= 3 = منَ الخطأ الفاحش الذي يقع فيه كثير من الرجال والنساء: أن يتصوّروا أنّ مقياسَ الحياةِ الزوجيّةِ المثاليّةِ أن تبقى العلاقَة الزوجِيّة العاطفيّة ـ بمعنى الجنسيّة ـ متأجّجة كما كانت في المرحلةِ الأولى من الزواجِ، وهَذَا التصوّر القاصر الساذج عن الحياة الزوجيّة هو السبب في كثير من حالات التفَكّكِ الأسريّ، التي يئول أمرها إلى الطلاق، وهو ناجم عَنْ فهْم مُسفّ للعلاقَة الزوجِيّة، إذ هي أسمى وأرفع من العلاقَة الجنسيّة المادّيّة، كما أنّه يخالف سنن الله تعالى في تطوّر الإنسان منْ ضعفٍ إلى قوّة، ثمّ منْ قوّة إلى ضعفٍ، ومع هذا التطوّر تتغيّر ـ في الأكثر الأغلب ـ اهتمامات الإنسان وتتبدّل، وينضج فهمه، وتتّزن مواقفه. وإذا كانت العَاطفة الزوجيّة في مرحلة القوّة والشباب تتمثّلُ في الرغْبةِ الجنسيّة، فإنّها ليست كذلك بالتأكيد في مرحلة الكُهُولَة والشيخوخة.. إنّها تصبح في حَالةٍ من السموّ الإنسانيّ، والنضج العاطفيّ، إن أحسنت رعايتها والعناية، فتسمو عن مجرّد الرغبَة الجنسيّة، والاحتباس في إطارها.
. = 4 = الحَياةُ المثاليّة أم الحياة الناجحة: في حوار عَائليّ مع بعض الأرحام حول ما جاء في هذه المذكّرات قالت إحداهنّ: إنّك تطلب في الحياة الزوجيّة المثاليّة في العَلاقة، ونحن نتمنَّى أن نصل إلى نجاحٍ مَعقول، تسير به الحياةُ الزوجيّة بصورةٍ مُرضية جيّدة.. أفلا ترى إذن أنّ ما تطلبه من الزوجين هو نوع من المثاليّة غير الواقعيّة.؟ ممّا يضعف بحثك كلّه.؟!
فقلتُ لها: إنّ المثاليّة التي أتحدّث عنْها وأطلبها مصدرها كتاب الله تعالى، وهدي نبيّه صلى الله عليه وسلم ، والأدلّة على كلّ نقطةٍ ممّا أعرضه واضحة بيّنة، ثمّ ألم يقل الله تعالى في دعاء عباد الرحمن: ( .. وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74) الفرقان، وكيف يكونون أئمّة للمتّقين إذا لم تكن حياتهم وعلاقاتهم مثاليّة.؟ وأمر آخر لابدّ من الإشارة إليه، وهو أنّ الإسلام يدعو إلى علوّ الهمّة، ويشجّع على الطموح، وأكثر الناس يقلّ واقعهم عن همّتهم وطموحهم، فأنّى لمن كانت همّته النجاح فحسب أن يناله ويدركه.؟ فمن هنا كان علوّ الهمّة والطموح محفّزاً للإنسان على تحقيق النجاح، وألاّ يقف عند نجاح واحد يحقّقه، ولا يرضى به، وإنّما يترقّى، ولا يزال يترقّى، حتّى يبلغ المثاليّة المنشودة، ويبقى الترقّي ليس له انتهاء..
ومن رزايا عصرنا المسفّة بالإنسان ومنزلته في الكون: أنّ الأنظمة الأرضيّة على اختلاف مشاربها تغري الإنسان بالإسفاف والهبوط، وتبرّر له سقوطه وانحرافه، وتدغدغ مشاعرَه الحيوانيّة ليبقى حبيسَ التفكير بالبطن والفرج. ممّا ينبغي أن يعيَه كلّ من الرجل والمرأة أنّ هناكَ اهتمامات خاصّة بالرجل، لا تعني المرأة، ولا تهمّها، وهناك اهتمامات خاصّة بالمرأة، لا تعني الرجل، ولا تهمّه، وهناك اهتمامات إنسانِيّة مشتركة عامّة، ينبغي أن تُهِمّ الرجل والمرأة، هذهِ الاهتمامات هي التي ينبغي أن يعيرها كِلا الطرفين اهتمامه، ويحرص على تنميتها وتطويرها، ويتعاون معَ الطرفِ الآخر على ذلك.
فمن الاهتمامات الخاصّة بالرجل، ولا تعني المرأة في الأغلب، ولا تهمّها: علاقاته الاجتماعيّة طبعاً مع غير النساء، واهتماماته السياسيّة والاقتصاديّة، ونجاحه الوظيفيّ، هواياته وطموحاته الخاصّة.. والأصل أن تشارك المرأة زوجها مشاعره واهتماماته، لأنّها تنعكس بالإيجاب أو السلب على حياتهما وعلاقاتهما، ولكنّ هذا هو الواقع.. ومن الاهتمامات الخاصّة بالمرأة، ولا تعني الرجل في الأغلب، ولا تهمّه: ملبسها وزينتها ومستجدّات ذلك، صداقاتها الاجتماعيّة مع النساء وعلاقاتها العاطفيّة، تعديل ترتيب البيت، الجديد في عالم الطبخ..
ومن الاهتمامات الإنسانِيّة المشتركة بين الرجل والمرأة: الرقيّ الإيمانيّ والروحيّ، العمل الخيريّ الاجتماعيّ، التنمية الثقافيّة، تنْمية الهوايات وَالمهارات الخاصّة..
= 5 = "على رسلكما.! إنّها صفيّة.."([4]). فِكرةٌ صفيّة.. فِعلةٌ صفيّة.. ذاتٌ صفيّة.. ما أسوأ أن يفعل الإنسان الفعل يريد به وجه الله تعالى، ينبع في نفسه من معين تقواه وخشيته، ويعيش به جوّاً من صفاء الروح، وبهجة القلب، ويغمر الأنس كيانه، وتكون السعادة فيما يظنّ طوع بنانه.. ثمّ يكون حظّه من أقرب الناس إليه سوء الفهم وسوء الظنّ.! وسوء الظنّ خيط أسود غليظ، لا يزال يتضخّم ويتكاثر، ويجمع إليه أمثاله وأخواته حتّى يكون ذلك النسيج الكريه جزءاً من شخصيّة الإنسان، وسمةً من سماته، وحجاباً غليظاً، وجداراً متيناً لا أمل لأحد في اختراقه، لأنّه يصبح جزءاً من تصوّر الإنسان وقناعاته الراسخة، وطبيعة تفكيره وتحليله.! ومبدأ ذلك الخيط نقطة، هي"الفِعلة الصفيّة"، التي ما كان يتوقّع لها هذه الثمرة، وكان ينبغي أن يسبقَها أو يعقبها مباشرة:"على رسلكما.!"..
وإنّ هذه الجملة النبويّة الكريمة هي جزء من منهج، وهي تعبّر عن منهج.. جزء من منهج يقوم على تقدير المشاعر، ومراقبة الهواجس البشريّة، وتفسير السلوك السويّ قبل أن يفسّر بما لم يقصد الإنسان ولم يرد، والواقعيّة في التعامل مع الناس، الذين لا يفترض فيهم المثاليّة في الفهم، ولا الإحاطة بالمواقف.. وهي تعبّر عن منهج حكيم، يوازن بين حقّ الإنسان في إتيان ما يباح له، وحقّه بل واجبه في حفظ سمعته، وصون شرفه، وحقّ الآخرين ألاّ يسبق إلى وهمهم سوء الفهم وسوء الظنّ.. لما ينجم عن ذلك من سوء العلاقة، وفساد ذات البين..
وهذا ما يجيبنا عن السؤال: لماذا عندما يختلف الزوجان تصبح الصغائر كبائر، والمناقب مثالب، ولغو القول يُعطَى أبعاداً، ويحمّل أوزاراً !؟ ولا يرتضي من يفعل ذلك أن يعامل بمثل ذلك. = 6 = في العلاقة الزوجيّة المثاليّة نُريدُ أن يتّصلَ ضعفُ المرأة بقوّة الرجل، ونقصُها بكماله، واندفاعها العاطفيّ الشديد بعقله وحكمته.. وأن يكون للرجل القدرة الكبيرة على المعالجة الحكيمة، وهذا يتطلّب مِنه بُعْد النظر، والتجرّد عن الهوى..
وأن يكون الرجلُ حسنَ الظنّ ساميَ التفكير، إن لم يغلبْه هوى زوجته، فلا يغلبنَّه هوى أخواته وأمّه، فهذا الهوى من ذاك، وكلّ أهواء النساء سواء.. ولا تنافي بين برّ الأمّ ومُدَارءة هواها بما لا يخدش البرّ، ولا يعكّر صفاءه.. وكما نريد الرجل المثاليّ، ومن حقّنا أن نريده..
فإنّنا نرِيدُ المرأة المثاليّة، التي وصفها النبيّ صلى الله عليه وسلم بأنّها إذا نظر إليها زوجها سرّته، وإذا أمرها أطاعته، وإذا غاب عنها حفظته في نفسها وماله.. إنّه لا يرى منها إلاّ البسمة الحلوة، ولا يسمع منها إلاّ الكلمة الطيّبة، ولا يجد عندها إلاّ السكينة والمودّة..
وعندما نريد المثاليّة والكمال، ونطمح إليهما فلعلّنا نبلغُ من أمنيتنا حدَّها الأدنى، ونقف من طموحنا الحقّ عند سمات الأدب، ورعاية الحقوق، وحسن التعامل مع الواقع، في زمنٍ تعصف فيه أمواج الجُحود شرقاً وغرباً، وتهبّ فيه رياح النزاع والصراع عَلى كلّ شيء..
لقد لخّص بعض المفكّرين الأدباء الأفاضل ([5]) صفات المرأة المثاليّة في نِقاطٍ شرحها في كتابه وفصّلها، فكان خلاصة ما ذكر من الصفات أنّ المرأة المثاليّة هي التي تطيع زوجها وتبرّه، وتتقرّب إلى الله تعالى بخدمته، وتبرّ أمّه وتكرم أهله، وتتودّد إلى زوجها، وتحرص على رضاه، ولا تفشي له سرّاً، ولا تعصي له أمراً، وتقف إلى جانبه في الشدائد، وتشاركه الرأي، تلقاه بالبشر والاحترام، عفيفة مُعفّة، غضيضة الطرف، جمّة الأدب، تعين زوجها على طاعة الله، وتشجّعه على الإنفاق في سبيل الله، تغضّ عن الهفوات، وتسمو عن سفساف الأمور، ولغو القول، ورديء الكلام.. وهي بذلك عنوان سعادة المؤمن في هذه الحَياة. ألم يقل النبيّ e: (مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ ثَلاثَةٌ، مِنْ سَعَادَةِ ابْنِ آدَمَ: المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالمَسْكَنُ الصَّالِحُ، وَالمَرْكَبُ الصَّالِحُ، وَمِنْ شِقْوَةِ ابْنِ آدَمَ: المَرْأَةُ السُّوءُ، وَالمَسْكَنُ السُّوءُ، وَالمَرْكَبُ السُّوءُ) ([6]).
-------------------------------------------------
([1]) ـ أخرجه الحاكم في المستدرك على الصحيحين في النكاح 6/289/ وقال: « هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، وعبد الرحمن هذا هو ابن زيد بن عقبة الأزرق مدني ثقة مأمون » ، فتعقبه الذهبي بأنّ زهيراً وثّق لكن له مناكير، وقال ابن حجر في الفتح 14/293/: سنده ضعيف، ورواه الطبرانيّ في المعجم الأوسط والبيهقيّ في شعب الإيمان وانظر فيض القدير 6 /177/.
([2]) ـ رواه البخاريّ في كتاب الجهاد والسير باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب برقم/2739/.
([3]) ـ رواه ابن ماجة في كتاب الأدب باب حقّ اليتيم برقم /3668/.
([4]) ـ جزء من حديث فيه قصّة رواه البخاري في كتاب بدء الخلق برقم /3039/ ومسلم في كتاب السلام برقم /4041/ وغيرهما.
([5]) ـ هو الدكتور محمّدعلي الهاشميّ في كتابه:"شخصيّة المرأة المسلمة كما يصوغها الإسلام في الكتاب والسنّة". ([6]) ـ رواه أحمد في المسند برقم /1368/ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ t.