أمَّا في العصر الحديث، فنجد أيضًا هذه الفكرة لدى "إيليا أبي ماضي"؛ غير أنَّه - بِدَوره - طوَّرَها، وصبَغَها بصبغته الفكريَّة، ومكمن التطوُّر لديه هو أنه لم يكتفِ بجعل رُفات الأقدمين الذين دُفنوا عبر الأحقاب والدُّهور هو العنصرَ المكوِّنَ لأديم الأرض، كما فعل أبو العلاء؛ بل إنه أضاف إلى ذلك أنْ جَعَلَ الثمارَ والحبوبَ التي تنبت في ذلك الأديم ليست إلاَّ أولئك الغابرين السالفين الذي تكوَّنَ ذلك الأديم من أجسادهم! يقول في قصيدته "الناسكة" من ديوانه[4]:
أَبْصَرْتُ فِي الْحَقْلِ قُبَيْلَ المَغِيبْ
سُنْبُلَةً فِي سَفْحِ ذَاكَ الكَثِيبْ
حَانِيَةً مُطْرِقَةَ الرَّأْسِ
كَأَنَّمَا تَسْجُدُ لِلشَّمْسِ
أَوْ أَنَّهَا تَتْلُو صَلاَةَ الْمَسَاءْ
• • •
فَمِلْتُ عَنْ رَاهِبَةِ الْحَقْلِ
وَسِرْتُ لاَ أَلْوِي عَلَى ظِلِّي
أَلْتَقِطُ الْحَبَّ وَأُذْرِيهِ
وَتَارَةً فِي النَّارِ أُلْقِيهِ
مُسْتَخْرِجًا مِنْهُ لِجِسْمِي غِذَاءْ
• • •
قَدْ غَابَتِ الشَّمْسُ وَرَاءَ القِمَمْ
وَسَكَتَ الطَّيْرُ الَّذِي لَمْ يَنَمْ
لَكِنَّ نَارِي لَمْ تَزَلْ تَرْعَجُ
وَلَمْ أَزَلْ آكُلُ مَا تُنْضِجُ
يَا حَبَّذَا النَّارُ وَنِعْمَ الشِّوَاءْ
• • •
وَإِنَّنِي فِي مَرَحِي وَالدَّدِ
إِذْ صَاحَ بِي صَوْتٌ بِلاَ مَوْعِدِ
مَا الْحَبُّ، يَا هَذَا، وَلاَ السُّنْبُلُ
مَا تَأْكُلُ النَّارُ، وَمَا تَأْكُلُ
وَإِنَّمَا أَسْلاَفُكَ الأَصْفِيَاءْ
• • •
لاَ بَشَرٌ، لاَ طَائِرٌ مَاثِلُ
يَا عَجَبًا! نُطْقٌ وَلاَ قَائِلُ
مِنْ أَيْنَ جَاءَ الصَّوْتُ؟ لاَ أَدْرِي
لَكِنَّمَا نَاسِكَةُ البَرِّ
قَدْ رَفَعَتْ هَامَتَهَا لِلعَلاَءْ
[1] عبدالرحمن البرقوقي، "شرح ديوان المتنبِّي"، بيروت، دار الكتاب العربي، 1986م، 3/ 150.
[2] ذكر البرقوقيُّ في "شرحه لديوان المتنبي" أنَّ بيت النابغة هذا هو الأصل للمعنى الذي ورد في بيت المتنبي.
[3] القصيدة بتمامها في ديوان: "سقط الزند"، أبو العلاء المعرِّي، بيروت، دار صادر، 1957م، 7، وقد عُنوِنَ للقصيدة بهذا العنوان في الدِّيوان، وأظنُّ أن هذا العنوان من اجتهاد دار النشر.
[4] أبو ماضي، "ديوان أبي ماضي"، بيروت، دار العودة، 186.