الموضوع: الرب جل جلاله
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-10-2020, 07:18 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,047
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرب جل جلاله

الرب جل جلاله
د. شريف فوزي سلطان




((فكان في طريقه إذا سلك، راهبٌ، فقعد إليه وسمع كلامه، فأعجَبَه)):

جاء في رواية الترمذي: ((وكان الراهب إذ ذاك على دين الحق)).

وثمة سؤال هام: كيف أحَبَّ الغلامُ كلامَ الراهب مع أنه كان يتعلم السحر؟


الجواب: الفطرة؛ فالله تعالى قد فطَر الناس جميعًا على الإيمان والتوحيد، فالراهب كان لا يتكلم إلا بالتوحيد، بخلاف الساحر الذي كان لا يقول إلا طلاسم تأباها الفطرُ النقية، والقلوب التقية.



((فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب وقعد إليه، فإذا أتى الساحر ضربه)):

وهذا الضرب يمثِّل بالنسبة للغلام بلاءً وامتحانًا إذا راعينا أنه غلام صغير، فالله تعالى أراد أن يربِّيَه منذ البداية تربيةً حقيقية كاملة.

((فشكا ذلك إلى الراهب)) ولم تكن شكوى الذي يقدِّم المعاذير ليتخلَّى ويتراجع، ولكنها شكوى الذي يعاني من مشكلة تعوق انطلاقه واستمراره يبحث لها عن حل، فلينتبه المربُّون؛ لأن المشاكل التي تعوق السائرين كثيرةٌ، ولا بد أن يوجدوا لها حلولًا مناسبة.



((فقال: إذا خشيت الساحر، فقل: حبَسَني أهلي، وإذا خشيت أهلك، فقل: حبسني الساحر)).

فكان الراهب ينظر إلى الواقع على أنه حرب، ومن ثَم أباح للغلام أن يكذب، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يحل الكذب إلا في ثلاث: يحدِّث الرجل امرأته ليرضيها، والكذب في الحرب، والكذب ليصلح بين الناس))[12].



وليتأمَّل طلاب العلم حرصَ الغلامِ على حضور الدرس رغم الضرب الذي يتعرض له من الساحر ومن أهله، فلماذا يُعرِض الكثيرُ عن الدروس ومجالس العلم، رغم أنهم لا يُضربون ولا يُؤذَون، وإنما هو الانشغال بالدنيا! وغفل هؤلاء عن أن الإعراض عن العلم يستجلب إعراض الرب جل جلاله.



((فبينما هو كذلك؛ إذ أتى على دابة عظيمة قد حبستِ الناس، فقال: اليومَ أعلم الساحر أفضل أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا، فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر، فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناسُ، فرماها فقتلها ومضى الناس))، فدائمًا مع شدة الابتلاء تظهر الآيات التي تعين على الصبر وتطمئن النفوس.



ولا ننسى أثر الازدواج في منهج التلقي عند الغلام، فقد أحدث له ترددًا، وإن كان قلبه مع الراهب بلا شك؛ ولذلك لجأ إلى الله ودعاه حتى يطمئنَّ قلبه.

((فأتى الراهب فأخبره))؛ أي: بخبر الدابة التي قتَلها الله بدعائه.



((فقال له الراهب: أي بُني، أنت اليومَ أفضلُ مني))؛ فقد أيدك الله بهذه الكرامة الواضحة، والراهب إذ ذاك يعلِّمنا درسًا عظيمًا في التواضع؛ لأن الراهب أفضل من الغلام بلا شك؛ فهو الذي علَّمه التوحيد ولقنه العلم، ومع ذلك يقول له: أنت اليوم أفضل مني!

لا جَرَم؛ فقد قال الله لنبيِّه صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 215].




((قد بلَغ من أمرك ما أرى، وإنك ستُبتلى)):

وليس هذا رجمًا بالغيب، بل معرفة بسنن الله الكونية والشرعية، فكل مَن سلك طريق الإيمان، وخصوصًا إذا كان داعيًا إليه، لا بد أن يبتلى، وليس الابتلاء خاصًّا بأمة دون أمة؛ وإنما هو لكل المؤمنين في كل العصور؛ قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ ﴾ [العنكبوت: 2، 3].



((فإن ابتُليتَ، فلا تدل عليَّ)):

قاعدة عظيمة في ترك طلب البلاء، بل في البعد عنه، وسؤال الله العافية؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((لا تتمنَّوا لقاء العدو، وسلُوا الله العافية))[13]، وفي هذا أيضًا استعمال الكتمان والسرية في بعض أمور الدعوة إذا وقع الاضطرار إلى ذلك، فقد استعمل النبي صلى الله عليه وسلم السريةَ في الدعوة ثلاث سنين إلى أن تمكَّن من الجهر بها.



((وكان الغلام يبرئ الأَكْمَهَ والأبرص، ويداوي الناس من سائر الأدواء)):

الأكمه: الذي وُلد أعمى، والبرص مرض جلدي عضال معروف، وهذه كرامة أو معجزة قدَّرها الله تعالى على يده؛ حتى لا يكون لأحد حجة في عدم اتباعه؛ كما هو الشأن في جميع الأنبياء ومعجزاتهم، قال تعالى عن عيسى: ﴿ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 49]، وقال عن موسى: ﴿ فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ [الشعراء: 63].




والفرق بين الكرامة أو المعجزة، والسحر والشعوذة: التدين والطاعة والالتزام بالسُّنة، فقد روي عن الشافعي رحمه الله: "إذا رأيتم الرجل يطير في الهواء أو يسير على الماء، فلا تصدِّقوه حتى تروا اتباعَه للرسول صلى الله عليه وسلم".



((فسمع جليس للملك، كان قد عمِي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع، إن أنت شفيتَني)):

هؤلاء لا يعرفون إلا لغة المال، ولكن الداعية الصادقَ لا يجعل للدنيا قيمة في دعوته، بل لا يضع قدمًا أو يرفعها إلا وهو يبتغي الأجر والمثوبة من الله تعالى.



((فقال: إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله، فإن أنت آمنتَ بالله، دعوتُ الله فشفاك، فآمَن بالله فشفاه الله)):

هذا هو الرب جل جلاله الذي لا يشفي غيرُه، ولا يداوي غيره، فلا الطبيب ولا الدواء ولا الغذاء هو الذي يشفي، بل الله وحده، لا رب سواه، ولا إله غيره، قال إبراهيم الخليل عليه السلام وهو يعرِّف الرب جل جلاله: ﴿ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ﴾ [الشعراء: 80].



وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((اللهم ربَّ الناس، أَذْهِبِ الباس، اشفِ أنت الشافي، لا شفاء إلا شفاؤك، شفاءً لا يغادر سقمًا))[14].



وانظر كيف آمن جليس الملك الذي كان لا يعرف إلا الدنيا والمال والهدايا، وهكذا في بساطة؛ لأن حقيقة الإيمان كامنةٌ في نفس كل إنسان، ولا ينقص إلا أسلوبُ الدعوة الصحيح.

((فأتى الملكَ، فجلس إليه كما كان يجلس، فقال له الملك: مَن ردَّ عليك بصرك؟ قال: ربي، قال: ولك ربٌّ غيري؟ قال: ربي وربُّك الله)).




هكذا يهاجر الإيمان بالمؤمن من العبودية لغير الله إلى عبودية الله وحدَه، ومن الخوف من غير الله إلى الخوف من الله وحده، ومن رجاء غير الله إلى رجاء فضل الله وحده، ومن ظلمة الجهل وموت الكفر وقسوة الشك إلى نور العلم وحياة الإيمان وراحة اليقين، فالإيمان يصنع الأعاجيب.



((فأخذه فلم يزل يعذِّبه حتى دل على الغلام)):

ليست خيانة ولا عمالة، ولكنها الطاقة البشرية المحدودة في الصبر والتحمل والثبات، وجُزي خيرًا على ثباته على دينه.



((فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بُني، قد بلَغ من سحرك ما تُبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟)):

فهو يريد أن يقول له: لا مانع عندي من استمرارك فيما تفعل، بشرط أن تقول للناس: إن هذا سحر تعلَّمته في مدرسة الملك، وأن ما تدعو إليه هو بتوجيهات الملك وتحت إشرافه ورعايته، فأبى الغلامُ إلا أن يواجه الملكَ بأن دعوته هي التوحيد الخالص والعقيدة الصافية، التي يتحتم على كل مسلم أن يدين لله بها.



((فقال: إني لا أشفي أحدًا؛ إنما يشفي الله)):

وفشِلت محاولة الاحتواء وإلباس الدعوة ملابسَ الجاهلية، وهكذا الداعية لا يُحتمل منه غير الوضوح والبيان، فعنه تؤخذ الحقيقة، ومن فمه وبكلماته يعرف الناسُ الدينَ.



((فأخذه فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب، فجيء بالراهب، فقيل له: ارجِعْ عن دينك، فأبى فدعا بالمنشار في مفرق رأسه، فشَقَّه حتى وقع شِقَّاه، ثم جيء بجليس الملك، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فوضع المنشار في مفرق رأسه، فشقه حتى وقع شقاه)):

فهكذا التوحيد إذا غُرس في النفوس، وهكذا الإيمان إذا غمر القلوب، فهذا جليس الملك الرجلُ المترَف المنعَّم، كيف كان يعيش حياة اللهو واللعب، وكيف صبر هذا الصبرَ العظيم حفاظًا على دينه؟!



وهذا الذي حدث مع الراهب وجليس الملك هو ما أخبَر به النبي صلى الله عليه وسلم عندما شكوا إليه الاستضعافَ؛ فعن خبَّاب بن الأرتِّ رضي الله عنه قال: شكونا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو متوسِّد بردةً في ظل الكعبة، فقلنا: ألَا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟ فقال: ((قد كان مَن قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض، فيجعل فيها ويُجاء بالمنشار فيوضع على رأسه، فينشر اثنين، فما يصدُّه ذلك عن دينه...، والله ليتمنَّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئبَ على غنمه، ولكنكم تستعجلون))[15].

وهكذا يتعامل الظلَمة مع دعاة الحق، فلا فرصة للمناقشة، ولا سبيل إلى الإقناع؛ إنما هو التعذيب والتقتيل!



((ثم جيء بالغلام، فقيل له: ارجع عن دينك، فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا، فاصعَدوا به الجبل، فإذا بلغتم ذروته، فإن رجَع عن دينه وإلا فاطرحوه، فذهبوا به فصعِدوا به الجبل، فقال: اللهم اكفنِيهم بما شئت، فرجف بهم الجبلُ، فسقَطوا وجاء يمشي إلى الملِك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم اللهُ، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قُرْقُور (السفينة الصغيرة)، فتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه، فذهبوا به، فقال: اللهم اكفنيهم بما شئتَ، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا وجاء يمشى إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله)):

فالكافي هو الله وحدَه، والقادر على كل شيء هو الله وحده، والمعز هو الله وحده، والمذل هو الله وحده، من تعلَّق به هداه، ومن توكل عليه كفاه، ومن فوض الأمر إليه نجَّاه، قال الله: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 3]؛ حسبه: كافيه، بالغ أمره: منفذه.



وثمة سؤال هام: ما الذي جعل الغلام يعود إلى الملك وقد علم أنه قاتِلُه؟

والجواب: أن الغلام لا يريد النجاة لنفسه، بل يريد الحياة لأمته، فهو يريد أن تنتصر العقيدة، وتعلو راية التوحيد، مهما كان الثمن؛ ولهذا رجع ليعلم الكون كله أنه لا ربَّ إلا اللهُ، ولا يكون إلا ما قدَّر الله.



وثمة سؤال آخر: لماذا لم يقتله الملك مِن أول وهلة كما فعل بالراهب وبجليس الملك؟

والجواب: أنه لا يريد أن يهيج الرأيَ العام عليه بقتله للغلام الذي أظهر الله الخير للناس على يديه.

((فقال للملك: إنك لستَ بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: ما هو؟ قال: تجمع الناسَ في صعيد واحد وتصلبني على جذع، ثم خذ سهمًا من كنانتي، ثم ضع السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمِني، فإنك إن فعلتَ ذلك قتلتَني، فجمع الناس في صعيد واحد، وصلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه، فوضع يده في صدغه في موضع السهم، فمات، فقال الناس: آمَنَّا برب الغلام)):

استجاب الملك لأوامر الغلام استجابةَ الضعيف المضطر، فوصلت الدعوة للناس، وعلم الجميع أن لهم ربًّا خالقًا وحده، رازقًا وحده، مدبرًا الأمر وحده، لا يستحق العبادةَ سواه.



((فأُتي الملك، فقيل له: أرأيتَ ما كنت تحذر؟ قد والله نزَل بك حذرُك؛ قد آمن الناسُ! فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخُدَّت وأضرم النيران، وقال: مَن لم يرجع عن دينه، فأَحْمُوه فيها، ففعَلوا، حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أُمَّه، اصبري؛ فإنك على الحق)).

يتبع



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.41 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.78 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.00%)]