قراءة في (قواعد الإملاء)
د. يحيى مير علم
خامسًا: عدم الدّقّة في تحديد الفئة أو الشريحة المستهدفة أو الموجّهة إليها تلك القواعد. وقد بدا هذا جليًّا فيما تضمنه الـ«تصدير». إذ اشتمل على كلامين مختلفين، أولهما: ما جاء في المبدأ الثالث من «السعي إلى القواعد الموحدة على نطاق الوطن العربي، وخاصّة ما يتعلّق بقواعد الإملاء في الكتب المدرسية» وهو ما يدلّ على أنها تستهدف شريحة الطلبة على اختلاف مراحل التعليم. وإلاّ فما معنى عنايتها الخاصّة بقواعد الإملاء في الكتب المدرسية؟ ثانيهما: ما جاء في ختم التصدير من أن القواعد «غدت بصيغتها النهائية، ويسرّ لجنة اللغة العربية وعلومها أن تقدّم هذه القواعد الإملائية للكاتبين والمهتمين بلغتهم العربية تمكينًا لها على أقلامهم بصورة صحيحة». وهذا يدلّ على أنها موجّهة لشريحة النخبة من الكاتبين والمهتمين عصمةً لأقلامهم من الوقوع في الخطأ. ومن الصعوبة بمكان وضع قواعد إملائية، تناسب مستويات الطلبة وما يحتاجه النخبة من الكاتبين والمهتمّين بآنٍ واحد، فلكّل من الشريحتين المستهدفتين ما يناسبها من المنهج والمادّة والشرح وطرق العرض والتفصيل والتوثيق. وقد نتج عن عدم الدقّة في تحديد الغاية أو الشريحة المعنيّة ما حوته «قواعد الإملاء» من عناية بالتفصيلات والتفريعات والدقائق والاستثناءات في مواضع مختلفة، مما يناسب النخبة، لتمكينها في أقلامهم تجنّبًا للأخطاء، مضى التدليل على بعضها، وسترد أمثلة لبعضها الآخر، وكذلك ما حوته غالبًا من قواعد إملائية عامة، تناسب شرائح الطلبة، وهو كثير، لا يحتاج مثله إلى تدليل.
سادسًا: افتقار «قواعد الإملاء» إلى منهج، ينتظم الموادّ التي تُسلك آخر كل موضوع فيما سُمّي بـ «أحكام خاصة» و«توضيحات». إذ لم تجرِ فيما تضمنته تلك الأحكام على نسق واحد، مما نتج عنه أن جمعت في بعضها خليطًا من القواعد المتعلقة بالموضوع، وحالات الشذوذ (الاستثناءات) دون تصريح بها، وأشياء أخرى هي منها بسبب أو دون سبب، وقد مضت أمثلة مختلفة متفرقة تشهد لهذا[38].
سابعًا: افتقار كثير من أمثلة «قواعد الإملاء» إلى منهج واضح ينتظمها. فقد جاءت منثورةً على غير نظام، يحقّق الغاية من إيرادها، ومتفاوتةً في القلّة والكثرة، والاستقصاء والنقص، والطريقة والعرض والتكرار. لذا قصرت أحيانًا عن أداء وظيفتها في البيان والتوضيح والتدليل على تنوّع الظاهرة، ووقع فيها تكرارٌ، جعل لفظ المثال المكرّر حشوًا لا فائدة منه، على غِنى أمثلة الظاهرة، إذ لم تراعِ التنوّع والاستقصاء لأمثلة الظاهرة الواحدة. ومعلوم أن التنويع في الأمثلة مطلب منهجي وعلمي وتربوي، فضلاً عمّا فيه من زيادة في التوضيح والمعرفة، ومن إغناء للثروة اللغوية لدى الطالب بعامّة، وللمعرفة التخصّصية في التنوعات الإملائية والصرفية بخاصّة. ولا يغني عنه تصديرُ الأمثلة بلفظ «نحو» غالبًا، كما وقع في الكتاب. بيان ذلك فيما يأتي من ملاحظ، تشير إلى ضروب من الخلل والخطأ والنقص وعدم الدّقّة، وقعت في أمثلة الكتاب، وتشير إلى نظائر أخرى، سيرد بعضها لاحقًا:
1– اقتصرت «قواعد الإملاء» على مثالين لهمزة الوصل بعد تعريفها، وردا من بابة واحدة، على كثرة الأمثلة وتنوّعها وتعدّد مواضع همزة الوصل (الأسماء القياسية: مصادر الخماسي والسداسي، والأسماء السماعية، والأفعال بأنواعها: أمر الثلاثي، وماضي الخماسي والسداسي وأمرهما، و(أل) التعريف). ولفظه «..نحو(ادرُسْ، واكتُبْ)..»[39]. وظاهر أن المثال الثاني تكرار للأول، لا يفيد القارئ جديدًا، لأن الفعلين يشتركان في كونهما مثالاً لصيغة الأمر من الفعل الثلاثي، وفي تصنيفهما الصرفي: كلاهما فعل ثلاثي مجرد صحيح سالم، يتصرف من الباب الأول (فتح ضمّ). ولا شكّ أن ثمةّ نقصًا كبيرًا في الاقتصار على مثال واحد مكرّر لمواضع همزة الوصل الكثيرة المتقدّمة.
2– أوردت «قواعد الإملاء» أمثلة همزة القطع بعد ثلاثة أسطر من مثالي همزة الوصل مختلفة عن سابقتها، إذ اشتملت على ثلاثة أمثلة مفردة، متبوعةً بجملة استُعمل فيها المثال الأول، وتكرار في مثال لهمزة القطع في مصدر الرباعي المهموز، واللفظ بنصّه وضبطه «..نحو: أمَرَ، إكرَام، إنسانٌ، أمَرَ اللهُ بالإحسانِ.»[40].
يلاحظ هنا أن الأمثلة كانت لثلاثة أنواعٍ من همزات القطع:
ماضي الثلاثي المهموز، ومصدر الرباعي المهموز، واسم من الأسماء التي تبدأ بهمزة قطع. ولكنها اختلفت عن سابقتها همزة الوصل منهجًا وعددًا وتنوّعًا، ومع ذلك لم تخلُ من تكرار في مثال مصدر الرباعي المهموز (إكرام، إحسان). وفيها نقص، إذ لم تستقصِ بقية أمثلة همزات القطع، وهي أمثلة: ماضي الرباعي المهموز، وأمره، ومصدر الثلاثي مهموز الفاء، وحروف المعاني المبدوءة بهمزة قطع. والتمثيل لها أولى من تكرار مثال لموضع منها. وإتباع الأمثلة الثلاثة بجملة لتوضيح استعمال الفعل (أمر) مع مثال ثانٍ لمصدر الفعل الرباعي المهموز، لا يضيف جديدًا، بل لا داعي للجملة أصلاً، لأن التمثيل لهمزة القطع يتحقق بالألفاظ المفردة، لا بالجُمل، وهو المشهور والمعتمد في كتب الإملاء.
3- اقتصرت «قواعد الإملاء» على إيراد أربعة أمثلة لحركة الكسر في همزة الوصل، بلفظ «أ- الكسر: وهو الغالب فيها، نحو: اِجلِسْ، اِسمَعْ، اِبنٌ، اِثنانِ»[41]. وظاهر ما في الأمثلة من نقص خصوصًا في حركة الكسر الغالبة على همزة الوصل، فالأمثلة الأربعة تدلّ على نوعين مكررين، حركة همزة الوصل في أمر الفعل الثلاثي، وحركتها في الأسماء السماعية. ولا شكّ أن إيراد أمثلة أخرى متنوّعة لحركة الكسر في أنواع أخرى لهمزات الوصل كثيرة ومشهورة، وهي ماضي الأفعال الخماسية والسداسية وأمرهما ومصدرهما، مثل (اِفْتَخَرَ، اِفْتَخِرْ، اِفْتِخار. اِسْتَغْفَرَ، اِسْتَغْفِرْ، اِسْتِغْفار ) أولى من هذا التكرار.
4- اقتصرت «قواعد الإملاء» أيضًا على إيراد ثلاثة أمثلة من نوع واحد من الأسماء لحركة الفتح في همزة الوصل، بلفظ «ج – الفتح: في (ال) نحو: اَلرَّجُلُ، اَلمرأةُ، اَلطّفلُ»[42]. وكان الأولى تنويع الأمثلة لتشمل أنواعًا أخرى من الأسماء التي تدخل عليها (أل) التعريف، وهي: المصادر بأنواعها للأفعال الثلاثية والرباعية المجردة والمزيدة، والأسماء الموصولة، مثل: الأخْذ، الإسراء، الابتهاج، الاستغناء، الذي، التي وفروعهما.
5- خلت أمثلة الجُمَل والتراكيب في «قواعد الإملاء» من الاستشهاد بنماذج البيان العالي: القرآن الكريم والشعر والحديث الشريف والنثر، ما خلا موضعين، أولهما «البسملة الكاملة: بسم الله الرحمن الرحيم»[43] وردت عرضًا في كلام عادي بلا تمييز وفق أصول الترقيم وعلاماته، وثانيهما جملة من حديث مشهور «إنما الأعمال بالنيات»[44]. لذا، جاءت أمثلتها جملاً مُؤَلَّفة عادية خلاف المطلوب والمأمول من كتاب يصدر عن أعلى هيئة علمية، تعنى بالعربية وتنميتها وتمكينها وتطويرها. وقد كان في الوسع أن تجيء الأمثلة متنوّعة من نماذج البيان العالي الفصيح، ومن الجمل والتراكيب المؤلَّفة تحقيقًا.
لغايات مهمّة، وهي إكساب الطلبة وسواهم الفصاحة والبيان، وإغناء ثروتهم اللغوية بالألفاظ والتراكيب التي تحقّقها أمثلة الشواهد، إضافةً إلى التوضيح الذي تتوخّاه الأمثلة العادية. وقد ظهر جليًّا أن غير قليل من تلك الأمثلة كانت تترسّم في تأليفها وسبكها الشواهدَ القرآنية المشهورة التي وردت في كتب العلم، والتي أغفلتها «قواعد الإملاء» فظهر واضحًا الاقتباس (التناصّ) من نظم الآيات. وقد رأيت طلبًا للاختصار أن أسلك تلك الأمثلة، على صورتها في الكتاب، في جدول يتضمن الموضوع والأمثلة والآيات مقرونةً بالتوثيق:
جدول يبيّن اعتماد أمثلة «قواعد الإملاء» على الآيات (مواضع التناصّ)
الـمـوضوع
الـمثال
الآية
حذف همزة الوصل بعد همزة الاستفهام
«أَطَّلَعَ على الأمر؟» (ص3)
﴿ أطَّلَعَ الغَيْبَ ﴾ [مريم 78]
«أصطَفى الخَيرَ؟» (ص3)
﴿ أصْطَفى البَناتِ على البَنينَ ﴾[الصافات 157]
حذف همزة الوصل بعد اللام
«وللّهِ الأَمرُ» (ص3)
﴿ لِلّهِ الأمْرُ ﴾ ﴿ بَلْ لِلّهِ الأمْرُ ﴾[الروم 4 والرعد31]
«وإنَّه لَلْقَولُ الحقُّ» (ص3)
﴿ وَإنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ ﴾ [البقرة 149]
حذف همزة الوصل إذا وقعت بين
الواو أو الفاء وبين همزة هي فاء الكلمة
«اِئْتِ: وأْتِ، فأْتِ» (ص3)
﴿ فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ ﴾ [البقرة 258]
«اُؤْمُر: وأمُرْ بِالمعروفِ، فأْمُرْ باَلمعروفِ.» (ص3)
﴿ وَأْمُرْ أهْلَكَ بِالصَّلاةِ ﴾ [طه 132]
حذف الألف من (اسم)في البسملة التامة
«في البسملة الكاملة:بسم الله الرحمن الرحيم» (ص 24)
﴿ بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحيمِ ﴾[الفاتحة 1والنمل 30]
وصل (ما) بـ (نِعْمَ) و(بِئْسَ)
«نِعِمَّا يُخبِرُكُم بِهِ» (ص 26)
﴿ إنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ﴾ [النساء 58]
«وبِئْسَما يَقُولُونَ» (ص26)
﴿ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُم بِهِ إيمانُكُم ﴾[البقرة 93]
وصل (ما) الزائدة بحروف الجر
«ممَّا أفَعالِهِم عُوقِبُوا» (ص27)
﴿ مِمّا خَطيئَاتِهِم أُغْرِقوا ﴾ [نوح 25]
«عمَّا قريبٍ ستفوزون» (ص27)
﴿ قالَ عَمَّا قليلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمينَ ﴾ [المؤمنون 40]
وصل (ما) الزائدة بأدوات الشرط
«أيَّما الأمْرَيْنِ اخْتَرْتَ فأنْتَ مُصيبٌ» (ص 27)
﴿ أيَّما الأجَلَيْنِ قَضَيْتُ فلا عُدْوانَ عَلَيَّ ﴾
[القصص 28]
وصل (ما) الزائدة الكافّة بـ (رُبَّ)
«رُبَّما يَوَدُّ الَّذِينَ نَجَحُوا دُخولَ الجامِعَةِ.» (ص 27)
﴿ رُبَما يَوَدُّ الّذينَ كَفَروا لَوْ كانوا مُسْلِمينَ ﴾
[الحجر 2]
ومما تجدر الإشارة إليه أنه لم يرد في «تصدير» الكتاب ما يفسّر مثل هذا العدول عن نماذج البيان العالي الفصيح قرآنًا أو حديثًا أو شعرًا أو نثرًا إلى أمثلة مؤلَّفة عادية. جاءت دونها بكثير لغةً وبيانًا وفصاحةً، على اختلاف صورها، سواء يمّمت وجهَها شطرَ نظم الآيات، أم نأت بجانبها عنه. يشهد لصحّة هذا ما تضمّنه الجدول من أمثلة النوع الأول. ويُثبت صحّةَ النوع الثاني عقدُ أدنى موازنة بين بعض أمثلة «قواعد الإملاء» وبين نظيرها من أنواع البيان العالي الفصيح، ليظهر بجلاء فرقُ ما بينهما. ومعلوم أنه لا حرج في إيراد الأمثلة من القرآن الكريم، إذْ كان الرسم القرآني يوافق في معظمه قواعدَ الكتابة المعاصرة، وكان موضع الاستشهاد منها، وهذا أمرٌ فاشٍ في كتب الإملاء. وذلك يدفع أن يكون مثلُه سببًا لإغفال إيراد الأمثلة منه، ولو صحّ لوجب بيانه في التصدير.
وفيما يلي بضعة أمثلة في جدول، لها نظائرُ في موضوع الفصل والوصل في الأدوات (مَنْ، ما، لا):
الـمـوضوع
الأمـثلـة
أمثلة من البيان العالي الفصيح
وصل (ما) الاستفهامية بحروف الجر
«مِمَّ أفَدْتَ؟
عَمَّ تَبْحَثُ؟
بِمَ كافأتَهُ؟
إلامَ الخُلْفُ؟ علامَ الضَّجَةُ؟
حتَّامَ تَبْقَى؟ لِمَ تأخَّرْتَ؟ فِيمَ الخِلافُ؟» (ص 26)
﴿ فَلْيَنْظُرِ الإنْسانُ مِمَّ خُلِقَ ﴾ [الطارق 5]
﴿ عَمَّ يِتَساءَلونَ ﴾ [النبأ 1]
﴿ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلونَ ﴾ [النمل 35]
إلامَ الخُلْفُ بِيْنَكُمُ إلامَا؟ وهَذِي الضَّجَّةُ الكُبْرى علامَا؟وفيمَ يَكيدُ بَعْضُكُمُ لِبَعْضٍ؟وتُبْدونَ العَداوَةَ والخِصاما
﴿ قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَني أعْمَى ﴾ [طه 125]
حَتّامَ نحنُ نُساري النّجمَ فيالظُّلَمِ؟
وللموضوع تتمة