عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 24-09-2020, 03:25 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,201
الدولة : Egypt
افتراضي ( وقد خلقكم أطوارا )

( وقد خلقكم أطوارا )
. فايز بن سعيد الزهراني


طبيعة التغير في المراحل العمرية للإنسان والتكرار المستمر لهذا التغير، سواء كان على مستوى الفرد لوحده أو على مستوى الناس عموماً؛ دليلٌ على عظمة الله تعالى وتفرده بالألوهية، وموطن من مواطن الاعتبار المفضي إلى توجه القلب إليه سبحانه، قال الله تعالى: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا 13 وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 13، 14]؛ قال ابن جرير رحمه الله: «وقد خلقكم حالاً بعد حال، طوراً نطفة، وطوراً علقة، وطوراً مضغة»[1]، وقال البغوي رحمه الله: «تارات، حالاً بعد حال، نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، إلى تمام الخلق»[2].


وما ذكره المفسرون هنا يمكن وضعه في جزءين: الجزء الأول: المعنى الأصلي للآية، وهو التفسير المحض، حيث قالوا: «تارات، حالاً بعد حال».


الجزء الثاني: ما يعد من ضرب الأمثلة على التفسير، حيث قالوا: «نطفة، علقة، مضغة».


ويبقى المراد من كلام الله تعالى هو المعنى الأصلي العام، وهو حالٌ بعد حال. وعليه فإن مسألة «الأطوار» لا تتوقف عند تمام خلق الإنسان، بل تستمر معه إلى يوم البعث والنشور، لهذا قال الله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ 12 ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ 13 ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْـمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَـحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْـخَالِقِينَ 14 ثُمَّ إنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ لَـمَيِّتُونَ 15 ثُمَّ إنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12 - 16]، وقال أيضاً: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ 5} [الحج: ظ¥]؛ فمن هاتين الآيتين يتبين لك أن الإنسان من مبتدئه إلى منتهاه يعيش مراحل متغيرة، لا يثبت على حال ولا يستقر على قرار.


ثم لا يتوقف التأمل ولا الدهشة من هذه العبرة، حتى يأتيك موطن آخر من مواطن العبر والاتعاظ، ليس بعيداً عن الأول، بل هو جزء منه، لكن الغفلة تحجب أبصارنا عن رؤيته، أحياناً، إنه الطبائع والخصائص والملابسات الكامنة في هذه الأحوال والتارات:


ففي بطن الأم: النطفة والعلقة والمضغة وبناء العظم والاكتساء باللحم وشق الحواس؛ مراحل وأحوال، لكل مرحلة طبيعتها وخصائصها واحتياجاتها الحسية والمعنوية.


وبعد الولادة: المهد والطفولة والبلوغ والفتوة والرشد والأشد والكهولة والشيخوخة؛ مراحل وأحوال، لكل مرحلة طبيعتها وخصائصها واحتياجاتها الحسية والمعنوية.


فلله الحكمة البالغة، وله القدرة الباهرة، كيف أحكم هذا الخلق! ويسر له أسباب حياته وسبل معاشه في كل مرحلة وحال! إنها مسألة تستوقف المؤمن دهراً لا يمل ولا يكل من تأملها، فسبحانك ربنا ما قدرناك حق قدرك.


هذا التبدل والتغير في أحوال الناس الجسمانية والعمرية مما جعله الله تعالى محل اعتبار واتعاظ، ودليلاً على التوحيد والعبودية. لقد جاء الخطاب القرآني ليقول إن هذه المسألة كافية في دلالة القلب على معبوده الحق سبحانه: {مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا 13 وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا 14} [نوح: 13، 14]، لا لكون الإنسان لا ينفك عن هذا التبدل والتغير من حال إلى حال بطريقة ليس له فيها اختيار فحسب، بل لأن هذا التبدل والتغير - أيضاً - لا يطرأ على الله جل شأنه، فهو الذي يغيِّر ولا يتغير، دائم الكمال والجمال والجلال، لا يعتريه ضعف البشر ولا عوزهم: {إنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْـمَتِينُ} [الذاريات: 58].


الأطوارناموسٌكوني: في حقيقة الأمر إنَّ تغير الأحوال بشكل متتالٍ ومتعاقب ليس مقصوراً على الإنسان، ولا على الكائنات الحية كذلك، فإنَّنا نرى في دورة الشمس اليومية نهاراً يتلوه الليل، وفي كل منهما أحوال متعاقبة، فالنهار يبدأ بالبكور ثم الضحى ثم الزوال ثم الأصيل، والليل يبدأ بالغروب ثم يغيب الشفق ثم ينقضي الهزيع الأول من الليل، ثم يحلولك الظلام، ثم يطلع الفجر الكاذب، فيعقبه فجر يوم جديد، كما أننا نرى في دورتها السنوية تعاقب الفصول الأربعة، والقمر يبدأ هلالاً ثم يتدرج حتى يكتمل بدراً ثم يتناقص حتى يعود هلالاً ثم يختفي محاقاً، وفي كل حال وفي كل فصل وفي كل منزلة من منازل الشمس والقمر خصائص وصفات مختلفلَّهُم اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَفَإذَاهُم مُّظْلِمُونَ 37 وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِـمُسْتَقَرٍّلَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُالْعَزِيزِالْعَلِيمِ 38 وَالْقَمَرَقَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ 39لاالشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَوَلااللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37 - 40]، قال ابن كثير رحمه الله: «يقول تعالى: ومن الدلالة لهم على قدرته تعالى العظيمة خلق الليل والنهار، هذا بظلامه وهذا بضيائه، وجعلهما يتعاقبان، يجيء هذا فيذهب هذا، ويذهب هذا فيجيء هذا»[3].

وقال: «أما القمر، فقدَّره منازل، يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية، ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء، وإن كان مقتبساً من الشمس، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر، حتى يصير كالعرجون القديم»[4]، والعرجون كما هو معلوم: عذق النخلة.


وأكثر من ذلك! فإنك ترى معالم الحياة من حولك تكتنفها حالة «الأطوار»، فأنت تشاهد بأم عينيك العرجون القديم يتمثل في عواصم درست وحضارات طُمست ودول أبيدت، في مصنوعات بليت وآلات تلِفت.. حتى الأفكار الإنسانية تتوهج ثم تنطفئ، وتثمر ثم تذبل فتنحني كما ينحني العرجون القديم.


وفي نصوص السنة ما يفيد أنَّ حياة الممالك والسلطنة يصيبها ما يصيب سائر الكائنات من تعاقب الأحوال، عن حذيفة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضاً، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، ثم سكت»[5].


وفي قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها»[6]، ما يدلُّ كذلك على أنَّ وهج الديانة في الناس يخفت بعد قوة.. سنة الله!


ولقد قرر القرآن أنَّ حال الدنيا كلها هكذا، بما فيها من أحياء وجمادات، تنمو ثم تتوقد شباباً وذكاء، ثم تذبل وتفنى، ولا يبقى على صفاته ونعوته إلا رب العزة والجلال، قال الله تعالى: {وَاضْرِبْلَهُممَّثَلَالْـحَيَاةِالدُّنْيَاكَمَاءٍأ َنزَلْنَاهُمِنَالسَّمَاءِفَاخْتَلَطَبِهِنَبَاتُالأ َرْضِفَأَصْبَحَهَشِيمًاتَذْرُوهُالرِّيَاحُوَكَانَا للَّهُعَلَىكُلِّ شَيْءٍمُّقْتَدِرًا} [الكهف: 45]، وقال تعالى: {اعْلَمُواأَنَّمَاالْـحَيَاةُالدُّنْيَالَعِبٌوَلَهْ وٌوَزِينَةٌوَتَفَاخُرٌبَيْنَكُمْوَتَكَاثُرٌفِيالأَ مْوَالِوَالأَوْلادِكَمَثَلِغَيْثٍ أَعْجَبَالْكُفَّارَنَبَاتُهُثُمَّيَهِيجُ فَتَرَاهُمُصْفَرًّاثُمَّيَكُونُحُطَامًا وَفِيالآخِرَةِعَذَابٌشَدِيدٌوَمَغْفِرَةٌ مِّنَاللَّهِوَرِضْوَانٌوَمَاالْـحَيَاةُ الدُّنْيَاإلَّامَتَاعُالْغُرُورِ } [الحديد: 20]، وذلك دليل تفرد المولى جل وعلا، فإنه الأول الذي ليس قبله شيء والآخر الذي ليس بعد شيء.


من جميع الأدلة المقروءة في نصوص الوحي والمشاهدة في واقع الحياة ندرك أن لا قرار لشيء على حاله إلا وجه الله تعالى، ولا سرمدية للأوصاف المتلبسة بالذوات إلا الصفات العلية لذات الله تعالى. وإنَّ كل محاولاتنا للتعامل مع الأشياء - أياً كانت - على أساس ثبات ذواتها وأوصافها ضربٌ من العبث ونقص الإدراك، ينزه العقلاء عنه: {وَلاتَدْعُمَعَاللَّهِإلَهًاآخَرَلاإلَهَإلَّاهُوَكُ لُّشَيْءٍهَالِكٌإلَّاوَجْهَهُلَهُالْـحُكْمُوَإلَيْ هِ تُرْجَعُونَ} [القصص: ظ¨ظ¨].


الأطوارناموسٌدعوي: أما أهل الدعوة، فإنَّ عليهم أنْ يستحضروا هذا الناموس الكوني وهذه السنة الربانية في تفكيرهم الإستراتيجي، فتعاقب الأحوال، وتغير صفات المراحل أمران ثابتان في المشاريع والمؤسسات الدعوية، والناجحون هم القادرون على إدراك ذلك وعمل ما يلزم حياله.


ولقد كانت الدعوة النبوية على هذا الشأن من المراحل المتعاقبة، فهي متعاقبة أي يعقب بعضها بعضاً، ولكل مرحلة خصائصها وصفاتها التي تختلف بها عن سابقتها، فتختلف - تبعاً لذلك - أنشطتها الدعوية عن سابقتها.


بدأت الدعوة النبوية بالسرية، فمكثت أكثر من عامين تحمل خصائص محددة، ولها إجراءاتها وأنشطتها الملائمة لها، ثم أعقبتها مرحلة الدعوة جهراً، وكانت مرحلة تحمل خصائص مغايرة، ولها إجراءاتها وأنشطتها الملائمة، ثم أعقبتها مرحلة البلاغ العام، وكانت مرحلة تحمل خصائص مغايرة، ولها إجراءاتها وأنشطتها الملائمة، ثم أعقبتها مرحلة تأمين الدعوة، ثم الإذن بالهجرة، ثم الحياة المدنية.


تأمّل الأسلوب القرآني في الآيات المكية وخصائصه المختلفة عن الأسلوب القرآني في الآيات المدنية؛ ستدرك أن المراحل المتعاقبة لها أثرها في تحديد إجراءات الدعوة ومناشطها، بل إنَّ المسألة الأصولية المشهورة: النسخ، من شواهد التغيير الشرعية على الأطوار الدعوية.


في واقع الأمر إنَّ هذا ليس مقصوراً على الدعوة النبوية ولا على الدعوات عموماً، بل إنَّ مشاريع الإنتاج وفق الإدارة الحديثة تتحدث عن حياة المشاريع وأنَّ المشاريع يصيبها ما يصيب الإنسان من حالة النمو والقوة ثم التوهج والغزارة ثم الذبول والانحناء، وعند ذلك - أعني الذبول والانحناء - فإن المشاريع مخيرة بين أمرين لا ثالث لهما: إما الفناء والموت، وحينها تقع الخسائر المادية، وإما تجديد القوة باستحداث خط إنتاج جديد يضمن وهج وقوة المشروع.
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.74 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.11 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.65%)]