
19-10-2020, 03:02 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,858
الدولة :
|
|
رد: النقلة التربوية للجيل الأول
إن هذه الصورة العجيبة من خضوع هؤلاء لآلهة يصنعونها وآلهةً ربما يأكلونها إذا جاعوا، لتدل على فطرة العبودية أصلاً لدى البشر، وأن البشر مفطورون على العبودية والذل والخضوع، فإن لم يعرف البشر إلههم الحق ويتعبدوا إليه فسيتعبدون لإله باطل، بل إله يصنعونه وهكذا خلق الله عز وجل الإنسان عبدا لاتستقيم حياته إلا بالعبودية والذل والخضوع، فإما أن يذل ويخضع ويعبد ربه تبارك وتعالى أو حتماً سيذل ويخضع ويتعبد لغير الله عز وجل .
وكان أولئك يشركون بالله عز وجل شركاً من نوع آخر في التشريع والتحليل والتحريم، فكانوا يتخذون أحكام الله هزوا، فيبيحون ويحرمون، فجاء القرآن مصرحاً في الحديث عن أن هذه من صور الشرك بالله تبارك وتعالى (وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم وهذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله وما كان لله فهو يصل إلى شركائهم) (وقالوا هذه أنعام وحرث حجر لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم وأنعام حرمت ظهورها وأنعام لا يذكرون اسم الله عليها افتراءً عليه) كان هذا شأنهم يعتدون على حق الله عز وجل في التشريع فإن الله عز وجل كما قال عن نفسه: ( فاعبده وتوكل عليه) وقال عز وجل: (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)لهذا لا فرق بين من احتكم إلى غير شرع الله وبين من عبد غير الله عز وجل فقد جمعهما تبارك وتعالى في آية واحدة ( إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)
وتوعد القرآن المسلمين حين يستجيبون لطريق أولئك في التشريع والتحليل والتحريم والحكم بغير شرع الله عز وجل، توعدهم أنهم إن فعلوا شيئاً من ذلك ولو في قضية واحدة أنهم سيقعون في الشرك ( ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه وإنه لفسق وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون) فلئن أطاع المسلمون المشركين في هذه المسألة وهذه القضية المعينة؛ فاستباحوا هذه الميتة التي حرمها الله عز وجل فهم مشركون بنص القرآن. ويأتي التأكيد لهذا الحكم بحرف التوكيد (إنكم) ثم يأتي أيضا باللام التي تدل على التأكيد (ولئن أطعتموهم إنكم لمشركون) لئن أطاعوهم ليس في أكل الميتة، إنما في استباحة الميتة واعتقاد أن الميتة وقد حرمها الله عز وجل حلال.
ومن اعتدائهم على حرمات الله عز وجل أن يعتدوا عليها في الأشهر الحرم فيقول تبارك وتعالى ( إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاماً ويحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله).
ومن صور الشرك والتشريع لديهم: البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وهي كلها خرافات لا تعدوا أن تكون من نسيج عقلية أولئك المشركين الضالين الزائغين عن منهج الله تبارك وتعالى، هكذا كان أولئك في ذاك الوقت وفي ذاك الزمان، هذه نظرتهم للإله وهذا منهجهم في التشريع والاحتكام.
ثم بعث الله عز وجل محمداً صلى الله عليه وسلّم فيأتي أحدهم أمام النجاشي ليقول: إنا كنا قوما نأكل الخنافس ونأتي الفواحش ويقتل بعضنا بعضاً حتى بعث الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلّم . ويأتي أحدهم رستم ليقول له: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ما هي إلا أيام وقد حمل هؤلاء الرسالة، وعمت الهدايةُ الجزيرةَ كلها بعد ذلك وأشرق فيها النور، وصارت كلها خاضعةً لله تبارك وتعالى معلنة التوحيد، وانطلقت سيوف الموحدين لتطفئ نار المجوسية وتكسر صليب النصارى، وتنطلق هنا وهناك حتى كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم الذين صحبوه، تحكى أخبارهم هنا وهناك؛ فابن عمر –رضي الله عنهما- يصل إلى أذربيجان وأبو أيوب الأنصاري –رضي الله عنه- يدفن تحت أسوار القسطنطينية، ويصل سائر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم في المشرق إلى بلاد ماوراء النهر، وفي المغرب إلى المحيط، حتى مامضى ذلك الجيل إلا وقد أطفئت نار المجوسية، وكسر صليب النصارى وأعلن الكون الخضوع لله تبارك وتعالى، وصارت الكلمة في ذاك الوقت كلها لكلمة التوحيد لا إله إلا الله.
إنها نقلة عظيمة بعد تلك الحال التي لم تكن حال أسوأ منها، ولا يمكن أن يتردى البشر إلى منزلة من الحضيض في الشرك و الطغيان أكثر من تلك المنزلة، ثم ما لبث أولئك أن تجاوزوها وتركت الدعوة والتربية النبوية أثرها الفعال في ذلك الجيل الذي نشر دين الله عز وجل وقضى على كل مظاهر الشرك والطغيان التي كانت سائدة في العالم آنذاك.
للأعلى
الجانب السياسي
كان الواقع السياسي في تلك الجزيرة في غاية التخلف والانحطاط؛ فالنبي صلى الله عليه وسلّم لم يبعث في أمة مجتمعة تحت كلمة واحدة وتحت راية واحدة، لم يبعث في مجتمع موحد تجمعه رابطة واحدة، لقد كان العرب لا يدينون بالخضوع لأحد أبداً، وكان في مكة وفي جزيرة العرب وقت مبعث النبي صلى الله عليه وسلّم من الحكام والأمراء والولاة بعدد ما فيها من السكان؛ لأنه لم يكن بشر يخضع لبشر، كانت حالهم في التفرق والخصام أمر لا يخفى على من يقرأ سيرهم، ولهذا امتن الله تبارك وتعالى على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلّم بنعمته عز وجل فقال: (واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها)،ويقول صلى الله عليه وسلّم وهو يخاطب الأنصار:"ألم أجدكم عالة فأغناكم الله بي وضلالاً فهداكم الله بي ومتفرقين فجمعكم الله بي"، لقد كانت الحرب تفعل فعلها بين الأوس والخزرج، وكانوا أمة لا تقوم لهم قائمة، وحين جاء النبي صلى الله عليه وسلّم بهذه الرسالة وربى ذاك الجيل، ما هي إلا سنوات معدودة حتى كان الأوسي يقف إلى جوار أخيه الخزرجي، وكان يؤاخيه ويصاهره، كان يعدُّه أخاً له ربما أقرب إليه من أخ له في قبيلته لأنه يرى أنه أكثر طاعة لله عز جل .
كانت أمة قد أكلتها الحروب و أهلكت فيها الأخضر واليابس، كانت الحروب كما يصورها شاعرهم:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتموا *** وما هو عنها بالحديث المرجم
كانت الحروب يتحدث بها الغادي والرائح، البسوس وداحس والغبراء ويوم بعاث، أيام يعرفها الصغير والكبير ويعرفها القاصي والداني وكلها ناطقة وشاهدة على التخلف والتفرق والتشرذم والفوضى التي كانت سائدة في جزيرة العرب آنذاك، كان الولاء الذي يعرفه أولئك هو الولاء للقبيلة، كان حكيمهم وشيخهم وسيدهم يقول:
وهل أنا إلا من غزية إن غوت *** غويت وإن ترشد غزية أرشدِ
كانت القبيلة تعاب وتذم حين تكون لا تقع في الظلم:
قبيلة لا يغدرون بذمة *** ولا يظلمون الناس حبة خردل
وكان المنطق السائد:
ومن لا يذد عن حوضه بسلاحه يهدم *** ومن لا يظلم الناس يظلم
كان هذا هو المنطق السائد عند الناس، لا يعرفون إلا قيمة القبيلة والولاء للقبيلة فجاء هذا الدين وجاءت هذه الرسالة لتصهر الناس في بوتقة واحدة، لنرى نماذج عجيبة من موازين الناس ومن القيمة للناس . جاء القرشي الشريف من بني مخزوم ليقف في صف واحد مع الأوسي من بني عبد الأشهل ويقف مع مولى من الموالي، يقف الجميع لا يجمعهم إلا كلمة واحدة، ولا يلتقون إلا على راية واحدة .
من كان يتخيل أن تلك العروش من الكيانات والافتخار بالقبيلة والانتماء لها ستنهار، ليحل محلها رابطة واحدة ويرفع مكانها لواء واحد: لواء الأخوة في الله والمحبة في الله، ليكون المعيار والميزان الذي يقاس به الناس هو الدين والخضوع لله تبارك وتعالى؟
إن أولئك الشرفاء من بني مخزوم وبني أسلم ومن غفار وغيرهم، كانوا يرضون جميعا أن يسيروا في جيش تحت إمرة وطاعة مولىً من الموالي، كانوا يرضون أن يسيروا في جيش زيد بن حارثة رضي الله عنه، ثم يُؤمَّر عليهم بعد ذلك ابنه أسامة رضي الله عنه وهو مولىً وشاب لم يتجاوز العشرين من عمره، فيسير الجميع كلهم في صف واحد ويسمعون له ويطيعون ! إن كل ذلك يعود إلي أثر التربية النبوية التي تركت أثرها في ذلك الجيل العظيم.
للأعلى
الجانب الحضاري
وعلى المستوى الحضاري كان العرب أمة متخلفة منحطة، بل لم يكن للعرب آنذاك أي وزن واعتبار، حتى إن الفرس يرون أن أولئك لا يستحقون أن يغزون، فإن صدر منهم ما يسيء الأدب أوكلوا بهم إحدى القبائل المجاورة!
وحين جاءتهم كتائب التوحيد، تدعو إلي الله عز وجل ظن الفرس أن هؤلاء قد بلغت بهم الفاقة والجوع كل مبلغ، فعرضوا عليهم العروض المادية ليحلوا أزمتهم ويسدوا فاقتهم، فما كان من منطق الرجل المؤمن بالله عز وجل، إلا أن أعلن رسالته واضحة إن الله ابتعثنا لنخرج من يشاء من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ونطلق بذلك الواقع السيء، كنا في جاهلية وشرك نأتي الفواحش ونأكل الخنافس، ويأكل بعضنا بعضا فأرسل الله إلينا نبيه صل الله عليه وسلم، فتغير الحال وأقاموا بعد ذلك خير حضارة ورفعوا لواء خير أمة، حتى إن المنصفين اليوم من علماء الغرب الكافر يشيدون بالجهود التي بذلها علماء المسلمين.
للأعلى
الجانب الاجتماعي
وفي الجانب الاجتماعي كان مجتمعهم مجتمعاً تسيطر عليه الطبقية، ولهذا جاء نقد هذه المظاهر في أول الإسلام، فحينما أراد النبي صل الله عليه وسلم أن يدعو شرفاء قريش، رغبة منه أن يكسب أحداً منهم، لتكون له قيمته في الدعوة وأثره، فجاء ابن أم مكتوم وهو أعمى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فعبس النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه وأعرض عنه، فنزل العتاب من الله عز وجل: (عبس وتولى ،أن جاء الأعمى ،وما يدريك لعله يزكى ، أو يذكر فتنفعه الذكرى ….) الآيات.
وحينما جاء عتَّاب رضي الله عنه ليقابل عمر رضي الله عنه، فسأله : من استخلفت على أهل الوادي يعني أهل مكة قال: ابن أبزى قال : ومن يكون ؟ قال :مولىً من موالينا، قال :استخلفت عليهم مولىً؟ قال !! حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، قال :إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواما ويضع به آخرين.
كان أولئك لا يعرفون إلا الفخر بالأحساب والأمجاد الشخصية، وتمجيد القبيلة ومُعلَّقة عمرو بن كلثوم شاهدة بذلك والتي يبالغ فيها وصف قبيلته يقول فيها:
ونشرب إن وردنا الماء صفوا *** ويشرب غيرنا كدرا وطينا
ملأنا البر حتى ضاق عنا *** ونحن البحر نملأه سفينا
إذا بلغ الرضيع لنا فطاما *** تخر له الجبابر ساجدينا
إن اللغة التي كانت تسيطر على منطق الجميع هي لغة الافتخار بالقبيلة والطعن في أحساب الآخرين، فجاء هذا الدين وقضي على تلك الأمجاد، فلم يعد العربي يفضل على الأعجمي إلا بالتقوى.
كان مجتمعا لا يقيم وزنا للمرأة فكان أحدهم إذا بشر بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم، ويبلغ الحال به أن يختفي عن أعين الناس من سوء ما بشر به.
كانوا يمارسون التسلط والحجر على المرأة فحين تكون اليتيمة في حجر أحدهم وهي ذات مال، فإن كانت جميلة تزوجها، وإن كانت غير ذلك لم يزوجها حتى تموت، فيرثها ويأخذ مالها، وبعد أن جاء هذا الدين، غير هذه العادات الاجتماعية في أقل من عقدين من الزمن، حتى أصبحت المرأة تبشر بالجنة، فلقد بشر النبي صل الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب، ويؤكد صلى الله عليه وسلم على القيام بحقوق النساء فيقول:" فاتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم "
وكان هذا المجتمع يعاني من الفساد الأخلاقي، فكان النكاح كما تذكر عائشة رضي الله عنها
أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء: فنكاح منها نكاح الناس اليوم يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها، ونكاح آخر كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه ويعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه، فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد، فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع، ونكاح آخر يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها تقول لهم: قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع به الرجل. والنكاح الرابع: يجتمع الناس الكثيرون فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة، ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعي ابنه لا يمتنع من ذلك. فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم. (رواه البخاري).
وكانت الخمرة قد سيطرت عليهم وفعلت بهم الأفاعيل، فحين يتحدث الشاعر منهم عن معركة أو غزوة يتغنى بالخمر، بل تبلغ الخمر منزلة عند بعضهم، أن تكون مما يستحق أن يبقى في الحياة من أجلها كما قال أحدهم:
فلولا ثلاث هم من عيشة الفتى *** وربك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشربة *** كميت متى ما تعل الماء تزبد
ويقول أحدهم موصيا إذا مات أن يدفن قريبا من تلك الشجرة التي كان يصنع منها الخمر:
إذا ما مت فادفني إلى جنب كرمة *** تروي عظامي بعد موت عروقها
ولا تدفني بالفلاة فإنني *** أخاف إذا ما مت ألا أذوقها
هكذا كانت قيمتها عندهم، وحين جاء الإسلام كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم -شأنهم شأن سائر الناس- يشربون الخمر ويتغنون بها كما قال حسان رضي الله عنه:
ونشربها فتتركنا ملوكا *** وأسدا ما ينهنهنا اللقاء
حين جاء الإسلام بتحريم الخمر أراق أوتلك الآنية آلتي كانت معهم حتى امتلأت أزقة المدينة وشوارعها من الخمر.
إن الإفاضة في الحديث عن تلك النقلة حديث يطول، لكن نكتفي بهذه الأمثلة التي أشرنا إليها والتي كلها شاهدة على أن المجتمعات مهما بلغت من السوء والفساد والتأخر والتخلف، فهي قادرة على أن تسترد عافيتها وقادرة على أن تنهض من كبوتها، حين تُدْعى إلى المنهج الحق، وحين تتربى عليه.
إن التغيير الذي حصل للجيل الأول يعتبر نموذجاً، وشاهداً لكل من يحمل عزيمة وإرادة في الإصلاح والتغيير.
والتغيير الذي حصل لذلك الجيل ليس على مستوى المجتمعات فقط، بل هو على مستوى الأفراد كذلك، فحين نتأمل شخصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي كان جبارا في الجاهلية، ويرى الناس أنه أبعد الناس عن الحق، بل كانوا يرون أن يسلم حمار الخطاب ولا يسلم عمر، ولما آمن هذا الرجل، واتبع النبي صل الله عليه وسلم ، تغيرت حاله، فتراه حينما تولى الخلافة رحيما شفوقا رفيقا ولما جاء رسول كسرى ليقابل خليفة المسلمين وجد الخليفة عمر رضي الله عنه- نائما تحت الشجرة قال قولته المشهورة:
فقال قولة حق أصبحت مثلاً *** وأصبح الجيل بعد الجيل يرويها
أمنت لما أقمت العدل بينهم *** فنمت نوما قريرالعين هانيها
إن عمر رضي الله عنه وهو خليفة المسلمين كان يحمل على كتفه الدقيق والماء يوصله إلى أرملة ليمسح به دمعة عجوز، ودمعة يتيم، إن عمر لما دخل الإيمان في قلبه تغير حاله وكان خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهاك نموذج آخر: إنه مصعب بن عمير رضي الله عنه، الذي كان شابا مترفا، كان من أعطر فتيان مكة، عاش في بيئة ثرية، وليس في مكة شاب أكثر منه نضارة ووضاءة، وبعد أن تبع النبي صلى الله عليه وسلم واستشهد في غزوة أحد مقبلاً غير مدبر، بحثوا عنه بين الموتى فلما رأوه لم يجدوا ما يكفنوه به إلا ثوب واحد، إن غطوا به رأسه بدت رجلاه، وإن غطوا به رجليه بدت رأسه، رضي الله عنه وأرضاه، وأنزل الله عز وجل فيه وغيره (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً) أي تغيير حصل في شخصية ذلك الرجل الذي كان يعيش حياة الترف والرخاء؟
إن ذلك يعطينا دلالة واضحة على أن المجتمعات يمكن أن تتغير، وأن الأفراد يمكن أن يتغيروا، وذلك حينما تكون هناك تربية جادة منتجة.
يروي حذيفة رضي الله عنه حديثا يقول فيه: " كان الناس يسألون النبي صل الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن أقع فيه، فقال :إن كنا في جاهلية وشر فجاء الله بهذا الخير، فسأل حذيفة : هل بعد هذا الخير من شر؟ قال :نعم ،قال: وهل بعد هذا الشر من خير؟ قال: نعم وفيه دخن، قال :وما دخنه ؟ قال: قوم يستنون بغير سنتي، ويهتدون بغير هديي تعرف وتنكر.
لقد شهد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه سيحصل خير لهذه الأمة بعد ذلك الشر الذي سيصيبها، مما يعني أن المجتمعات يمكن أن تتغير، حين تحمل إدارة التغيير وتتربى التربية الحقة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|