عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 26-09-2020, 06:38 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الموافقات - أبو إسحاق الشاطبي -----متجدد إن شاء الله


الموافقات

أبو إسحاق إبراهيم بن موسى بن محمد اللخمي الشاطبي
الجزء الاول
الحلقة (2)



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ .

وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ .

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَنَا بِنُورِ الْعِلْمِ مِنْ ظُلُمَاتِ الْجَهَالَةِ ، وَهَدَانَا بِالِاسْتِبْصَارِ بِهِ عَنِ الْوُقُوعِ فِي عَمَايَةِ الضَّلَالَةِ ، وَنَصَبَ لَنَا مِنْ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ أَعْلَى عِلْمٍ وَأَوْضَحَ دَلَالَةٍ ، وَكَانَ ذَلِكَ أَفْضَلَ مَا مَنَّ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الْجَزِيلَةِ ، وَالْمِنَحِ الْجَلِيلَةِ ، وَأَنَالَهُ ، فَلَقَدْ كُنَّا قَبْلَ شُرُوقِ هَذَا النُّورِ نَخْبِطُ خَبْطَ الْعَشْوَاءِ ، وَتَجْرِي عُقُولُنَا فِي اقْتِنَاصِ مَصَالِحِنَا عَلَى غَيْرِ السَّوَاءِ ; لِضَعْفِهَا عَنْ حَمْلِ هَذِهِ الْأَعْبَاءِ ، وَمُشَارَكَةِ عَاجِلَاتِ الْأَهْوَاءِ ، عَلَى مَيْدَانِ النَّفْسِ الَّتِي هِيَ بَيْنَ الْمُنْقَلَبَيْنِ مَدَارُ الْأَسْوَاءِ ، فَنَضَعُ السُّمُومَ عَلَى الْأَدْوَاءِ مَوَاضِعَ الدَّوَاءِ ، طَالِبِينَ لِلشِّفَاءِ ، كَالْقَابِضِ عَلَى الْمَاءِ ، وَلَا زِلْنَا نَسْبَحُ بَيْنَهُمَا فِي بَحْرِ الْوَهْمِ فَنَهِيمُ ، وَنَسْرَحُ مِنْ جَهْلِنَا بِالدَّلِيلِ فِي لَيْلٍ بَهِيمٍ ، وَنَسْتَنْتِجُ الْقِيَاسَ الْعَقِيمَ ، وَنَطْلُبُ آثَارَ الصِّحَّةِ مِنَ الْجِسْمِ السَّقِيمِ ، وَنَمْشِي إِكْبَابًا عَلَى الْوُجُوهِ ، وَنَظُنُّ أَنَّا نَمْشِي عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ; حَتَّى ظَهَرَ [ ص: 4 ] مَحْضُ الْإِجْبَارِ فِي عَيْنِ الْأَقْدَارِ ، وَارْتَفَعَتْ حَقِيقَةُ أَيْدِيِ الِاضْطِرَارِ إِلَى الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ، وَتَوَجَّهَتْ إِلَيْهِ أَطْمَاعُ أَهْلِ الِافْتِقَارِ ، لَمَّا صَحَّ مِنْ أَلْسِنَةِ الْأَحْوَالِ صِدْقُ الْإِقْرَارِ ، وَثَبَتَ فِي مُكْتَسَبَاتِ الْأَفْعَالِ حُكْمُ الِاضْطِرَارِ ، فَتَدَارَكَنَا الرَّبُّ الْكَرِيمُ بِلُطْفِهِ الْعَظِيمِ ، وَمَنَّ عَلَيْنَا الْبَرُّ الرَّحِيمُ بِعَطْفِهِ الْعَمِيمِ ; إِذْ لَمْ نَسْتَطِعْ مِنْ دُونِهِ حِيَلًا ، وَلَمْ نَهْتَدِ بِأَنْفُسِنَا سُبُلًا ، بِأَنْ جَعَلَ الْعُذْرَ مَقْبُولًا ، وَالْعَفْوَ عَنِ الزَّلَّاتِ قَبْلَ بَعْثِ الرِّسَالَاتِ مَأْمُولًا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فَبَعَثَ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْأُمَمِ ، كَلٌّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ مِنْ عَرَبٍ أَوْ عَجَمٍ ; لِيُبَيِّنُوا لَهُمْ طَرِيقَ الْحَقِّ مِنْ أَمَمٍ ، وَيَأْخُذُوا بِحُجَزِهِمْ عَنْ مَوَارِدِ جَهَنَّمَ ، وَخَصَّنَا مَعْشَرَ الْآخَرِينَ السَّابِقِينَ ، بِلَبِنَةِ تَمَامِهِمْ ، وَمِسْكِ خِتَامِهِمْ ; مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، الَّذِي [ ص: 5 ] هُوَ النِّعْمَةُ الْمُسْدَاةُ ، وَالرَّحْمَةُ الْمُهْدَاةُ ، وَالْحِكْمَةُ الْبَالِغَةُ الْأُمِّيَّةُ ، وَالنُّخْبَةُ الطَّاهِرَةُ الْهَاشِمِيَّةُ ، أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ، وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْعَرَبِيَّ الْمُبِينَ ، الْفَارِقَ بَيْنَ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ ، الَّذِي لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ، وَوَضَعَ بَيَانَهُ الشَّافِيَ وَإِيضَاحَهُ الْكَافِيَ فِي كَفِّهِ ، وَطَيَّبَهُ بِطِيبِ ثَنَائِهِ وَعَرَّفَهُ بِعَرْفِهِ ; إِذْ جَعَلَ أَخْلَاقَهُ وَشَمَائِلَهُ جُمْلَةَ نَعْتِهِ ، وَكُلِّيَّ وَصْفِهِ ، فَصَارَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُبَيِّنًا بِقَوْلِهِ وَإِقْرَارِهِ وَفِعْلِهِ وَكَفِّهِ ; فَوَضَحَ النَّهَارُ لِذِي عَيْنَيْنِ ، وَتَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ، شَمْسًا مِنْ غَيْرِ سَحَابٍ وَلَا غَيْنٍ .

فَنَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَالْحَمْدُ نِعْمَةٌ مِنْهُ مُسْتَفَادَةٌ ، وَنَشْكُرُ لَهُ وَالشُّكْرُ أَوَّلُ الزِّيَادَةِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، الْمَلِكُ الْحَقُّ الْمُبِينُ ، خَالِقُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ ، وَبَاسِطُ الرِّزْقِ لِلْمُطِيعِينَ وَالْعَاصِينَ ، بَسْطًا يَقْتَضِيهِ الْعَدْلُ وَالْإِحْسَانُ ، وَالْفَضْلُ وَالِامْتِنَانُ ، جَارِيًا عَلَى حُكْمِ الضَّمَانِ .

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [ الذَّارِيَاتِ : 56 - 58 ] .

وَقَالَ تَعَالَى : وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى [ طه : 132 ] .

كُلُّ ذَلِكَ لِيَتَفَرَّغُوا لِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ عَرْضًا ، فَلَمَّا تَحَمَّلُوهَا عَلَى حُكْمِ الْجَزَاءِ ; حَمَلُوهَا فَرْضًا ، وَيَا لَيْتَهُمُ اقْتَصَرُوا عَلَى الْإِشْفَاقِ وَالْإِبَايَةِ ، وَتَأَمَّلُوا فِي الْبِدَايَةِ خَطَرَ النِّهَايَةِ ، لَكِنَّهُمْ لَمْ يَخْطِرْ لَهُمْ خَطَرُهَا عَلَى بَالٍ ، كَمَا خَطَرَ لِلسَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ ; فَلِذَلِكَ سُمِّيَ الْإِنْسَانُ ظَلُومًا جَهُولًا ، وَكَانَ [ ص: 6 ] أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا ، دَلَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَبَانَةِ شَاهَدُ قَوْلِهِ : إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ .

فَسُبْحَانَ مَنْ أَجْرَى الْأُمُورَ بِحِكْمَتِهِ وَتَقْدِيرِهِ ; عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ وَقَضَائِهِ وَمَقَادِيرِهِ ; لِتَقُومَ الْحُجَّةُ عَلَى الْعِبَادِ فِيمَا يَعْمَلُونَ ، لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ .

وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، وَحَبِيبُهُ وَخَلِيلُهُ ، الصَّادِقُ الْأَمِينُ ، الْمَبْعُوثُ رَحْمَةً لِلْعَالِمِينَ ، بِمِلَّةٍ حَنِيفِيَّةٍ ، وَشِرْعَةِ الْحَاكِمِينَ بِهَا حَفِيَّةً ، يَنْطِقُ بِلِسَانِ التَّيْسِيرِ بَيَانُهَا ، وَيُعْرَفُ أَنَّ الرِّفْقَ خَاصِّيَّتُهَا وَالسَّمَاحَ شَأْنُهَا ، فَهِيَ تَحْمِلُ الْجَمَّاءَ الْغَفِيرَ ضَعِيفًا وَقَوِيًّا ، وَتَهْدِي الْكَافَّةَ فَهِيمًا وَغَبِيًّا ، وَتَدْعُوهُمْ بِنِدَاءٍ مُشْتَرِكٍ دَانِيًا وَقَصِيًّا ، وَتَرْفُقِ بِجَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ مُطِيعًا وَعَصِيًّا ، وَتَقُودُهُمْ بِخَزَائِمِهِمْ مُنْقَادًا وَأَبِيًّا ، وَتُسَوِّي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْعَدْلِ شَرِيفًا وَدَنِيًّا ، وَتُبَوِّئُ حَامِلَهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ مَكَانًا عَلِيًّا ، وَتُدْرِجُ النُّبُوءَةَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَبِيًّا ، وَتُلْبِسُ الْمُتَّصِفِ بِهَا مَلْبَسًا سَنِيًّا ، حَتَّى يَكُونَ لِلَّهِ وَلِيًّا ، فَمَا أَغْنَى مَنْ وَالَاهَا وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا ، وَمَا أَفْقَرَ مَنْ عَادَهَا وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا .

فَلَمْ يَزَلْ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو بِهَا وَإِلَيْهَا ، وَيَبُثُّ لِلثَّقَلَيْنِ مَا لَدَيْهَا ، وُيُنَاضِلُ [ ص: 7 ] بِبَرَاهِينِهَا عَلَيْهَا ، وَيَحْمِي بِقَوَاطِعِهَا جَانِبَيْهَا ، بَالِغَ الْغَايَةِ فِي الْبَيَانِ ، بِقَوْلِهِ بِلِسَانِ حَالِهِ وَمَقَالِهِ : أَنَا النَّذِيرُ الْعُرْيَانُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ الَّذِينَ عَرَفُوا مَقَاصِدَ الشَّرِيعَةِ فَحَصَّلُوهَا ، وَأَسَّسُوا قَوَاعِدَهَا وَأَصَّلُوهَا ، وَجَالَتْ أَفْكَارُهُمْ فِي آيَاتِهَا ، وَأَعْمَلُوا الْجِدَّ فِي تَحْقِيقِ مَبَادِيهَا وَغَايَاتِهَا ، وَعُنُوا بَعْدَ ذَلِكَ بِاطِّرَاحِ الْآمَالِ ، وَشَفَّعُوا الْعِلْمَ بِإِصْلَاحِ الْأَعْمَالِ ، وَسَابَقُوا إِلَى الْخَيِّرَاتِ فَسَبَقُوا ، وَسَارَعُوا إِلَى الصَّالِحَاتِ فَمَا لُحِقُوا ، إِلَى أَنْ طَلَعَ فِي آفَاقِ بَصَائِرِهِمْ شَمْسُ الْفُرْقَانِ ، وَأَشْرَقَ فِي قُلُوبِهِمْ نُورُ الْإِيقَانِ ، فَظَهَرَتْ يَنَابِيعُ الْحِكَمِ مِنْهَا عَلَى اللِّسَانِ ، فَهُمْ أَهْلُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ، وَكَيْفَ لَا وَقَدْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ قَرَعَ ذَلِكَ الْبَابَ ، فَصَارُوا خَاصَّةَ الْخَاصَّةِ ، وَلُبَابَ اللُّبَابِ ، وَنُجُومًا يَهْتَدِي بِأَنْوَارِهِمْ أُولُو الْأَلْبَابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَنِ الَّذِينَ خَلَفُوهُمْ قُدْوَةً لِلْمُقْتَدِينَ ، وَأُسْوَةً لِلْمُهْتَدِينَ ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .

أَمَّا بَعْدُ ; أَيُّهَا الْبَاحِثُ عَنْ حَقَائِقِ أَعْلَى الْعُلُومِ ، الطَّالِبُ لِأَسْنَى نَتَائِجِ الْحُلُومِ ، الْمُتَعَطِّشُ إِلَى أَحْلَى مَوَارِدِ الْفُهُومِ ، الْحَائِمُ حَوْلَ حِمًى ظَاهِرِ الْمَرْسُومِ ; [ ص: 8 ] طَمَعًا فِي إِدْرَاكِ بَاطِنِهِ الْمَرْقُومِ ، مَعَانِيَ مَرْتُوقَةٍ ، فِي فَتْقِ تِلْكَ الرُّسُومِ ; فَإِنَّهُ قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُصْغِيَ إِلَى مَنْ وَافَقَ هَوَاكَ هَوَاهُ ، وَأَنْ تُطَارِحَ الشَّجَى مَنْ مَلَكَهُ - مِثْلَكَ - شَجَاهُ ، وَتَعُودَ ; إِذْ شَارَكْتَهُ فِي جَوَاهُ مَحَلَّ نَجْوَاهُ ; حَتَّى يَبُثَّ إِلَيْكَ شَكْوَاهُ ، لِتَجْرِيَ مَعَهُ فِي هَذَا الطَّرِيقِ مِنْ حَيْثُ جَرَى ، وَتَسْرِيَ فِي غَبَشِهِ الْمُمْتَزِجِ ضَوْءُهُ بِالظُّلْمَةِ كَمَا سَرَى ، وَعِنْدَ الصَّبَاحِ تَحْمَدُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَاقِبَةَ السُّرَى .

فَلَقَدْ قَطَعَ فِي طَلَبِ هَذَا الْمَقْصُودِ مَهَامِهَ فِيحًا ، وَكَابَدَ مِنْ طَوَارِقِ طَرِيقِهِ حَسَنًا وَقَبِيحًا ، وَلَاقَى مِنْ وُجُوهِهِ الْمُعْتَرِضَةِ جَهْمًا وَصَبِيحًا ، وَعَانَى مِنْ رَاكِبَتِهِ الْمُخْتَلِفَةِ مَانِعًا وَمُبِيحًا ; فَإِنْ شِئْتَ أَلْفَيْتَهُ لِتَعَبِ السَّيْرِ طَلِيحًا ، أَوْ لِمَا حَالَفَ مِنَ الْعَنَاءِ طَرِيحًا ، أَوْ لِمُحَارَبَةِ الْعَوَارِضِ الصَّادَّةِ جَرِيحًا ، فَلَا عَيْشَ هَنِيئًا ، وَلَا مَوْتَ مُرِيحًا .

وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ فِي التَّحْقِيقِ : أَنَّ أَدْهَى مَا يَلْقَاهُ السَّالِكُ لِلطَّرِيقِ فَقْدُ الدَّلِيلِ ، مَعَ ذِهْنٍ لِعَدَمِ نُورِ الْفَرْقَانِ كَلِيلٍ ، وَقَلْبٍ بِصَدَمَاتِ الْأَضْغَاثِ عَلِيلٍ ; فَيَمْشِي عَلَى غَيْرِ سَبِيلٍ ، وَيَنْتَمِي إِلَى غَيْرِ قَبِيلٍ ، إِلَى أَنْ مَنَّ الرَّبُّ الْكَرِيمُ ، الْبَرُّ الرَّحِيمُ ، الْهَادِي - مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ، فَبُعِثَتْ لَهُ أَرْوَاحُ تِلْكَ الْجُسُومِ ، وَظَهَرَتْ حَقَائِقُ تِلْكَ الرُّسُومِ ، وَبَدَتْ مُسَمَّيَاتُ تِلْكَ الْوُسُومِ ; فَلَاحَ فِي أَكْنَافِهَا الْحَقُّ وَاسْتَبَانَ ، وَتَجَلَّى مِنْ تَحْتِ سَحَابِهَا شَمْسُ الْفُرْقَانِ وَبَانَ ، وَقَوِيَتِ النَّفْسُ الضَّعِيفَةُ [ ص: 9 ] وَشَجُعَ الْقَلْبُ الْجَبَانُ ، وَجَاءَ الْحَقُّ فَوَصَلَ أَسْبَابَهُ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ فَبَانَ ، فَأَوْرَدَ مِنْ أَحَادِيثِهِ الصِّحَاحِ الْحِسَانِ ، وَفَوَائِدِهِ الْغَرِيبَةِ الْبُرْهَانِ ، وَبَدَائِعِهِ الْبَاهِرَةِ لِلْأَذْهَانِ - مَا يَعْجِزُ عَنْ تَفْصِيلِ بَعْضِ أَسْرَارِهِ الْعَقْلُ ، وَيَقْصُرُ عَنْ بَثِّ مِعْشَارِهِ اللِّسَانُ ، إِيرَادًا يُمَيِّزُ الْمَشْهُورَ مِنَ الشَّاذِّ ، وَيُحَقِّقُ مَرَاتِبَ الْعَوَامِّ وَالْخَوَاصِّ وَالْجَمَاهِيرِ وَالْأَفْذَاذِ ، وَيُوَفِّي حُقَّ الْمُقَلِّدِ وَالْمُجْتَهِدِ وَالسَّالِكِ وَالْمُرَبِّي وَالتِّلْمِيذِ وَالْأُسْتَاذِ ، عَلَى مَقَادِيرِهِمْ فِي الْغَبَاوَةِ وَالذَّكَاءِ وَالتَّوَانِي وَالِاجْتِهَادِ وَالْقُصُورِ وَالنَّفَاذِ ، وَيُنْزِلُ كُلًّا مِنْهُمْ مَنْزِلَتَهُ حَيْثُ حَلَّ ، وَيُبَصِّرُهُ فِي مَقَامِهِ الْخَاصِّ بِهِ بِمَا دَقَّ وَجَلَّ ، وَيَحْمِلُهُ فِيهِ عَلَى الْوَسَطِ الَّذِي هُوَ مَجَالُ الْعَدْلِ وَالِاعْتِدَالِ ، وَيَأْخُذُ بِالْمُخْتَلِفِينَ عَلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ بَيْنَ الِاسْتِصْعَادِ وَالِاسْتِنْزَالِ ، لِيَخْرُجُوا مِنِ انْحِرَافَيِ التَّشَدُّدِ وَالِانْحِلَالِ ، وَطَرَفَيِ التَّنَاقُضِ وَالْمُحَالِ ; فَلَهُ الْحَمْدُ كَمَا يَجِبُ لِجَلَالِهِ ، وَلَهُ الشُّكْرُ عَلَى جَمِيلِ إِنْعَامِهِ وَجَزِيلِ إِفْضَالِهِ .

وَلَمَّا بَدَا مِنْ مَكْنُونِ السِّرِّ مَا بَدَا وَوَفَّقَ اللَّهُ الْكَرِيمُ لِمَا شَاءَ مِنْهُ وَهَدَى - لَمْ أَزَلْ أُقَيِّدُ مِنْ أَوَابِدِهِ ، وَأَضُمُّ مِنْ شَوَارِدِهِ تَفَاصِيلَ وَجُمَلًا ، وَأَسُوقُ مِنْ شَوَاهِدِهِ فِي مَصَادِرِ الْحُكْمِ وَمَوَارِدِهِ ، مُبَيِّنًا لَا مُجْمِلًا ، مُعْتَمِدًا عَلَى الِاسْتِقْرَاءَاتِ الْكُلِّيَّةِ ، غَيْرَ مُقْتَصِرٍ عَلَى الْأَفْرَادِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَمُبَيِّنًا أُصُولَهَا النَّقْلِيَّةَ بِأَطْرَافٍ مِنَ الْقَضَايَا الْعَقْلِيَّةِ ، حَسْبَمَا أَعْطَتْهُ الِاسْتِطَاعَةُ وَالْمِنَّةُ ، فِي بَيَانِ مَقَاصِدِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ، ثُمَّ اسْتَخَرْتُ اللَّهَ تَعَالَى فِي نَظْمِ تِلْكَ الْفَرَائِدِ ، وَجَمْعِ تِلْكَ الْفَوَائِدِ ، إِلَى تَرَاجِمَ تَرُدُّهَا إِلَى أُصُولِهَا ، وَتَكُونُ عَوْنًا عَلَى تَعَقُّلِهَا وَتَحْصِيلِهَا ; فَانْضَمَّتْ إِلَى تَرَاجِمِ الْأُصُولِ الْفِقْهِيَّةِ ، وَانْتَظَمَتْ فِي أَسْلَاكِهَا السَّنِيَّةِ الْبَهِيَّةِ ، فَصَارَ كِتَابًا مُنْحَصِرًا فِي خَمْسَةِ أَقْسَامٍ :

[ ص: 10 ] الْأَوَّلُ : فِي الْمُقَدِّمَاتِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا فِي تَمْهِيدِ الْمَقْصُودِ .

وَالثَّانِي : فِي الْأَحْكَامِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ حَيْثُ تَصَوُّرُهَا وَالْحُكْمُ بِهَا أَوْ عَلَيْهَا ، كَانَتْ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ أَوْ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ .

وَالثَّالِثُ : فِي الْمَقَاصِدِ الشَّرْعِيَّةِ فِي الشَّرِيعَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنَ الْأَحْكَامِ .

وَالرَّابِعُ : فِي حَصْرِ الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ وَبَيَانِ مَا يَنْضَافُ إِلَى ذَلِكَ فِيهَا عَلَى الْجُمْلَةِ وَعَلَى التَّفْصِيلِ ، وَذِكْرِ مَآخِذِهَا ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ يُحْكَمُ بِهَا عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ .

وَالْخَامِسُ : فِي أَحْكَامِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّقْلِيدِ ، وَالْمُتَّصِفِينَ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّرْجِيحِ وَالسُّؤَالِ وَالْجَوَابِ .

وَفِي كُلِّ قِسْمٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَسَائِلُ وَتَمْهِيدَاتٌ ، وَأَطْرَافٌ وَتَفْصِيلَاتٌ ; يَتَقَرَّرُ بِهَا الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ ، وَيَقْرُبُ بِسَبَبِهَا تَحْصِيلُهُ لِلْقُلُوبِ .

وَلِأَجَلِّ مَا أُودِعَ فِيهِ مِنَ الْأَسْرَارِ التَّكْلِيفِيَّةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْحَنِيفِيَّةِ ، سَمَّيْتُهُ بِ [ عُنْوَانُ التَّعْرِيفِ بِأَسْرَارِ التَّكْلِيفِ ] ، ثُمَّ انْتَقَلْتُ عَنْ هَذِهِ السِّيمَاءِ لِسَنَدٍ غَرِيبٍ يَقْضِي الْعَجَبَ مِنْهُ الْفَطِنُ الْأَرِيبُ ، وَحَاصِلُهُ أَنِّي لَقِيتُ يَوْمًا بَعْضَ الشُّيُوخِ الَّذِينَ أَحْلَلْتُهُمْ مِنِّي مَحَلَّ الْإِفَادَةِ ، وَجَعَلْتُ مَجَالِسَهُمُ الْعِلْمِيَّةَ مَحَطًّا لِلرَّحْلِ وَمُنَاخًا لِلْوِفَادَةِ ، وَقَدْ شَرَعْتُ فِي تَرْتِيبِ الْكِتَابِ وَتَصْنِيفِهِ ، وَنَابَذْتُ الشَّوَاغِلَ دُونَ تَهْذِيبِهِ وَتَأْلِيفِهِ ; فَقَالَ لِي : رَأَيْتُكَ الْبَارِحَةَ فِي النَّوْمِ ، وَفِي يَدِكَ كِتَابٌ [ ص: 11 ] أَلَّفْتَهُ فَسَأَلْتُكَ عَنْهُ ، فَأَخْبَرْتَنِي أَنَّهُ كِتَابُ [ الْمُوَافَقَاتِ ] ، قَالَ : فَكُنْتُ أَسْأَلُكَ عَنْ مَعْنَى هَذِهِ التَّسْمِيَةِ الظَّرِيفَةِ ، فَتُخْبِرُنِي أَنَّكَ وَفَّقْتَ بِهِ بَيْنَ مَذْهَبَيِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَبِي حَنِيفَةَ . فَقُلْتُ لَهُ لَقَدْ أَصَبْتُمُ الْغَرَضَ بِسَهْمٍ مِنَ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةِ مُصِيبٍ ، وَأَخَذْتُمْ مِنَ الْمُبَشِّرَاتِ النَّبَوِيَّةِ بِجُزْءٍ صَالِحٍ وَنَصِيبٍ ; فَإِنِّي شَرَعْتُ فِي تَأْلِيفِ هَذِهِ الْمَعَانِي ، عَازِمًا عَلَى تَأْسِيسِ تِلْكَ الْمَبَانِي ; فَإِنَّهَا الْأُصُولُ الْمُعْتَبَرَةُ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ ، وَالْقَوَاعِدُ الْمَبْنِيُّ عَلَيْهَا عِنْدَ الْقُدَمَاءِ ، فَعَجِبَ الشَّيْخُ مِنْ غَرَابَةِ هَذَا الِاتِّفَاقِ ، كَمَا عَجِبْتُ أَنَا مِنْ رُكُوبِ هَذِهِ الْمَفَازَةِ وَصُحْبَةِ هَذِهِ الرِّفَاقِ ، لِيَكُونَ - أَيُّهَا الْخِلُّ الصَّفِّيُّ ، وَالصَّدِيقُ الْوَفِيُّ - هَذَا الْكِتَابُ عَوْنًا لَكَ فِي سُلُوكِ الطَّرِيقِ ، وَشَارِحًا لِمَعَانِي الْوِفَاقِ وَالتَّوْفِيقِ ، لَا لِيَكُونَ عُمْدَتَكَ فِي كُلِّ تَحَقُّقٍ وَتَحْقِيقٍ ، وَمَرْجِعَكَ فِي جَمِيعِ مَا يَعِنُّ لَكَ مِنْ تَصَوُّرٍ وَتَصْدِيقٍ ; إِذْ قَدْ صَارَ عِلْمًا مِنْ جُمْلَةِ الْعُلُومِ ، وَرَسْمًا كَسَائِرِ الرُّسُومِ ، وَمَوْرِدًا لِاخْتِلَافِ الْعُقُولِ وَتَعَارُضِ الْفُهُومِ ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ قَرَّبَ عَلَيْكَ فِي الْمَسِيرِ ، وَأَعْلَمَكَ كَيْفَ تَرْقَى فِي عُلُومِ الشَّرِيعَةِ وَإِلَى أَيْنَ تَسِيرُ ، وَوَقَفَ بِكَ مِنَ الطَّرِيقِ السَّابِلَةِ عَلَى الظَّهْرِ ، وَخَطَبَ لَكَ عَرَائِسَ الْحِكْمَةِ ، ثُمَّ وَهَبَ لَكَ الْمَهْرَ .

فَقَدِّمْ قَدَمَ عَزْمِكَ ; فَإِذَا أَنْتَ بِحَوْلِ اللَّهِ قَدْ وَصَلْتَ ، وَأَقْبِلْ عَلَى مَا قِبَلَكَ مِنْهُ ; فَهَا أَنْتَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ قَدْ فُزْتَ بِمَا حَصَّلْتَ ، وَإِيَّاكَ وَإِقْدَامَ الْجَبَانِ ، وَالْوُقُوفَ مَعَ الظَّنِّ وَالْحُسْبَانِ ، وَالْإِخْلَادَ إِلَى مُجَرَّدِ التَّصْمِيمِ مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ ، وَفَارِقْ وَهَدَ [ ص: 12 ] التَّقْلِيدِ رَاقِيًا إِلَى يَفَاعِ الِاسْتِبْصَارِ ، وَتَمَسَّكْ مِنْ هَدْيِكَ بِهِمَّةٍ تَتَمَكَّنُ بِهَا مِنَ الْمُدَافَعَةِ وَالِاسْتِنْصَارِ ، إِذَا تَطَلَّعَتِ الْأَسْئِلَةُ الضَّعِيفَةُ وَالشُّبَهُ الْقِصَارُ ، وَالْبَسِ التَّقْوَى شِعَارًا ، وَالِاتِّصَافَ بِالْإِنْصَافِ دِثَارًا ، وَاجْعَلْ طَلَبَ الْحَقِّ لَكَ نِحْلَةً ، وَالِاعْتِرَافَ بِهِ لِأَهْلِهِ مِلَّةً ، لَا تَمْلِكْ قَلْبَكَ عَوَارِضُ الْأَغْرَاضِ ، وَلَا تُغَيِّرْ جَوْهَرَةَ قَصْدِكَ طَوَارِقُ الْإِعْرَاضِ ، وَقِفْ وَقْفَةَ الْمُتَخَيِّرِينَ ، لَا وَقْفَةَ الْمُتَحَيِّرِينَ ، إِلَّا إِذَا اشْتَبَهَتِ الْمَطَالِبُ ، وَلَمْ يَلُحْ وَجْهُ الْمَطْلُوبِ لِلطَّالِبِ ، فَلَا عَلَيْكَ مِنَ الْإِحْجَامِ وَإِنْ لَجَّ الْخُصُومُ ، فَالْوَاقِعُ فِي حِمَى الْمُشْتَبِهَاتِ هُوَ الْمَخْصُومُ ، وَالْوَاقِفُ دُونَهَا هُوَ الرَّاسِخُ الْمَعْصُومُ ، وَإِنَّمَا الْعَارُ وَالشَّنَارُ عَلَى مَنِ اقْتَحَمَ الْمَنَاهِيَ فَأَوْرَدَتْهُ النَّارَ ، لَا تَرِدْ مَشْرَعَ الْعَصَبِيَّةِ ، وَلَا تَأْنَفْ مِنَ الْإِذْعَانِ إِذَا لَاحَ وَجْهُ الْقَضِيَّةِ أَنَفَةَ ذَوِي النُّفُوسِ الْعَصِيَّةِ ، فَذَلِكَ مَرْعًى لِسَوَامِهَا وَبِيلٌ ، وَصُدُودٌ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ .

; فَإِنْ عَارَضَكَ دُونَ هَذَا الْكِتَابِ عَارِضُ الْإِنْكَارِ ، وَعَمِيَ عَنْكَ وَجْهُ الِاخْتِرَاعِ فِيهِ وَالِابْتِكَارِ ، وَغَرَّ الظَّانَّ أَنَّهُ شَيْءٌ مَا سُمِعَ بِمِثْلِهِ ، وَلَا أُلِّفَ فِي الْعُلُومِ الشَّرْعِيَّةِ الْأَصْلِيَّةِ أَوِ الْفَرْعِيَّةِ مَا نُسِجَ عَلَى مِنْوَالِهِ أَوْ شُكِّلَ بِشَكْلِهِ ، وَحَسْبُكَ مِنْ شَرٍّ سَمَاعُهُ ، وَمِنْ كُلِّ بِدْعٍ فِي الشَّرِيعَةِ ابْتِدَاعُهُ ؛ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَى الْإِشْكَالِ دُونَ [ ص: 13 ] اخْتِبَارٍ ، وَلَا تَرْمِ بِمَظِنَّةِ الْفَائِدَةِ عَلَى غَيْرِ اعْتِبَارٍ ; فَإِنَّهُ بِحَمْدِ اللَّهِ أَمْرٌ قَرَّرَتْهُ الْآيَاتُ وَالْأَخْبَارُ ، وَشَدَّ مَعَاقِدَهُ السَّلَفُ الْأَخْيَارُ ، وَرَسَمَ مَعَالِمَهُ الْعُلَمَاءُ الْأَحْبَارُ ، وَشَيَّدَ أَرْكَانَهُ أَنْظَارُ النُّظَّارِ ، وَإِذَا وَضُحَ السَّبِيلُ لَمْ يَجِبِ الْإِنْكَارُ ، وَوَجَبَ قَبُولُ مَا حَوَاهُ وَالِاعْتِبَارُ بِصِحَّةِ مَا أَبْدَاهُ وَالْإِقْرَارُ ، حَاشَا مَا يَطْرَأُ عَلَى الْبَشَرِ مِنَ الْخَطَأِ وَالزَّلَلِ ، وَيَطْرُقُ صِحَّةَ أَفْكَارِهِمْ مِنَ الْعِلَلِ ، فَالسَّعِيدُ مَنْ عُدَّتْ سَقَطَاتُهُ ، وَالْعَالِمُ مَنْ قَلَّتْ غَلَطَاتُهُ .

وَعِنْدَ ذَلِكَ فَحَقٌّ عَلَى النَّاظِرِ الْمُتَأَمِّلِ ، إِذَا وَجَدَ فِيهِ نَقْصًا أَنْ يُكْمِلَ ، وَلْيُحْسِنِ الظَّنَّ بِمَنْ حَالَفَ اللَّيَالِيَ وَالْأَيَّامَ ، وَاسْتَبْدَلَ التَّعَبَ بِالرَّاحَةِ وَالسَّهَرَ بِالْمَنَامِ ، حَتَّى أَهْدَى إِلَيْهِ نَتِيجَةَ عُمْرِهِ ، وَوَهَبَ لَهُ يَتِيمَةَ دَهْرِهِ ، فَقَدْ أَلْقَى إِلَيْهِ مَقَالِيدَ مَا لَدَيْهِ ، وَطَوَّقَهُ طَوْقَ الْأَمَانَةِ الَّتِي فِي يَدَيْهِ ، وَخَرَجَ عَنْ عُهْدَةِ الْبَيَانِ فِيمَا وَجَبَ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا ، فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ .

جَعَلَنَا اللَّهُ مِنَ الْعَامِلِينَ بِمَا عَلِمْنَا ، وَأَعَانَنَا عَلَى تَفْهِيمِ مَا فَهِمْنَا ، وَوَهَبَ لَنَا عِلْمًا نَافِعًا يُبَلِّغُنَا رِضَاهُ ، وَعَمَلًا زَاكِيًا يَكُونُ عُدَّةً لَنَا يَوْمَ نَلْقَاهُ ، إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَبِالْإِجَابَةِ جَدِيرٌ .

وَهَا أَنَا أَشْرَعُ فِي بَيَانِ الْغَرَضِ الْمَقْصُودِ ، وَآخُذُ فِي إِنْجَازِ ذَلِكَ الْمَوْعُودِ ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ .

[ ص: 14 ] [ ص: 15 ]
تَمْهِيدُ الْمُقَدِّمَاتِ الْمُحْتَاجِ إِلَيْهَا قَبْلَ النَّظَرِ فِي مَسَائِلِ الْكِتَابِ وَهِيَ بِضْعَ عَشَرَ مُقَدِّمَةً .

[ ص: 16 ] [ ص: 17 ] الْمُقَدِّمَةُ الْأُولَى

إِنَّ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي الدِّينِ قَطْعِيَّةٌ لَا ظَنِّيَّةٌ ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهَا [ ص: 18 ] رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ؛ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ قَطْعِيٌّ .

بَيَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ بِالِاسْتِقْرَاءِ الْمُفِيدِ لِلْقَطْعِ .

وَبَيَانُ الثَّانِي : مِنْ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّهَا تَرْجِعُ إِمَّا إِلَى أُصُولٍ عَقْلِيَّةٍ ، وَهِيَ قَطْعِيَّةٌ ، وَإِمَّا إِلَى [ ص: 19 ] الِاسْتِقْرَاءِ الْكُلِّيِّ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرِيعَةِ ، وَذَلِكَ قَطْعِيٌّ أَيْضًا ، وَلَا ثَالِثَ لِهَذَيْنِ إِلَّا الْمَجْمُوعُ مِنْهُمَا ، وَالْمُؤَلَّفُ مِنَ الْقَطْعِيَّاتِ قَطْعِيٌّ ، وَذَلِكَ أُصُولُ الْفِقْهِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ ظَنِّيَّةً ; لَمْ تَكُنْ رَاجِعَةً إِلَى أَمْرٍ عَقْلِيٍّ ; إِذِ الظَّنُّ لَا يُقْبَلُ فِي الْعَقْلِيَّاتِ ، وَلَا إِلَى كُلِّيٍّ شَرْعِيٍّ لِأَنَّ الظَّنَّ إِنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالْجُزْئِيَّاتِ ; إِذْ لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِكُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُهُ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ لِأَنَّهُ الْكُلِّيُّ الْأَوَّلُ ، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ عَادَةً - وَأَعْنِي بِالْكُلِّيَّاتِ هُنَا : الضَّرُورِيَّاتِ ، [ ص: 20 ] وَالْحَاجِيَّاتِ ، وَالتَّحْسِينِيَّاتِ - وَأَيْضًا لَوْ جَازَ تَعَلُّقُ الظَّنِّ بِأَصْلِ الشَّرِيعَةِ ; لَجَازَ تَعَلُّقُ الشَّكِّ بِهَا ، وَهِيَ لَا شَكَّ فِيهَا ، وَلَجَازَ تَغْيِيرُهَا وَتَبْدِيلُهَا ، وَذَلِكَ خِلَافَ مَا ضَمِنَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حِفْظِهَا .

وَالثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ جَازَ جَعْلُ الظَّنِّيِّ أَصْلًا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ ; لَجَازَ جَعْلُهُ أَصْلًا فِي أُصُولِ الدِّينِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بِاتِّفَاقٍ ، فَكَذَلِكَ هُنَا ؛ لِأَنَّ نِسْبَةَ أُصُولِ الْفِقْهِ مِنْ أَصْلِ الشَّرِيعَةِ كَنِسْبَةِ أُصُولِ الدِّينِ ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ فِي الْمَرْتَبَةِ ; فَقَدِ اسْتَوَتْ فِي أَنَّهَا كُلِّيَّاتٌ مُعْتَبَرَةٌ فِي كُلِّ مِلَّةٍ ، وَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي حِفْظِ الدِّينِ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ .

وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ لَا سَبِيلَ إِلَى إِثْبَاتِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ بِالظَّنِّ ، لِأَنَّهُ تَشْرِيعٌ ، وَلَمْ نُتَعَبَّدْ بِالظَّنِّ إِلَّا فِي الْفُرُوعِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَعُدَّ الْقَاضِي ابْنُ الطَّيِّبِ [ ص: 21 ] مِنَ الْأُصُولِ تَفَاصِيلَ الْعِلَلِ ، كَالْقَوْلِ فِي عَكْسِ الْعِلَّةِ ، وَمُعَارَضَتِهَا ، وَالتَّرْجِيحِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا ، وَتَفَاصِيلَ أَحْكَامِ الْأَخْبَارِ ، كَأَعْدَادِ الرُّوَاةِ ، وَالْإِرْسَالِ ; فَإِنَّهُ لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ .

وَاعْتَذَرَ ابْنُ الْجُوَيْنِيِّ عَنْ إِدْخَالِهِ فِي الْأُصُولِ بِأَنَّ التَّفَاصِيلَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأُصُولِ الْمَقْطُوعِ بِهَا دَاخِلَةٌ بِالْمَعْنَى فِيمَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَطْعِيُّ .

قَالَ الْمَازِرِيُّ : وَعِنْدِي أَنَّهُ لَا وَجْهَ لِلتَّحَاشِي عَنْ عَدِّ هَذَا الْفَنِّ مِنَ الْأُصُولِ وَإِنْ كَانَ ظَنِّيًّا ، عَلَى طَرِيقَةِ الْقَاضِي فِي أَنَّ الْأُصُولَ هِيَ أُصُولُ الْعِلْمِ ; لِأَنَّ تِلْكَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينُ كُلِّيَّاتٍ وُضِعَتْ لَا لِأَنْفُسِهَا ، لَكِنْ لِيُعْرَضَ عَلَيْهَا أَمْرٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ مِمَّا لَا يَنْحَصِرُ . قَالَ : فَهِيَ فِي هَذَا كَالْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ قَالَ : وَيَحْسُنُ [ ص: 22 ] مِنْ أَبِي الْمَعَالِي أَنْ لَا يَعُدَّهَا مِنَ الْأُصُولِ ; لِأَنَّ الْأُصُولَ عِنْدَهُ [ هِيَ الْأَدِلَّةُ ، وَالْأَدِلَّةُ عِنْدَهُ ] مَا يُفْضِي إِلَى الْقَطْعِ ، وَأَمَّا الْقَاضِي ; فَلَا يَحْسُنُ بِهِ إِخْرَاجُهَا مِنَ الْأُصُولِ عَلَى أَصْلِهِ الَّذِي حَكَيْنَاهُ عَنْهُ . هَذَا مَا قَالَ .

وَالْجَوَابُ : أَنَّ الْأَصْلَ عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مَقْطُوعًا بِهِ ; لِأَنَّهُ إِنْ كَانَ مَظْنُونًا تَطَرَّقَ إِلَيْهِ احْتِمَالُ الْإِخْلَافِ ، وَمِثْلُ هَذَا لَا يُجْعَلُ أَصْلًا فِي الدِّينِ عَمَلًا بِالِاسْتِقْرَاءِ ، وَالْقَوَانِينُ الْكُلِّيَّةُ لَا فَرْقَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْكُلِّيَّةِ الَّتِي نُصَّ عَلَيْهَا ، وَلِأَنَّ الْحِفْظَ الْمَضْمُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ إِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ حِفْظُ أُصُولِهِ الْكُلِّيَّةِ الْمَنْصُوصَةِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [ الْمَائِدَةِ : 3 ] أَيْضًا ، لَا أَنَّ الْمُرَادَ الْمَسَائِلُ الْجُزْئِيَّةُ ; إِذْ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَتَخَلَّفْ عَنِ الْحِفْظِ جُزْئِيٌّ مِنْ [ ص: 23 ] جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ ; لِأَنَّا نَقْطَعُ بِالْجَوَازِ ، وَيُؤَيِّدُهُ الْوُقُوعُ ; لِتَفَاوُتِ الظُّنُونِ ، وَتَطَرُّقِ الِاحْتِمَالَاتِ فِي النُّصُوصِ الْجُزْئِيَّةِ ، وَوُقُوعِ الْخَطَأِ فِيهَا قَطْعًا ، فَقَدْ وُجِدَ الْخَطَأُ فِي أَخْبَارِ الْآحَادِ وَفِي مَعَانِي الْآيَاتِ ; فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالذِّكْرِ الْمَحْفُوظِ مَا كَانَ مِنْهُ كُلِّيًّا ، وَإِذْ ذَاكَ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ أَصْلٍ قَطْعِيًّا .

هَذَا عَلَى مَذْهَبِ أَبِي الْمَعَالِي ، وَأَمَّا عَلَى مَذْهَبِ الْقَاضِي ; فَإِنَّ إِعْمَالَ الْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ أَوِ الظَّنِّيَّةِ إِذَا كَانَ مُتَوَقِّفًا عَلَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ الَّتِي هِيَ أُصُولُ الْفِقْهِ ; فَلَا يُمْكِنُ الِاسْتِدْلَالُ بِهَا إِلَّا بَعْدَ عَرْضِهَا عَلَيْهَا ، وَاخْتِبَارِهَا بِهَا ، وَلَزِمَ أَنْ تَكُونَ مِثْلَهَا ، بَلْ أَقْوَى مِنْهَا ، لِأَنَّكَ أَقَمْتَهَا مَقَامَ الْحَاكِمِ عَلَى الْأَدِلَّةِ ، بِحَيْثُ تُطْرَحُ الْأَدِلَّةُ إِذَا لَمْ تَجْرِ عَلَى مُقْتَضَى تِلْكَ الْقَوَانِينِ ; فَكَيْفَ يَصِحُّ أَنْ تَجْعَلَ الظَّنِّيَّاتِ قَوَانِينَ لِغَيْرِهَا ؟

وَلَا حُجَّةَ فِي كَوْنِهَا غَيْرَ مُرَادَةٍ لِأَنْفُسِهَا حَتَّى يُسْتَهَانَ بِطَلَبِ الْقَطْعِ فِيهَا ; فَإِنَّهَا حَاكِمَةٌ عَلَى غَيْرِهَا ; فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ بِهَا فِي رُتْبَتِهَا ، وَحِينَئِذٍ يَصْلُحُ أَنْ تُجْعَلَ قَوَانِينَ ، وَأَيْضًا ، لَوْ صَحَّ كَوْنُهَا ظَنِّيَّةً ; لَزِمَ مِنْهُ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْمَسْأَلَةِ ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَوْ سُلِّمَ ذَلِكَ كُلُّهُ ; فَالِاصْطِلَاحُ اطَّرَدَ عَلَى أَنَّ الْمَظْنُونَاتِ لَا تُجْعَلُ أُصُولًا ، وَهَذَا كَافٍ فِي اطِّرَاحِ الظَّنِّيَّاتِ مِنَ الْأُصُولِ بِإِطْلَاقٍ ، فَمَا [ ص: 24 ] جَرَى فِيهَا مِمَّا لَيْسَ بِقَطْعِيٍّ فَمَبْنِيٌّ عَلَى الْقَطْعِيِّ تَفْرِيعًا عَلَيْهِ بِالتَّبَعِ ، لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.43 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.80 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.59%)]