
01-10-2020, 03:59 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,216
الدولة :
|
|
الرجولة مفهومها ووسائل تحصيلها
الرجولة مفهومها ووسائل تحصيلها
أحمد بن حسن المعلم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد عليه الصلاة وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا له إلا لله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
أسباب اختيار الموضوع:
لقد فكرت في هذا الموضوع طويلاً، ونظرتُ في أحوال مهاجرينا من الرجال، صغاراً وكباراً شباباً وشيباً، فوجدتُ أن التربية على الرجولة ومعالي الأمور ومكارم الأخلاق قد ضعُفت، وترتب على ذلك غياب كثير من مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وعلو الهمم، وظهر بل تكاثر أضرارها، وأورث كثيرٌ من الآباء كثيراً من خوارم الرجولة ونواقضها لأبنائهم وربوهم عليها.
فأردت أن أذكر شيئاً منها، وأحذر مما فشا من أضرارها، والذكرى تنفع المؤمنين.
تعريف الرجولة:
الرجولة وصف زائد على مجرد الذكورة، ففي أصل العربية: "الرجل مختص بالذكر من الناس"(1) ولكن هذا التعريف ليس فيه تشريفٌ للرجال إلا بمقدار ما فضلهم الله على النساء، كما في قولة - تعالى -: ( وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ) [البقرة: 228]، وقولة - تعالى-: ( وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى) [آل عمران: 36].
فجنس الرجال أفضل عموماً من جنس النساء، ولكني لا أريد هذا المعنى وإنما أريد وصفاً زائداً على ذلك يتفاضل فيه الرجال على بعضهم البعض، ومن هنا يمكن القول بأن الرجولة المقصودة هنا هي: "صفات، وأخلاق، وشيم حميدة، يمدح الشخص على قدر اتصافه بها، ويزيد قدره كلما ازداد منها"؛ ولذلك نسمع كثيراً من يقول عن شخص: هذا رجل، فلو كان يعني أنه عكس المرأة لما كان للكلام فائدة إذ الجميع يعرف أنه عكس المرأة بسماته الخَلْقية المعروفة، لكن المتحدث لا يعني ذلك، وإنما يعني أنه رجل فيه صفات يتميز بها عن كثير من أبناء جنسه، فالرجولة التي نعنيها هي الخُلُقية لا الخَلْقية.
وهذه المحاضرة تتحدث عن تلك الصفات التي يستحق من اتصف بها أن تميزه بأنه رجل والله الموفق.
الرجولة في القرآن:
لقد تكرر في القرآن ذكر الرجال وهو على ضربين: ضرب يقصد به عكس النساء، كما في قوله - تعالى -: ( وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ) [النساء: 1].
وأما الضرب الآخر ففيه معنى زائداً على ذلك: إذ يذكر الرجال مقترنين بصفة شريفة أو عمل عظيم.
ومن ذلك:
1- رجولة دين ومجاهدة نفس وزهد في الدنيا:
مزايد نفس في تقى الله لم تدع *** له غاية في جدها واجتهادها
فما مالت الدنيا به حين أشرقت *** له في تناهي حسنها واحتشادها
لَسَجَّادةُ السجاد أحسن منظراً *** من التاج في أحجارها واتقادها
2- رجولة شجاعة وثبات وحفظ عهود وبيع للنفوس في سبيل خالقها ليكون مهرها الجنة:
فكل واحد منهم جدير بقول الشاعر:
رسا جبلاً في الدين فهو بنصره *** إذا ما تراخى الصادقون مكلف
ترى ملكاً في بردتيه وتارة *** ترى الليث من أعطافه الموت ينطف
إذا سار هز الأرض بأساً وقلبه *** إذا قام في المحراب بالذكر يرجف
يلوح التقى في وجهه فكأنه *** سنا قمر أو بارق يتكشف
3- أما هؤلاء فقد جمعوا جميع أصناف الرجولة:
الصدق والأمانة والشجاعة والصبر والنصح والرحمة وكل ما يخطر على البال من جميع الخصال: ( الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا ) [الأحزاب: 39].
وحسبك قول الله - تعالى- في خاتمهم وسيدهم محمد - صلى الله عليه وسلم -: ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) [القلم: 4]، وهذا يشمل جميع خصال الرجولة، وقد قال الشاعر فيه:
خلقت مبرأً من كل عيب *** كأنك قد خلقت كما تشاء
قوله - تعالى -: ( فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ) [النور: 36-37].
وقوله: ( مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 23].
وقوله: ( وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [النحل: 43].
ولفظ رجل جاء في عدة مواضع مقروناً بصفات عظيمة كقوله - تعالى -: (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) [يس: 20].
وقوله جل ذكره: (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ) [غافر: 28]، ولو ذهبت أتتبع ما في القرآن من هذا النوع لطال المقام.
الرجولة في الحديث:
لم أجد في الحديث حسب استحضاري المحدود ذكراً للفظ الرجل مراداً به صفات خاصة، وإنما هناك حديث يفيد اتصاف كثير من الرجال بالكمال، وذلك فيما رواه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: قال رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (( كَمَلَ من الرِّجَالِ كَثِيرٌ ولم يَكْمُلْ من النِّسَاءِ إلا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَفَضْلُ عَائِشَةَ على النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ على سَائِرِ الطَّعَامِ))(2).
فالكمال لدى الرجال ممكن، وبالفعل كمل كثير منهم مابين نبي وصديق وصالح، ومادام الشيء ممكناً فإن صاحب النفس الأبية والهمة العليَّة سوف يبذل قصارى جهده للوصول إليه؛ وبمقدار ما يحقق كل واحد من خصال الكمال تتفاوت مقادير الرجال، وقد اعتبر المتنبي من العيب التقصير في ذلك مع إمكانه فقال:
ولم أر في عيوب الناس شيئاً *** كنقص القادرين على التمام
الرجولة عند العلماء والحكماء:
لقد تحدث العلماء والحكماء والمربون عن الرجولة ومرادفاتها مثل المروءة والفتوة ونحو ذلك، وأكتفي بكلمة جامعة لعالِمَين حكيمَين من سلفنا الصالح هما: سفيان بن عيينة وحماد بن زيد حيث قالا: "لا تتم الرئاسة للرجال إلا بأربع: علم جامع، وورع تام، وحلم كامل، وحسن التدبير، فإن لم تكن هذه الأربع فمائدة منصوبة، وكف مبسوطة، وبذل مبذول، وحسن المعاشرة مع الناس، فإن لم يكن هذه الأربع فبضرب السيف، وطعن الرمح، وشجاعة القلب، وتدبير العساكر، فإن لم يكن فيه من هذه الخصال شيء فلا ينبغي له أن يطلب الرئاسة(3).
حدد هذا الأثر ميادين الرجولة وهي ثلاثة:
رجولة من أجل الدين وما يرفع الإنسان في الآخرة، ورجولة الكرم والجود ونفع الناس في الدنيا، ورجولة الشجاعة والإقدام وحفظ ذمار الأمة.
أما في الميدان الأول فهناك أربع خصال يكمل بها الرجل ويرأس:
1- العلم الجامع.
2- الورع التام.
3- الحلم الكامل.
4- وحسن التدبير.
1- أما العلم الجامع: فقد أفردنا الكلام عليه مراراً وتكراراً لأهميته وخطورة التفريط في تحصيله.
2- وأما الورع فهو: ترك ما يريبك، ونفي ما يعيبك، والأخذ بالأوثق، وحمل النفس على الاتقاء.
3- وأما الحلم الكامل فهو:
ضبط النفس عند هيجان الغضب، أو ترك الانتقام عند شدة الغضب مع القدرة على ذلك، وانظر لهذا الحلم فقد قيل للأحنف بن قيس: ممنِ تعلَّمت الحِلْم؟ قال: من قيس بن عاصم المِنْقريّ -وكان صحابياً رضي الله عنه- رأيتهُ قاعداً بفِناء داره مُحْتبياً بحمائل سَيْفه يُحَدِّث قَومه؟ حتى أُتي برجُلٍ مكتوف ورجُل مقتول، فقيل له: هذا ابن أخيك قَتل ابنك؟ فواللّه ما حَلَّ حَبْوته، ولا قطَع كلامه، ثم التفت إلى ابن أخيه فقال له: يا ابن أخي، أَثِمت برّبك، ورَمَيت نفسَك بسَهْمك، وقتلتَ ابن عمك. ثم قال لابنٍ له آخر: قم يا بني فوارِ أخاك، وحُلّ كِتاف ابن عمك، وسُق إلى أُمِّه مائة ناقة ديةَ ابنها فإنها غَريبة، ثم أنشأ يقول:
إِنِّي امرؤ لا شائنٌ حَسَبي *** دَنَس يهجنه ولا أفْنُ
من مِنْقرٍ في بيت مكْرُمة *** والغُصن يَنْبُت حولَه الغُصْن
خطباء حي يقول قائلُهم *** بيضُ الوُجوه أعفّه لُسْن
لا يفطنون لعَيْب جارهمُ *** وهمُ لحفْظ جِواره فُطْنُ(4)
4- وأما حسن التدبير فهو: الإدارة الناجحة للأمور، ويقصد به هنا الاتباع، ورعاية الأحوال والقيام بالمسئوليات على أحسن وجه.
الميدان الثاني ميدان الكرم والجود ونفع الناس وهذا يتم حسب ما ورد في الأثر ب:
1- مائدة منصوبة.
2- وكف مبسوطة.
3- وبذل مبذول.
4- وحسن المعاشرة للناس.
- أما المائدة المنصوبة فهي رمز الكرم وإطعام الضيفان.
- وأما الكف المبسوطة فهي رمز الجود والعطاء.
- وأما البذل المبذول فهو وجود المال ثم بذله في وجوه الخير.
وأكمل الخلق في ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فهو يعطي عطاء من لا يخشى الفقر(5)، والعرب عموماً أهل كرم وجود، وإنما اشتهر من اشتهر منهم بذلك لمبالغته في الكرم والجود.
ومن أشهرهم في الجاهلية حاتم الطائي، وفي الإسلام كثير جداً من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، وقد اشتهر معن بن زائدة وأثنى عليه بذلك الثناء العاطر.
ومن أشهر ما قيل فيه:
يقولون معن لا زكاة لماله *** وكيف يزكي المال من هو باذله
إذا حال حول لم تجد في دياره *** من المال إلا ذكره وجمائله
تراه إذا ما جئته متهللاً *** كأنك تعطيه الذي أنت نائله
تعوَّد بسط الكف حتى لو أنه *** أراد انقباضاً لم تطعه أنامله
فلو لم يكن في كفه غير نفسه *** لجاد بها فليتق الله سائله
ولأهل حضرموت مشاركة جيدة في تلك الخصال، فهذا المقنع الكندي -وهو من دوعن- يفتخر بجوده وكرمه ويرد على من يلومه في ذلك يقول:
يُعاتِبُني في الدينِ قَومي *** وَإِنَّما دُيونيَ في أَشياءَ تُكسِبُهُم حَمدا
أَلَم يَرَ قَومي كَيفَ أوسِرَ مَرَّة *** وَأُعسِرُ حَتّى تَبلُغَ العُسرَةُ الجَهدا
فَما زادَني الإِقتارُ مِنهُم تَقَرُّباً *** ولا زادني فضل الغنى منهُمُ بعدا
أسدُّ به ما قد أخلوا وضيعوا *** ثُغورَ حُقوقٍ ما أَطاقوا لَها سَدّا
وَفي جَفنَةٍ ما يُغلَق البابُ دونها *** مُكلَّلةٍ لَحماً مُدَفِّقةٍ ثَردا
وَفي فَرَسٍ نَهدٍ عَتيقٍ جَعَلتُهُ *** حِجاباً لِبَيتي ثُمَّ أَخدَمتُه عَبدا
وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي *** وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفٌ جِدّا
أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُمُ *** دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتيتُهُم شَدّا
فَإِن أكلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم *** وَإِن هدموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا
وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُم *** وَإِن هُم هَوَوا غَييِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا
وَإِن زَجَروا طَيراً بِنَحسٍ تَمرُّ بي *** زَجَرتُ لَهُم طَيراً تَمُرُّ بِهِم سَعدا
وَإِن هَبطوا غوراً لِأَمرٍ يسوؤني *** طَلَعتُ لَهُم ما يَسُرُّهُمُ نَجدا
فَإِن قَدحوا لي نارَ زندٍ يَشينُني *** قَدَحتُ لَهُم في نار مكرُمةٍ زَندا
وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً *** وَصَلتُ لَهُم مُنى المَحَبَّةِ وَالوُدّا
وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم *** وَلَيسَ رئيسُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدا
فَذلِكَ دَأبي في الحَياةِ وَدَأبُهُم *** سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا
لَهُم جُلُّ مالي إِن تَتابَعَ لي غنى *** وَإِن قَلَّ مالي لَم أُكَلِّفهُم رِفدا
وَإِنّي لَعَبدُ الضَيفِ ما دامَ نازِلاً *** وَما شيمَةٌ لي غَيرُها تُشبهُ العَبدا
عَلى أَنَّ قَومي ما تَرى عَين ناظِرٍ *** كَشَيبِهِم شَيباً وَلا مُردهم مُرداً
بِفَضلٍ وَأَحلام وجودٍ وَسُؤدُد *** وَقَومي رَبيع في الزَمانِ إِذا شَدّا
وفي الوقت الذي يفتخر بالكرم والجود والسماحة وحفظ الحقوق تراه يذم البخل ويحرض على تركه فيقول:
إِنّي أُحَرِّض أَهلَ البُخلِ كُلِّهُم لَو *** كانَ يَنفَعُ أَهلَ البُخلِ تَحريضي
ما قَلَّ ماليَ إِلّا زادَني كَرَماً *** حَتّى يَكونَ برزقِ اللَهِ تَعويضي
وَالمالُ يَرفَعُ مَن لَولا دَراهِمُهُ *** أَمسى يُقَلِّب فينا طرفَ مَخفوضِ
لَن تُخرِج البيضُ عَفواً مِن أكُفِّهُم *** إِلا عَلى وَجَعٍ مِنهُم وَتَمريضِ
كَأَنَّها مِن جُلودِ الباخِلينَ بِها *** عِندَ النَوائِبِ تُحذى بِالمَقاريضِ(6)
وهناك خصلة أرفع من الكرم وهي الإيثار إذ غالباً يكون الكرم مع الغنى، وأما الإيثار فهو مع العدم والقلة، وهذه الخصلة هي التي مدح الله بها الأنصار في قولة - تعالى -: (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر: 9].
وللرسول - صلى الله عليه وسلم - من ذلك الشيء الكثير منها قصة رواها البخاري في صحيحه تعد عَلَماً من أعلام نبوة النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعجزة من معجزات أخلاقه؛ تصديقاً لقول الله - تعالى -: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم: 4]، لا يكاد المرء يتصور وجودها، ولولا أنها صحيحة في البخاري لشك الواقف عليها في صحة سندها.
فعن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: "أَنَّ امْرَأَةً جَاءَتْ إلى رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - بِبُرْدَةٍ قال: وما الْبُرْدَةُ؟ قال: الشَّمْلَةُ، قالت: يا رَسُولَ اللَّهِ! إني نَسَجْتُ هذه بِيَدِي لِأَكْسُوَكَهَا فَأَخَذَهَا رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجًا إِلَيْهَا، فَخَرَجَ عَلَيْنَا فيها وَإِنَّهَا لَإِزَارُهُ، فَجَاءَ فُلَانُ بن فُلَانٍ رَجُلٌ سَمَّاهُ يَوْمَئِذٍ فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ! ما أَحْسَنَ هذه الْبُرْدَةَ اكْسُنِيهَا قال: نعم، فلما دخل طَوَاهَا وَأَرْسَلَ بها إليه فقال له الْقَوْمُ: والله ما أَحْسَنْتَ كُسِيَهَا النبي - صلى الله عليه وسلم - مُحْتَاجًا إِلَيْهَا ثُمَّ سَأَلْتَهُ إِيَّاهَا، وقد عَلِمْتَ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَائِلًا، فقال: إني والله ما سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِأَلْبَسَهَا وَلَكِنْ سَأَلْتُهُ إِيَّاهَا لِتَكُونَ كَفَنِي فقال سَهْلٌ: فَكَانَتْ كَفَنَهُ يوم مَاتَ"(7).
وأما الميدان الثالث فهو ميدان الشجاعة، هذا الميدان الذي تتفاخر به الأمة على مر العصور، وتضرب الأمثال بالشجاعة في كثير من المناسبات، وللعرب والمسلمين من ذلك أوفر نصيب وأكثر حصة.
كانت في العرب جبلة وفطرة وتربية وسجية، فلما جاء الإسلام حافظ على ما عند العرب منها ثم زادها رسوخاً وشموخاً إذ جعلها ديناً؛ فهي الطريق الموصل إلى الشهادة والجنة ورضوان رب العالمين، وما أكثر ما يتفاخر العرب ويتمادحون بالشجاعة، فمن افتخارهم بالشجاعة قول السموأل:
وَإِنّا لَقَومٌ لا نَرى القَتلَ سُبَّةً *** إِذا ما رَأَتهُ عامِرٌ وَسَلولُ
يُقَرِّبُ حُبُّ المَوتِ آجالَنا لنا *** وَتَكرَهُهُ آجالُهُم فَتَطولُ
وَما ماتَ مِنّا سَيِّدٌ حَتفَ أَنفِهِ *** وَلا طُلَّ مِنّا حَيثُ كانَ قَتيلُ
تَسيلُ عَلى حَدِّ الظُباتِ نُفوسُنا *** وَلَيسَت عَلى غَيرِ الظُباتِ تَسيلُ
ويقول عنترة العبسي:
لعمرُك إن المجد والفخر والعلا *** ونيلَ الأماني وارتفاعَ المراتبِ
لمن يلتقي أبطالها وسراتها *** بقلب صبور عند وقع المضارب
ويبني بحدّ السيف مجداً مشيّداً *** على فلك العلياء فوق الكواكب
ومَن لم يروّ رُمحهُ من دم العِدا *** إذا اشتبكت سمرُ القنا بالقواضب
ويُعطي القنا الخطيّ في الحرب حقه *** ويبري بحد السيف عرض المناكب
يعيش كما عاش الذليل بغُصّة *** وإن مات لا يجري دموع النوادب
فضائلُ عزم لا تباعُ لضارع *** وأسرار عزمٍ لا تذاع لعائب
برزتُ بها دهراً على كل حادث *** ولا كحل إلا من غُبار الكتائب
إذا كذب البرق اللموعُ لشائم *** فبرقُ حُسامي صادق غير كاذبُ
وهكذا فإن الرجولة مرتبطة لدى العرب بالشجاعة، فلا مجد ولا رجولة مع الجبن والوهن والخور، ومع ذلك فليست الشجاعة هي التهور والإقدام على غير بصيرة؛ بل لابد لها من ضوابط، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم-: (( ليس الشديد بالصرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب )) (8).
ويقول المتنبي:
الرأي قبل شجاعة الشجعان *** هو أول وهي المحل الثاني
لكن بدون أن يتغلب الجبن فيخدع النفس ويريها أنه هو العقل والحكمة:
يرى الجبناء أن العجز حزم *** وتلك خديعة الطبع اللئيم
وسائل تحصيل الرجولة:
بعد أن عرفنا ما هي الرجولة؟ وما هي أهم خصالها؟ يتبقى أن نعرف كيف نتوصل إلى الرجولة؟

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|