
01-10-2020, 04:00 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة :
|
|
رد: الرجولة مفهومها ووسائل تحصيلها
وذلك بأمور:
الأمر الأول: حسن التربية
فيجب أن يُربى الأبناء على الرجولة من صغرهم، وذلك بدلالتهم على خصال الخير وتدريبهم على فعلها من الكرم والجود والورع وترك الحرام، وتعلم وسائل القوة والخشونة.
فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يربي الحسن على الورع والبعد عن أخذ ما لا يحل وهو لا يزال يحبو غير مميز(9)، ويعلم عمر بن أبي سلمة أدب الأكل(10)، ويكني أخا أنس الصغير بأبي عمير(11) ليشعره بالقدر والقيمة.
وهذا عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يوصي الآباء بتربية أبنائهم على خصال القوة فيقول: "عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ وَمُقَاتِلَتَكُمْ الرَّمْيَ.."(12).
الأمر الثاني: القدوة الصالحة
فيجب أن يُربط الأطفال بقدوات معظمة في نفوسهم، محببة إلى قلوبهم، تكون هذه القدوات على المستوى من الرجولة والأخلاق الفاضلة والخصال الحميدة، مع إبراز تلك الصفات وحث الأطفال على التخلق والتحلي بها.
قال الله - تعالى -آمراً بالتأسي بالصالحين: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21].
وقال - عز وجل - عن إبراهيم وأصحابه: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [الممتحنة: 6].
وقال - سبحانه -: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف: 111].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ من بَعْدِي أبي بَكْرٍ وَعُمَرَ"(13).
وقال الشاعر:
فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إن التشبه بالكرام فلاح
فينبغي الاطلاع على سير الصالحين وقصص الأبطال والعظماء، ورواية الأدب والشعر الذي يأخذ بمجامع النفوس فيرفعها إلى المجد والسؤدد، روى ثعلب في أماليه عن ثابت بن عبد الرحمن قال: كتب معاوية بن أبي سفيان إلى زياد: "إذا جاءك كتابي فأوفد إلي ابنك عبيد الله، فأوفده عليه فما سأله عن شيء إلا أنفذه، حتى سأله عن الشعر فلم يعرف منه شيئاً، قال ما منعك من روايته؟ قال: كرهت أن أجمع كلام الله وكلام الشيطان في صدري، قال: أغرب، والله لقد وضعت رجلي في الركاب يوم صفين مراراً، ما يمنعني من الانهزام إلا أبيات ابن الإطنابة حيث يقول:
أبت لي عفتي وأبى بلائي *** وأخذي الحمد بالثمن الربيح
وإعطائي على الإعدام مالي *** وإقدامي على البطل المشيح
وقولي كلما جشأت وجاشت *** مكانك تعذري أو تستريحي
لأدفع عن مآثر صالحات وأحمى *** بعد عن أنف صحيح
وكتب إلى أبيه: أن روِّه الشعر، فروّاه فما كان يسقط عليه منه شيء(14).
الأمر الثالث: تربية النفس على ما يجلب خصال الرجولة
وأول خصلة: علو الهمة، وعلو الهمة هو: استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور، يعني أن صاحب هذه الصفة يتطلع إلى معالي الأمور ولا يرضى بما دونها، على حد قول المتنبي:
إذا غامرت في شرف مروم *** فلا تطمع بما دون النجوم
فطعم الموت في أمر حقير *** كطعم الموت في أمر عظيم
وقول أبي فراس:
وإنا أناس لا توسط بيننا *** لنا الصدر دون العالمين أو القبر
وقد حث القرآن الكريم على علو الهمة وطلب معالي الأمور في مثل قوله - تعالى -: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران: 133]، وقوله جل جلاله: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ) [المائدة: 48]، وقوله - سبحانه -: (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ) [المطففين: 26].
وكذلك حثت السنة على معالي الأمور، فقال - صلى الله عليه وسلم -: (( إن الله كريم يحب الكرم، ويحب معالي الأخلاق، ويكره سفسافها))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( فإذا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فإنه أَوْسَطُ الْجَنَّةِ، وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرحمن، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ )) (15).
وهكذا نجد جميع أدلة الشرع كتاباً وسنة تحث على علو الهمة، وترغِّب في السعي للدرجات العالية، وأما الشعراء فقد أكثروا من الحث على علو الهمة، وبيان فوائده، والافتخار به، فقال أحدهم:
فكن رجلاً رجله في الثرى *** وهامة همته في الثريا
وقال الآخر يرد على من يعاتبه في جده وإقباله على طلب العلم وترك الراحة واعتزال ما عليه أقرانه:
بِالْجِدِّ يُمْكِنُنِي تَحْقِيقَ أَحْلامِي *** فَاتْرُكْ مُعَاتَبَتِي بِاللَّهِ يَا سَامِي
إِنِّي لأَصْرِفُ أَوْقَاتِي وَأُنْفِقُهَا *** فِيمَا يُؤَهِّلُنِي لِلْمَوْقِفِ السَّامِي
يَجْتَازُ بِي الدَّهْرُ لا أَبْغِي تَصَرُّمَهُ *** حَتَّى أَوَدَّ لَوَ أنَّ الْيَوْمَ كَالْعَامِ
إِنِّي أَرَى الْعُمرَ مَهْرَ الْمَجْدِ أَطْلُبُهُ *** لِذَا حَرَصْتُ عَلَى تَقْيِيمِ أَيَّامِي
لا أَصْرِفُ الْوَقْتَ فِي لَهْوٍ وَفِي لَعِبٍ *** فَقَدْ نَهَانِي عَنِ التَّبْذِيرِ إِسْلامِي
وَلا أَرَى فِي لُزُومِ الْجِدِّ مِنْ تَعَبٍ *** بَلْ رَاحَةُ النَّفْسِ فِي جِدِّي وَإِقْدَامِي
فَكَمْ سَهِرْتُ عَلَى إِدْرَاكِ مَكْرُمَةٍ *** فَمَا تَسَبَّبَ تَسْهِيدِي بِإِيلامِي
بَلْ لَوْ تَفَطَّرَتِ الأَعْضَاءُ مِنْ تَعَبٍ *** جَاءَ النَّجَاحُ يُدَاوِي جُرْحَهَا الدَّامِي
مَا أَعْذَبَ الْقَصْدَ بَعْدَ الْجَهْدِ تُدْرِكُهُ *** يُنْسِيكَ مَا كَانَ مِنْ جَهْدٍ وَآلامِ
هَذَا شُعُورِي شُعُورُ الطَّامِحِينَ فَهَلْ *** يَسْرِي الطُّمُوحُ إِلَى أَبْنَاءِ أَعْمَامِي(16)
وعلى عكس ذلك فأنهم يذمون القاعدين القانعين بالعيش الدنيء، واللهو والدعة وقلة الفائدة وخسة النفس، يقول قائلهم:
إذا ما قطعتم ليلكم بمرامكم *** وأفنيتم أيامكم بمنام
فمن ذا الذي يرجوكم في ملمة *** ومن ذا الذي يغشاكم بسلام
رضيتم من الدنيا بأيسر *** بلغة بشرب مدام أو بلثم غلام
ولم تعلموا أن اللسان موكل *** بمدح كرام أو بذم لئام
ولكن رأس الشر تلبيس قادة *** يغرونكم زوراً بيع ذمام
تحمل التعب والمشاق شرطٌ *** لعلو الهمة الموصلة للرجولة.
كل ما تقدم نكاد نتفق عليه، فما أحد يعارض في شيء من ذلك، ولكن عند التطبيق تظهر الحقيقة، فإن شرف النفوس وعلو الهمم والمنافسة في المعالي لا يقدر عليها إلا من وطَّن نفسه على تحمل المشاق والمتاعب وترك الشهوات وتفويت الكثير مما تحب النفوس:
وإذا كانت النفوس كباراً *** تعبت في مرادها الأجسام
ويقول المتنبي:
لا تحسب المجد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتى تلعق الصَبِرا
ويقول غيره:
فقل لمرجِّي معالي الأمور *** بغير اجتهاد رجوت المحالَ
ويقول آخر:
الذل في دعة النفوس ولا أرى *** عز المعيشة دون أن يشقى لها
ولولا أن السيادة والرجولة والمجد صعب لما بقي أحد دون أن يصل إليه، ولكن الذي يمنع من الوصول إليه المشقة التي لا تتحملها النفوس الضعيفة، يقول المتنبي:
لولا المشقة ساد الناس كلهم *** الجود يفقر والإقدام قتال
ويقول ابن القيم رحمة الله - تعالى -: "وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأن بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا هم له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمل مشقة الصبر ساعةً قادهُ لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى، كان تعب البدن أوفر وحظه من الراحة أقل(17). اه.
وإن من أظهر ملامح الرجولة النجدة والمسارعة في النصرة والإعانة، وهو أمر مطلوب في الشرع كما قال - تعالى -: (وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [الأنفال: 72].
وقال - صلى الله عليه وسلم -: (( انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا، فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟ قَالَ: تَحْجُزُهُ -أَوْ تَمْنَعُهُ- مِنْ الظُّلْمِ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ))(18).
وفي حديث آخر: (( لينصر الرجل أخاه ظالماً أو مظلوماً، فإن كان ظالماً لينهه فإنه نصره، وإن كان مظلوماً فلينصره))(19).
والمقصود أن الرجل هو الذي يبادر بإجابة الداعي وإغاثة الملهوف وإعانة المحتاج والتصدي للأمور الجليلة، وقد ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المثل في ذلك، روى أنس بن مالك أنه كان فَزَعٌ بِالْمَدِينَةِ، فَاسْتَعَارَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فَرَسًا من أبي طَلْحَةَ يُقَالُ له الْمَنْدُوبُ، فَرَكِبَ فلما رَجَعَ قال: "ما رَأَيْنَا من شَيْءٍ وَإِنْ وَجَدْنَاهُ لَبَحْرًا"(20).
والعرب يتفاخرون بالنجدة وإدراك المستغيث، يقول طرفة بن العبد:
إذا القوم قالوا مَن فتى خلت *** أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
وقال الآخر:
إنىِّ لِمنْ مَعْشَرٍ أفْنَى أوائِلَهْم *** قَوْلُ الكُمَاةِ ألاَ أيْنَ المُحَامُونَا
أما هذا فقد تضجر بقومه الذين لا يدركون من استغاث بهم، ولا يحمون دماءهم وتمنى أن له بهم قوماً آخرين، فيقول:
لو كنتُ من مازن لم تستَبح إبلي *** بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا
إذاً لقام بنصري معشَرٌ خُشُن *** عند الحفيظة إن ذو لوثة لانا
قوم إذا الشرُّ أبدى ناجذيه لهم *** طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا
لا يسألون أخاهُم حين يندُبُهم *** في النائبات على ما قال برهانا
لكنّ قومي وإن كانوا ذوي عددٍ *** ليسوا من الشرِّ في شيءٍ وإن هانا
يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً *** ومن إساءة أهل السوء إحسانا
كأن ربك لم يخلُق لخشيتهِ *** سواهُم من جميع الناس إنسانا
فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا *** شدّوا الإغارة فرسانا وركبانا
ويقول آخر:
رب وامعتصماه انطلقت *** ملء أفواه الصبايا اليتم
لامست أسماعهم لكنها *** لم تلامس نخوة المعتصم
وما أشبه هذه الأبيات بحالنا، فإن أكثر الأمة اليوم ومنها أهل بلادنا لا يفكرون إلا في أحوالهم، وما يهمهم من أمورهم الخاصة فقط، ويأخذون بمبدأ "ما حولي"، و"ما سيبي"(21).
وقد كان العرب دوماً يخافون من الذم واللوم الذي يلحقهم نتيجة التقصير ونحوه، ومما شاع في بلادنا قولهم: "يا لوماه"(22) وهي ميزان عظيم للرجولة يلوذ به الرجل الشهم حين يساوم على أمر يورثه عاراً، وهذه الكلمة أصيلة أصالة العرب قبل الإسلام، فإن أحدهم يركب الصعاب، ويضحي بالحبيب والقريب من أجل أن لا يذم ويرخص عرضه، وهل قتلوا الموءودة إلا خوفاً من العار!
ولقد حافظ أبو سفيان على الصدق والاعتراف بكل الفضل للرسول - صلى الله عليه وسلم - وهو ألد أعدائه آنذاك من أجل أن لا يؤثر عنه الكذب(23)، وقرر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن اتقاء الشبهات يستبرأ للدين والعرض(24)، ومن شدة تحرزه من تخيل ما لا يليق به - صلى الله عليه وسلم - قال للأنصاريين حينما مرا، وكان مع صفية عند باب المسجد: (( على رِسْلِكُمَا إِنَّهَا صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيٍّ )) (25).
وفي صحيح مسلم عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: "قَسَمَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَسْمًا فقلت: والله يا رَسُولَ اللَّهِ لَغَيْرُ هَؤُلَاءِ كان أَحَقَّ بِهِ منهم. قال: (( إِنَّهُمْ خَيَّرُونِي أَنْ يَسْأَلُونِي بِالْفُحْشِ أو يُبَخِّلُونِي فَلَسْتُ بِبَاخِلٍ )) (26).
وما أعظم ما صور به الخطيئة حال العربي الذي يراد منه فعل مكرمة وهو غير قادر عليها، وكيف يفعل حتى ينفي عنه العار ويذبح ابنه لضيفه؛ قال:
وَطاوي ثَلاثٍ عاصِبِ البَطنِ مُرمِلٍ *** ببيداءَ لَم يَعرِف بِها ساكِنٌ رَسما
أَخي جَفوَةٍ فيهِ مِنَ الإِنسِ وَحشَةٌ *** يَرى البُؤسَ فيها مِن شَراسَتِهِ نُعمى
وَأَفرَدَ في شِعبٍ عَجُوزاً *** إِزاءها ثَلاثَةُ أَشباحٍ تَخالُهُمُ بَهما
حفاة عراة ما اغتذوا خبز ملة *** ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما
رَأى شَبَحاً وَسطَ الظَلامِ فَراعَهُ *** فَلَمّا بَدا ضَيفاً تَشمَّرَ وَاهتَمّا
وقال:
هيا رباه ضيف ولا قرى بحقك *** لا تحرمه تاالليلة اللحما
وَقالَ اِبنُهُ لَمّا رَآهُ بِحَيرَةٍ أَيا أَبَتِ *** اِذبَحني وَيَسِّر لَهُ طُعما
وَلا تَعتَذِر بِالعُدمِ عَلَّ الَّذي *** طَرا يَظُنُّ لَنا مالاً فَيوسِعُنا ذَمّا
فَرَوّى قَليلاً ثُمَّ أََجحمَ بُرهَةً *** وَإِن هُوَ لَم يَذبَح فَتاهُ فَقَد هَمّا
فَبَينا هُما عَنَّت عَلى البُعدِ عانَةٌ قَد ** انتَظَمَت مِن خَلفِ مِسحَلِها نَظما
عِطاشاً تُريدُ الماءَ فَاِنسابَ نَحوَها *** عَلى أَنَّهُ مِنها إِلى دَمِها أَظما
فَأَمهَلَها حَتّى تَرَوَّت عِطاشُها *** فَأَرسَلَ فيها مِن كِنانَتِهِ سَهما
فَخَرَّت نَحوصٌ ذاتُ جَحشٍ سَمينَةٌ *** قَدِ اِكتَنَزَت لَحماً وَقَد طُبِّقَت شَحما
فَيا بِشرَهُ إِذ جَرَّها نَحوَ قَومِهِ *** وَيا بِشرَهُم لَمّا رَأَوا كَلمَها يَدمى
فَباتَوا كِراماً قَد قَضوا حَقَّ ضَيفِهِم *** فَلَم يَغرِموا غُرماً وَقَد غَنِموا غُنما
وَباتَ أَبوهُم مِن بَشاشَتِهِ أَباً *** لِضَيفِهِمُ وَالأُمُّ مِن بِشرِها أُمّا
ولله در أبي تمام في تصويره لرجولة المجاهد الكبير محمد بن حميد الطوسي، وكيف اختار الموت على أن يجلب إليه العار فقال:
فتىً دهره شطران فيما ينوبه *** ففي بأسه شطرٌ وفي جوده شطر
فَتىً ماتَ بَينَ الضَربِ وَالطَعنِ *** ميتَةً تَقومُ مَقامَ النَصرِ إِن فاتَهُ النَصرُ
وما مات حتى مات مضرب سيفه *** من الطعن واعتلت عليه القنا السمر
وَقَد كانَ فَوتُ المَوتِ سَهلاً فَرَدَّهُ *** إِلَيهِ الحِفاظُ المُرُّ وَالخُلُقُ الوَعرُ
وَنَفسٌ تَعافُ العارَ حَتّى كَأَنَّهُ *** هُوَ الكُفرُ يَومَ الرَوعِ أَو دونَهُ الكُفرُ
فَأَثبَتَ في مُستَنقَعِ المَوتِ رِجلَهُ *** وَقالَ لَها مِن تَحتِ أَخمُصِكِ الحَشرُ
غَدا غَدوَةً وَالحَمدُ نَسجُ رِدائِهِ *** فَلَم يَنصَرِف إِلّا وَأَكفانُهُ الأَجرُ
تَرَدّى ثِيابَ المَوتِ حُمراً فَما *** أَتى لَها اللَيلُ إِلّا وَهيَ مِن سُندُسٍ خضْرُ
وقال الشافعي - رحمه الله - لابنه أبي عثمان: "والله لو أعلم أن الماء البارد يثلم مروءتي ما شربت إلا حاراً"(27).
قال ابن المبارك قيل للأحنف: "بم سوّدوك؟ قال: لو عاب الناس الماء لم أشربه"(28).
هذه الرجولة التي يجب أن نتحلى بها ونربي عليها أبناءنا، أسأل الله - تعالى -لي ولكم التوفيق والسداد، والله - تعالى -أعلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) المفردات في غريب القرآن: (1/ 189).
(2) متفق عليه، رواه البخاري برقم: (5202)، ومسلم برقم: (2431).
(3) رواه البيهقي شعب الإيمان: (6/ 67) برقم: (7539).
(4) العقد الفريد لابن عبد ربه: (2/ 136).
(5) كما أخرج مسلم في صحيحه: (2312) من حيث أنس - رضي الله عنه -.
(6) ديوان الحماسة: (2/ 37).
(7) صحيح البخاري: (1277، 2093، 5810).
(8) أخرجه البخاري: (6114)، ومسلم: (2609) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - مرفوعاً.
(9) أخرج البخاري: (1491، 3072) ومسلم: (1069) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - أَنَّ الْحَسَنَ بْنَ عَلِيٍّ - رضي الله عنهما - أَخَذَ تَمْرَةً مِنْ تَمْرِ الصَّدَقَةِ فَجَعَلَهَا فِي فِيهِ فَقَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - بِالْفَارِسِيَّةِ: (( كِخْ كِخْ أَمَا تَعْرِفُ أَنَّا لَا نَأْكُلُ الصَّدَقَةَ )).
(10) أخرج البخاري: (5376، 5378) ومسلم: (2022) من حديث عُمَرَ بْنَ أَبِي سَلَمَةَ يَقُولُ: كُنْتُ غُلَامًا فِي حجْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَكَانَتْ يَدِي تَطِيشُ فِي الصَّحْفَةِ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( يَا غُلَامُ سَمِّ اللَّهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ، فَمَا زَالَتْ تِلْكَ طِعْمَتِي بَعْدُ)).
(11) أخرج البخاري: (6129، 6203)، ومسلم: (2150) من حديث أَنَس بْنَ مَالِكٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: "إِنْ كَانَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - لَيُخَالِطُنَا حَتَّى يَقُولَ لِأَخٍ لِي صَغِيرٍ: (( يَا أَبَا عُمَيْرٍ مَا فَعَلَ النُّغَيْرُ)).
(12) أخرجه أحمد: (323) وابن الجارود في المنتقى: (964) وغيرهما من حديث أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة بن الجراح: "أَنْ عَلِّمُوا غِلْمَانَكُمْ الْعَوْمَ، وَمُقَاتِلَتَكُمْ الرَّمْيَ، فَكَانُوا يَخْتَلِفُونَ إِلَى الْأَغْرَاضِ.. "، وسنده حسن.
وأخرجه ابن أبي الدنيا في كتاب العيال (398) من وجه آخر بسند فيه ضعف عن قلابة بلفظ: قال عمر - رضي الله عنه -: "علموا أولادكم العوم، والرماية، ونعم لهو المرأة المغزل".
وأخرجه القراب في "فضائل الرمي" كما ذكر صاحب كنز العمال: (11386) عن مكحول أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - كتب إلى أهل الشام: "أن علموا أولادكم السباحة، والرمي، والفروسية". ولم نقف على سنده إلا أن مكحولاً لم يدرك عمر - رضي الله عنه -.
(13) أخرجه الترمذي: (5/ 609) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله مرفوعاً. وهو ثابت من حديث حذيفة بن اليمان، وأنس بن مالك، وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - جميعاً، وصححه الألباني في صحيحه: (1233).
(14) مجالس ثعلب: (ص17)، والمزهر في علوم اللغة والأدب: (2/ 266).
(15) رواة الطبراني في الكبير: (5928) وغيره من حديث سهل بن سعد - رضي الله عنه -، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2682).
(16) رواه البخاري: (2790، 7423) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً.
(17) هذه قصيدة قلتها عندما كنت أدرس في الجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام.
(18) مفتاح دار السعادة: 2/ 15.
(19) أخرجه البخاري: (6952) من حديث أَنَسٍ - رضي الله عنه -.
(20) أخرجه الدارمي: (2753) وغيره من حديث جابر - رضي الله عنه - مرفوعاً، وصححه الألباني في صحيح الجامع: (2381).
(21) أخرجه البخاري: (2627) ومسلم: (2307).
(22) كلمتان من اللهجة الدارجة في حضرموت ومعناهما: "لا دخل لي بأحد، ولو حصل ما حصل".
(23) كلمة باللهجة الدارجة الحضرمية، تقال إذا أراد أن يفعل الشخص فعلاًَ يلام عليه ويعاب.
(24) كما ثبت في الحديث الذي أخرجه البخاري: (7) ومسلم: (1773) من حديث ابن عباس - رضي الله عنهما -، وفيه يقول أبو سفيان: "فَوَاللَّهِ لَوْلَا الْحَيَاءُ مِنْ أَنْ يَأْثِرُوا عَلَيَّ كَذِبًا لَكَذَبْتُ عَنْه".
(25) كما في الحديث الذي أخرجه البخاري: (52) ومسلم: (1599) من حديث النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ - رضي الله عنه - يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (( الْحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ..)) الحديث.
(26) رواه البخاري: (2035) ومسلم: (2175) من حديث صَفِيَّةَ زَوْجَ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم -.
(27) مسلم 1056).
(28) آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم الرازي: (72).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|