفظون من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم أبعد ما يكونون عن هدي كتاب الله، وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، فعن علي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، أَحْدَاثُ الأَسْنَانِ، سُفَهَاءُ الأَحْلامِ، يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ، لا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِن الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِن الرَّمِيَّةِ، فَأَيْنَمَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاقْتُلُوهُمْ، فَإِنَّ فِي قَتْلِهِمْ أَجْرًا لِمَن قَتَلَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»[42].
وقد قال عَبْدُ اللهِ بْن مَسْعُودٍ رضي الله عنه لإِنْسَانٍ يصف أحوال الناس في زمانه، وما يأتي بعد ذلك: «إِنَّكَ فِي زَمَانٍ كَثِيرٌ فُقَهَاؤُهُ، قَلِيلٌ قُرَّاؤُهُ، تُحْفَظُ فِيهِ حُدُودُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُرُوفُه،ُ قَلِيلٌ مَن يَسْأَلُ، كَثِيرٌ مَن يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الصَّلاةَ[43]، وَيَقْصُرُونَ الْخُطْبَةَ[44]، يُبَدُّونَ أَعْمَالَهُمْ قَبْلَ أَهْوَائِهِمْ، وَسَيَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ قَلِيلٌ فُقَهَاؤُهُ، كَثِيرٌ قُرَّاؤُهُ، يُحْفَظُ فِيهِ حُرُوفُ الْقُرْآنِ، وَتُضَيَّعُ حُدُودُهُ،كَثِيرٌ مَن يَسْأَلُ، قَلِيلٌ مَن يُعْطِي، يُطِيلُونَ فِيهِ الْخُطْبَةَ، وَيَقْصُرُونَ الصَّلاةَ، يُبَدُّونَ فِيهِ أَهْوَاءَهُمْ قَبْلَ أَعْمَالِهِمْ»[45].
فنسأل الله تعالى أن نكون ممن يقوم بحق كتاب الله تعالى حق القيام، حفظًا وتلاوة، وتدبرًا وتعلُّمًا وتعليمًا، وعملاً وتطبيقًا، لنبرهن على حبنا له، وليكون حجة لنا لا علينا، وليكون قائدنا إلى جنات النعيم.
[1] ينظر: العقيدة الطحاوية 1: 172.
[2] أخرجه الطبراني في الكبير 9: 132 برقم 8676؛ والبيهقي في شعب الإيمان 2: 253 برقم 2017؛ وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 342 عن ابن مسعود، وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
[3] انظر: فيض القدير للمناوي 3: 67.
[4] أخرجه أحمد في المسند 3: 127 برقم 12301؛ وابن ماجه في المقدمة برقم 215؛ والدارمي في فضائل القرآن برقم 3326؛ والحاكم في المستدرك 1: 743 برقم 2046 وقال: وقد روي هذا الحديث من ثلاثة أوجه عن أنس هذا أمثلها؛ وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 231 وقال: وهو إسناد صحيح.
[5] أخرجه أبو داود في الأدب برقم 1464؛ والترمذي في فضائل القرآن برقم 2914 وقال: حديث حسن صحيح.
[6] أخرجه أحمد في المسند 5: 348 برقم33000؛ وابن ماجه في الأدب برقم 3781؛ والدارمي في فضائل القرآن برقم 3391؛ وذكره الهيثمي في المجمع 7: 330 برقم 11633 وقال: رواه أحمد ورجاله رجاله الصحيح.
[7] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها برقم 804.
[8] أخرجه البخاري في فضائل القرآن برقم 4743؛ ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها برقم 789. عن ابن عمر رضي الله عنهما.
[9] أخرجه الترمذي في القراءات 5: 197 برقم 2948؛ والدارمي في ختم القرآن 2: 560 برقم 3476؛ وأخرجه الحاكم في المستدرك 1: 757 برقم 2088 وقال: تفرد به صالح المري وهو من زهاد أهل البصرة، إلا أن الشيخين لم يخرجاه، وله شاهد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أي العمل أفضل؟ أو أي العمل أحب إلى الله؟ قال: «الحالُّ المرتحل، الذي يفتح القرآن ويختمه، صاحب القرآن يضرب من أوله إلى آخره، ومن آخره إلى أوله، كلما حل ارتحل».
[10] أخرجه البخاري في فضائل القرآن برقم 4744؛ ومسلم في صلاة المسافرين وقصرها برقم 790.
[11] أخرجه البخاري في الأدب المفرد ص130 برقم 357؛ وأبو داود في الأدب برقم 4843. عن أبي موسى الأشعري؛ وابن أبي شيبة في مصنفه 6: 536؛ والبيهقي في السنن الكبرى 8: 163 برقم 16435.
[12] أخرجه أحمد في المسند 1: 223 برقم 1947؛ والترمذي في فضائل القرآن برقم2913 وقال: حديث حسن صحيح؛ والدارمي في فضائل القرآن 2: 521 برقم 3306؛ والحاكم في المستدرك 1: 741 برقم 2037 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه. عن ابن عباس رضي الله عنهما.
[13] انظر: تفسير ابن كثير 8: 250.
[14] انظر: المصدر السابق 1: 403.
[15] انظر: المصدر السابق 6: 545.
[16] أخرجه الترمذي في فضائل القرآن برقم 2910، وقال: حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه. عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
[17] أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها برقم 798؛ وأبو داود في الصلاة برقم 1454؛ والترمذي في فضائل القرآن برقم 2904؛ وابن ماجه في الأدب برقم 3779. عن عائشة رضي الله عنها.
[18] قال ابن حجر في فتح الباري 9: 70: «قال ابن الجوزي: اختلفوا في معنى قوله: «يتغنى» على أربعة أقوال؛ أحدها: تحسين الصوت، والثاني: الاستغناء، والثالث: التحزن قاله الشافعي، والرابع: التشاغل به...، وفيه قول آخر حكاه ابن الأنباري في الزاهر قال: المراد به التلذذ والاستحلاء له كما يستلذ أهل الطرب بالغناء...، وإن لم يكن غناء حقيقة...، وفيه قول آخر حسن: وهو أن يجعله هجيراه كما يجعل المسافر والفارغ هجيراه الغناء...». [وهجيراه: عادته ودأبه].
[19] أخرجه البخاري في التوحيد برقم 7089 عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[20] أخرجه الدارمي في فضائل القرآن برقم 3501. عن البراء بن عازب رضي الله عنه.
[21] أخرجه أحمد في المسند 4: 283 برقم 18517؛ وأبو داود في الصلاة برقم 1468؛ والنسائي في الافتتاح برقم 1015؛ وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1342؛ وابن حبان في صحيحه 3: 25 برقم 749. عن البراء بن عازب رضي الله عنه، وسنده صحيح.
[22] قال البغوي في شرح السنة 1: 299: الْمُرَادُ مِنَ الْحَسَدِ الْمَذْكُورِ فِي الْحَدِيثِ هُوَ الْغِبْطَةُ، فَإِنَّ الْغِبْطَةَ هِيَ أَنْ يَتَمَنَّى أَنْ يَكُونَ لَهُ مِثْلُ مَا لأَخِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَمَنَّى زَوَالَهَا عَنْ أَخِيهِ، وَالْحَسَدُ الْمَذْمُومُ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ لأَخِيهِ نِعْمَةً يَتَمَنَّاهَا لِنَفْسِهِ وَزَوَالَهَا عَنْ أَخِيهِ.
[23] أخرجه البخاري في فضائل القرآن برقم 4738.
[24] انظر: التعريفات ص76؛ والتوقيف على مهمات التعاريف ص 167.
[25] أخرجه أحمد في المسند 1: 266 برقم 2397؛ والحاكم في المستدرك 3: 615 برقم 6280 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[26] انظر: فتح الباري لابن حجر 7: 100.
[27] أخرجه الدارمي في فضائل القرآن برقم 3315.
[28] تفسير ابن كثير 1: 9 - 10.
[29] أخرجه الترمذي في تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه 8: 146 برقم 2951 وبرقم 2952 عن ابن عباس، وقال عنه: حديث حسن صحيح.
[30] أخرجه الترمذي في تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب: ما جاء في الذي يفسر القرآن برأيه عن جندب بن عبد الله 8: 147 برقم 2953 وقال أبو عيسى: هذا حديث غريب، ثم قال: وهكذا روي عن بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم أنهم شددوا في هذا في أن يفسَّر القرآن بغير علم، وأما الذي روي عن مجاهد وقتادة وغيرهما من أهل العلم أنهم فسروا القرآن، فليس الظن بهم أنهم قالوا في القرآن أو فسروه بغير علم أو من قِبَل أنفسهم، وقد روي عنهم ما يدل على ما قلت أنهم لم يقولوا من قبل أنفسهم بغير علم. ثم ساق سنده عن قتادة أنه قال: ما في القرآن آية إلا وقد سمعت فيها شيئًا، وكذلك عن الأعمش قال: قال مجاهد: لو كنت قرأت قراءة ابن مسعود لم أحتج إلى أن أسأل ابن عباس عن كثير من القرآن مما سألت؛ وأخرجه أبو داود في العلم باب: الكلام في كتاب الله بغير علم 3: 320 برقم 3652؛ والبيهقي في شعب الإيمان باب في تعظيم القرآن، فصل: في ترك التفسير بالظن 2: 423.
[31] أحمد بن الحسين بن علي، أبو بكر (384 - 458 هـ): من أئمة الحديث، وله تصانيف كثيرة منها: السنن الكبرى، والسنن الصغير، والأسماء والصفات، وشعب الإيمان. سير أعلام النبلاء 18: 163؛ الأعلام 1: 116.
[32] شعب الإيمان للبيهقي 2: 423؛ البرهان للزركشي 2: 162.
[33] شعب الإيمان للبيهقي 2: 424، وفي رواية: إذا قلت في آية من كتاب الله بغير ما أراد الله سبحانه وتعالى.
[34] إحياء علوم الدين 1: 343.
[35] أخرجه أبو داود في الصلاة برقم 1394؛ والترمذي في القراءات برقم 2949؛ وابن ماجه في إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 1347.
[36] أخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه 2: 241 برقم8574؛ وعبد الرزاق في المصنف 3: 353 برقم5946؛ وذكره البغوي في شرح السنة4: 499. قال ابن منظور في لسان العرب 4: 348: إِنما سماه رَاجزًا لأَن الرَّجَزَ أَخف على لسان المُنْشِدِ، واللسان به أَسْرَعُ من القَصيد. قلت: والمراد من قوله إنكار الإسراع في قراءة القرآن دون تدبر.
[37] انظر: تحفة الأحوذي 8: 179؛ حاشية السندي 3: 87.
[38] أخرجه البخاري في فضائل القرآن برقم 4739؛ وأبو داود في فضائل القرآن برقم 1452؛ والترمذي في فضائل القرآن برقم 2907؛ وابن ماجه في المقدمة برقم 211.
[39] انظر: تفسير ابن كثير 6: 108.
[40] أخرجه ابن حبان في صحيحه 1: 331 برقم 134 بإسناد جيد؛ وابن أبي شيبة في المصنف 10: 497؛ وعبد الرزاق في مصنفه 3: 372 برقم 6010؛ والبيهقي في شعب الإيمان 3: 389 برقم 1855. الماحِل: الساعي، والمجادل. انظر: مفردات القرآن للراغب2: 367، ولسان العرب: مادة: محل.
[41] أخرجه مسلم في الطهارة برقم 223.
[42] أخرجه البخاري في استتابة المرتدين برقم 6531؛ ومسلم الزكاة برقم 1066.
[43] قال ابن عبد البر 2: 363: وفيه أن طول الصلاة محمود ممدوح عليه صاحبه، وأما من أمَّ جماعة فقد أوضحنا السنة في إمامه الجماعة. قلت: ومراده هنا أن السنة للإمام التخفيف فقد ثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمن أطال صلاة الجماعة: «أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ مُنَفِّرُونَ، فَمَنْ صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ فِيهِم الْمَرِيضَ وَالضَّعِيفَ وَذَا الْحَاجَةِ». أخرجه البخاري في العلم برقم90.
[44] قال ابن عبد البر في الاستذكار 2: 363: وأمَّا قصر الخطبة فسنَّة مسنونة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمر بذلك ويفعله، وفي حديث عمار بن ياسر: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقصر الخطبة وكان يخطب بكلمات طيبات قليلات، وقد كره التشدق والتفيهق، وأهل العلم يكرهون من المواعظ ما يُنسي بعضه بعضًا لطوله، ويستحبُّون من ذلك ما وقف عليه السامع الموعوظ، فاعتبره بعد حفظه له وذلك لا يكون إلا مع القلة.
[45] أخرجه مالك في الموطأ في باب جامع الصلاة ص 173 برقم 88؛ وعبد الرزاق في مصنفه 2: 382 برقم 3787؛ والبيهقي في شعب الإيمان 4: 258 برقم 5000. قال ابن عبد البر في الاستذكار 2: 363: روي عن ابن مسعود من وجوه متصلة حسان متواترة.