لقد حصر الأصوليون صيغ العموم في الألفاظ النحوية والصرفية التالية:
1 - الجمع المعرَّف بأل غير العهدية: "الرجال، النساء".
2 - الجمع المنكَّر، كما في قوله - تعالى -: {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالاً} [ص: 62].
3 - الاسم المفرد: إذا دخلت عليه "أل غير العهدية"، كما في قوله - تعالى -: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38].
4 - اسم الجنس إذا دخلت عليه "أل" غير العهدية، كلفظ "الحيوان"، وفي النَّصِّ الشرعي: "عن ابن عباس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر، أي: العقد المجهول الكمية والكيفية"[20].
5 - أسماء الشرط: "مَن، ما"، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((مَن أحيا أرضًا مَيِّتَةً فهي له، وعلى اليد ما أخذت حتى تؤديه))؛ صحيح البخاري، ج 4، ص 23.
6 - ما معناه الشرط: "متى للزمان"، و"أين للمكان": متى جئتني أكرمتُكَ.
7 - النَّكرة في سياق النَّفي أو النهي، مثل: ما جاءني أحدٌ، لا رجلَ في الدار، ولا تَضرِب أحدًا، وفي نصوص الشريعة قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: ((لا وصية لوارث))[21].
8 - ألفاظ توكيد العام: "كل، جميع".
ومن الأمثلة يتَّضح أن دلالة اللفظ على عموم المعنى قد اقترن بأنْماط نَحْوية وصرفية مُعينة، ولم يأتِ دالاًّ بذاته، وإنَّما دلَّ على عمومٍ في سياقٍ، وتصاحب اللفظ أدواتٌ معينة كأدوات التعريف أو التنكير أو النفي؛ لتساعده في إبراز معالم العموميَّة، ويذكر السيوطي في "المزهر" أن: "العام الباقي على عمومه هو ما وضع عامًّا واستعمل عامًّا"، وقد ضرب أمثلة، منها: "كل منفرج بين جبال وآكام يكون منفذًا للسيل فهو وادٍ، وكلُّ ريح لا تُحرك شجرة ولا تُعْفي أثرًا فهي نسيم"[22].
ويشبهه في ذلك ما ورد في "كليات" أبي البقاء.
ويذكر الشيخ عبدالوهاب خلاف أنَّ "الأصوليين قد درجوا على وضع قواعد كُلِّية تحمل أحكامًا عامة، مثل: كل عقد يشترط لانعقاده أهلية المتعاقدين"[23].
وبهذا نستطيعُ أن نخرج بحقيقة مفادُها أن الأصوليين كانوا يلجؤون إلى العموم بضوابطه، بوضع أحكام أو قواعد عامة تحكم المسائل الكلية، ومِن ثَمَّ كان يهمهم الوقوف عليها بوضوح؛ لأنَّها تمثل صُلب عملهم.
2 - اللفظ العام الظاهر الذي يراد به العام ويدخله الخاص:
ويستشهد الشافعي على هذا النوع بالآيات الكريمة الآتية: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]، و{حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا} [الكهف: 77]، فأهل القرية في الآيتين لفظ عام يرادُ به خاص، أي: جزء من أهل القرية، وهذا النَّوع قد عالجه علماء اللُّغة المتأخرون، في باب تخصيص الدلالة، وكان القدماء قد عالجوها بشكل آخر في باب المجاز المرسل، الذي علاقتُه جزئية، بأن يُطلق الكل ويراد الجزء، وتخصيص أو قصر العام يؤثر في حجية العام بإخراج قَدْر غير معين منه، ويختلف الفقهاء في هذه المسألة[24].
3 - اللفظ العام الظاهر الذي يجمع العام والخصوص:
وقد ضرب له الشافعي مثلاً بقوله - تعالى -: {إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13].
فكل نفسٍ خوطبَت بهذا من زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقبله وبعده مخلوقة من ذكر وأنثى، وكلُّها شعوب وقبائل، وهذا هو العام، أما قوله - تعالى -: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فيخُص به العاقلين البالغين من بني آدم، دون المخلوقين من الدَّواب سواهم، ودون المغلوبين على عقولهم والأطفال[25].
وليس ثَمَّة فرق بين الخاص والخصوص في النَّمطين السابقَيْن؛ لأنَّ الخاص الذي يدُلُّ على فرد واحد أو أفراد مَحصورة قد جاء مُتضَمَّنًا في اللَّفظ العام على سبيل المجاز، والخصوص الذي ورد في النَّمط الثالث هو مصدر استعمل في معنى اسم "الخاص"، بل ذكر المُحقِّق أنَّها وردت في إحدى النُّسخ: "الخاص"[26]، وفيها جاء اللفظ جامعًا لمعنى العام والخاص في إطار واحد، مع ربط الخاص بمواصفاتٍ مُعينة، فجاء الخاص مستثنًى من الإطار العام، ويذهب الأصوليُّون واللغويون إلى أن الخاص يكون خصوصَ عين، أو خصوص جنس، أو خصوص نوع.
وهكذا نرى أنَّ الحدود لم تكن واضحةً عند تعريف مصطلح الخاص ومصطلح الخصوص؛ لأنَّ اللغة لم تكن قد وصلت إلى حدٍّ من التعقيد والدخول في التفاصيل الدقيقة آنذاك، وهو الأمر الذي قام به مَن جاؤوا بعد الشافعي.
4 - عام الظاهر الذي يراد به كله الخاص:
وفيه مثَّل الشافعي بلفظ "الناس" في الآية الكريمة: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران: 173]، وفي {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وقوله - تعالى -: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199]، وقوله - تعالى -: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24]، ومنها جميعًا فُهِمَ أنَّ كلَّ سياق يوضح أنَّ المقصود بلفظ الناس: "البَعض" المتَّصِف بصفات معينة عددية أو نوعية.
ففي الآية الأولى لفظ الناس الأوَّل دَلَّ على أربعة نفر، ولفظ الناس في اللغة يدل على ثلاثة نفر، ويَدُل على جميع الناس، ولفظ الناس الثاني دل على المنصرفين عن أُحُد "نوعية خاصة من الناس".
وفي الآية الثانية دل على عامة الناس.
وفي الآية الثالثة دل على العدد الذي حضَرَ الحج وشهد عرفة.
وفي الآية الرابعة دل على بعض الناس، وخصَّ بهم نوعيةً معينة هم الكفار والعُصاة الذين مآلهم إلى النار[27].
شروط التخصيص:
ويُحدد بعض اللُّغويين أدوات التخصيص التي قد ترد أحيانًا، وقد لا تستخدم - بما يلي:
1 - الاستثناء، كما في قوله - تعالى -: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282].
2 - الصفة، كما في الحديث الشريف أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب الصدقة، وكان في الغنم في كلِّ أربعين سائمة شاة، وفي رواية: وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين ففيها شاة؛ فخص هنا سائمة الغنم.
3 - الشرط، كما ورد في "الأحكام الشرعية": "مَن قال لزوجته: أنت طالق إن دخلتِ الدار، فقد أوقف الطَّلاق على حالة دخول الدَّار".
هكذا رأينا أنَّ للتخصيص دورًا آخر في تحديد بعضِ الأصول الشرعية والأحكام، ومن هنا لزم تحديد هذا المصطلح، ومعرفة الأدوات المساعدة في عمليَّة التخصيص، وقد جوَّز جمهور العُلَماء تخصيص العام من الكتاب أو السنة بالخاص من الكتاب أو السنة المتواترة أو المشهورة[28].
5 - الصنف الذي يبين سياقه معناه:
وقد استشهد عليه الشافعي بقوله - تعالى -: {وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} [الأعراف: 163]، {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} [الأنبياء: 11 - 12]، وفي كلتا الآيتين جاء لفْظُ القرية في سياقه دالاًّ على أهل القرية؛ لأنَّ القرية لا تكون عادِيَة ولا فاسقة بالعُدْوان في السبت ولا في غيره، ولا تكون ظالمة، وإنَّما أراد بالعدوان والظلم أهل القرية[29]، وشبيه بما سبق لفظ القرية الذي ورد في الآية الكريمة في سورة يوسف: {وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [يوسف: 81-82]، فالمقصود في الآية أهل القرية وأهل العير؛ فقد لعب المجاز دورًا مهمًّا في انتقال الدلالة، فاصطبغ السياق هنا بسمة خاصة[30].
6 - ما نزل عامًّا دلَّت السنَّة خاصَّة على أنَّه يُراد به الخاصُّ:
وفي هذا الباب استشهد الشافعي بآياتِ المواريث في سورة النِّساء الآيتين: (11 - 12)، وفي هاتين الآيتين وَرَدت أنصبةُ الوَرَثة إجمالاً، ثم جاءت سنة رسول الله - عليه الصلاة والسلام - ففصلت الإجماليَّ، وبيَّنت أنه أراد بالوالدِيَن أحَدَ الوالِدَين، وأراد بالأزواج بعضَ الأزواج، وبيَّنت السنة أيضًا شروطَ الوالدين والأزواج الذين يرثون، من ذلك أن يكونَ دِينُ الوالدين والمولود والزَّوجَين واحدًا هو الإسلام، وألاَّ يكون الوارث منهم قاتلاً، وألا يكون مملوكًا[31]، وفي قوله - تعالى - في الآيات السابقة: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، أَبَانَ الرَّسول أنَّ الوصايا مقتصرةٌ على الثُّلُث، ولأهل الميراث الثلثان، وأبان أيضًا أنَّه لا وصية ولا ميراث، حتَّى يَستوفِيَ أهل الدَّين دَينهم[32].
كما أوضحَ الشَّافعي أثر السنة في توضيح وتفصيل:
- غسل القَدَمين أو مسحهما من بعض المُتوضئين دون بعض.
- قطع يد السَّارق في ربع دينار فصاعدًا.
- جلد الزُّناة: "الحُرَّان البِكْران مائة جلدة"، ورجم الثَّيِّب[33].
قال الشافعي: "ففرض الله على الناس اتِّباع وحيه وسنن رسوله؛ فقال في كتابه: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 129]"[34].
وقال الشافعي أيضًا: "وسنة رسول الله مبيِّنة عن الله معنى ما أراد دليلاً على خاصِّه وعامِّه، ثم قرن الحكمة بها بكتابه فأتبعها إيَّاه، ولم يجعل هذا لأحد من خلقه غير رسوله"[35].
أما مفهوم الخاص عند الأصوليين:
من خلال ما سَبَقَ يتَّضح أن مفهوم الخاص عند الأصوليين يعني: اللَّفظ الواحد الذي لا يصلُحُ مدلوله لاشتراك كثيرين فيه، وما هو خاصٌّ بالنسبة إلى ما هو أعمُّ منه[36].
وهو تعريف رَبَط بين مدلوله اللفظي وانتفاء الاشتراك في هذا المدلول، فضلاً عن مدلوله بالنِّسبة للعام، وقد أَدْرَك الأصولِيُّون المتأخرون وحدَّدوا أنَّ الخاصَّ غير التخصيص، فهناك صيغٌ تتولى ما هو عام، والتخصيص المتَّصل منها هو ما يرد في النَّص بِمُخصِّص ملحوظ يأتي بغير صيغ الخصوص، بل بِمفهوم المدلول المستفاد من السِّياق، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ} [البقرة: 173]، فصيغة {حَرَّمَ عَلَيْكُمْ} عامَّة إلا أن سياق النَّص قد خصَّها بحالة عدم الاضطرار، أو يأتي بمُخصِّص ملفوظ، كالاستثناء والشرط والبدل والغاية والوصف، كما في قوله - تعالى -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22].
وقد ذهب الأصوليُّون - لاسيما المتأخرون منهم - مذاهبَ عديدةً في مسألة العموم والخصوص، فمنهم مَن قال بوجود صيغ العموم، ومنهم من قال: إنَّها صيغ الخصوص، وذهبت طائفة إلى القول باشتراك الصِّيغ بين العموم والخصوص، واتَّجه فريق آخر إلى القول بوقف العمل بصيغ العموم والخصوص؛ حتَّى ترد قرينةٌ تخصِّص أو تعمِّم.
وقد عرض الآمدي تلك الاتجاهات في قوله: "ذهبت المُرْجِئة إلى أن العموم لا صيغة له في لُغَةِ العرب، وذهب الشافعي وجماهير المعتزلة وكثيرٌ من الفقهاء إلى أن تلك الصِّيَغ حقيقة في العموم، مجاز فيما عداه، وذهب أرباب الخصوص إلى أنَّ هذه الصيغ حقيقة في الخصوص مجازٌ فيما عداه، وقد نُقِلَ عن الأشعري قولان: أحدُهما القول بالاشتراك بين العموم والخصوص، والآخر الوقف، وهو عدم الحُكْم بشيء مما قيل في الحقيقة في العموم أو الخصوص أو الاشتراك، ووافقه في الوقف القاضي أبو بكر، وعلى كلِّ واحد من القولين جماعةٌ من الأصوليين"[37].
والإمام الغزالي الذي نادى بوجود صيغ العموم أخذ يستدلُّ بوضعها في اللُّغة بشكل عام، وليس في اللغة العربية وحْدَها[38].
ومن أدلة أصحاب العموم:
1 - أن العموم معنى من المعاني المعقولة، وضع أهل اللغة ألفاظًا له بحاجة التعبير إليه.
2 - أن وجودَ الاستثناء في اللغة - وهو نوع من التخصيص - يدُلُّ على وجود العموم في الألفاظ؛ إذ يخرج منها ما يجب دخوله لَوْلاهُ، كما في قوله - تعالى -: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا} [العصر: 2-3].
3 - وجود ألفاظ تُؤكد صِيَغَ العموم ككل، وجميع التي تدل دلالةً واضحةً على استغراق الأفراد.
4 - عُرِفت ألفاظ العموم من الكتاب والسُّنة، فإذا لم نكن نعرف ذلك من نفس اللفظ، فقد نجِد بعض الأحكام الشرعيَّة قد وردت بصيغ العموم؛ إذ جاء في قوله - تعالى -: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185].
5 - إجماع الصَّحابة وأهل اللغة على إجراء ألفاظ الكتاب والسنة على العموم.
6 - صيغ العموم لا تَختص بلغة العرب فحسب، بل هي جارية في جميع اللُّغات.
أما أدلة الخصوص:
1 - أنَّ اللَّفظ للخصوص هو أمرٌ مُتيقن، أما تناوله للعموم فهو مُحتمل، والحقيقة في المتيقن أولى على اعتبار أنَّ الخصوص حقيقة والعموم مجازٌ، وقال البعض: "إذا وَرَدَ لفظ خاص في نصٍّ شرعي، فإنَّه يتناول مدلوله قطعًا ما لم يدل على صرفه عنه".
2 - أن صِيَغَ العموم يَكثُر استعمالها في الخصوص.
3 - أن العرب لم تضع ألفاظًا خاصة بالعموم، بل وضعت ما يصلح له ولغيره، فهي عندهم مشتركة بين العام والخاص، فقَلَّما نجد عامًّا لا يتطرق إليه التخصيص، خاصة في الكتاب والسنة؛ فقوله - تعالى -: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الحج: 1]، قد يَخص منه غير المكلَّف[39].
أما أدلة مَن قالوا بالاشتراك بين العموم والخصوص:
1 - الاستفهام يَحسن عن إطلاق الألفاظ أهي للبعض أم للكل؟
2 - العرب تستعمل الصِّيغَ فيما هو عام كما تستعمله في الخاص، وقلَّما نرى عامًّا لا يتطرَّق لتخْصيص، وجميع الآراء التي ساقها أصحابُ كل مذهب لا تصلُ بنا إلى نتائج محدَّدةٍ، واللغة العربية تأتي بالعديد من ألفاظ العموم وألفاظ الخصوص، ولكنَّها مصحوبة بقرينة "نحوية، أو صرفية، أو سياقية"، ودراسة الأصوليين لمسألة العموم والخصوص والاشتراك في أَشَدِّ الحاجة إلى تحديد مدلول اللَّفظ بما يحقق مقصد الشَّارع فيما يرمي إليه، واضعين نُصب أعينهم أهداف الشرع ومقوماته.
إنَّ الشريعة مبناها وأساسها على الحُكْم ومصالح العباد في المعاش والمعاد؛ ولذلك يتَّجه الإمام الغزالي إلى أنَّ القرينة هي التي تحدد الدلالة وليس مجرد اللَّفظ[40].
والإمام الشافعي لم يذكُر القرينة، بل ذكر السياق في عبارته: "الصنف الذي يُبيِّن سياقه معناه"[41]، ومن أهمِّ الأحكام في هذا الباب: "أحكام إطلاق الخاص وتقيُّده"، وتضم:
- العمل بالمقيد حيثما ورد مقيدًا، والعمل بالمطلق حيثما ورد مطلقًا، ما لم يدل دليل على تقييده.
- يتم حَمْل المطلق على المقيد على عدَّة أوجه، منها:
1 - اتِّحاد الموضوع والحكم ودخول الإطلاق والتقييد على الحُكم، ويأخذ به الشافعيَّة، مثال: "الحكمُ فيمَن أفطر في رمضان، وفيمن وَاقعَ امرأته في رمضان واحدٌ، وهو صيام شهرين، ولكنَّه في الأوَّل مطلق، وفي الثاني مقيد بالتتابع".
2 - اتِّحاد الموضوع والحكم ودخول الإطلاق والتقييد على السَّبب، كقول الشافعي: "لا تجب الزكاة في الإبل إلاَّ في السائمة، ولا يحرم من الدَّم إلا المسفوح".
3 - اختلاف الموضوع واتِّحاد الحكم، وأوْجب جمهور الشافعيَّة الحمل فيه "الحكم بالكفَّارة بعتق رقبة في القتل الخطأ وفي الظِّهار".
4 - اتحاد الموضوع واختلاف الحكم، مثل: "التطهُّر بالغسل في الوضوء وبالمسح في التيمم".
5 - اختلاف الموضوع واختلاف الحكم، مثل: "اختلاف كفارة القتل الخطأ عن كفارة اليمين"[42].
وفي الدِّراسات اللُّغوية الحديثة طوَّر علماء اللغة مبحثَ العام الذي يدخله خاص، أو مسألة العموم والخصوص، إلى ما يُعرَف في قوانين التطوُّر الدلالي بتوسيع الدلالة، تضييق الدلالة، انحطاط الدلالة، ارتقاء الدلالة، انتقال الدلالة من الحقيقة إلى المجاز[43].
يتبع