عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 23-09-2020, 02:00 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,735
الدولة : Egypt
افتراضي رد: منهج القرآن في مفاصلة مخالفيه

ولئن كان صلى الله عليه وسلم قد فاصَل المشركين عقَديًّا بأمر ربه، وأنهى حالةَ مُلايَنتهم - فإن هذا الموقفَ منه لا يُثمِر في النفس والشعور والسلوك الفردي والاجتماعي والعلاقات الإنسانية إلا أن يكون على بيِّنة مِن أمر العقيدة؛ تصوُّرًا إيمانيًّا متكاملًا، ومُبارَأة حاسمة في المشاعر والمواقف والعلاقات؛ كي يَهلِكَ مَن هلَك عن بينة، ويحيا من حَيَّ عن بينة؛ عملًا بقاعدة ربانيةٍ تقضي بأن اللهَ تعالى لا يُركِسُ قومًا في الضلال إلا إذا بيَّن لهم الحق فاختاروا الباطل وأصرُّوا عليه واعتزُّوا به؛ قال عز وجل: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 115]؛ لذلك أخَذ صلى الله عليه وسلم يبيِّن للمشركين حقائقَ التوحيد، ودقائقَ معرفته بألوهية ربه تعالى وجلاله وعظَمته، وسَعة عِلمه الذي ليس لمخلوق أبدًا أن يحيطَ به بقوله عز وجل:



﴿ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ﴾ [الأنعام: 59] ولفظ مَفاتِح مُفرده مَفتَح بفتح الميم والتاء بمعنى المفتاح؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ ﴾ [القصص: 76]، وقد استُعير اللفظ: ﴿ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ﴾ [الأنعام: 59] للتعبيرِ عن إحاطة الله بأسرار الغيب، واطِّلاعه عليه، وتمكُّنه مِن ناصيتِه، كأن الغيبَ خزائنُ محكمةُ الإغلاق، عند الله وحده مفتاحُها، وكيف لا يكون ذلك وهو سبحانه خالقُ الغيب؟! بيده تدبيرُ سرائره وخفيَّاته ومغاليقه، ما ظهر منه إلى عالم الشَّهادة وما لم يظهر، وما وقَّت لظهوره وقتًا وما لم يؤقِّتْ، وما حدَّد لبروزه مكانًا وما لم يحدِّد، ما يتسع العقل البشري لفهمِه واستيعابه وما لا يتَّسِع، ﴿ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [سبأ: 3]؛ أي: في اللوحِ المحفوظ، لا يُظهِر على بعضِ ما فيه إلا لأصفياءِ عباده مِن الأنبياء والرسل والملائكة المقرَّبين؛ كما قال سبحانه: ﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ ﴾ [الجن: 26، 27]، كحال عيسى عليه السلام فيما حكاه عنه ربُّه تعالى إذ قال لقومه: ﴿ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ ﴾ [آل عمران: 49]، وحال يوسفَ عليه السلام إذ قال لصاحبي السِّجن: ﴿ قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي ﴾ [يوسف: 37]، وكان صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأَلونه عن أشياءَ مِن الغيب والشهود، فيُبيِّن بعضها، ويُعرِض عن بعضها، تبعًا لِما يأتيه من ربه، ويقول لهم: ((ما نهيتُكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتُكم به فأتُوا منه ما استطعتم؛ فإنما أهلَك الذين مَن قبلكم كثرةُ مسائلهم، واختلافُهم على أنبيائهم))، إلى أنْ حسَم رب العزة أمرَ غيوبٍ خمسةٍ استأثَر بعلمها في قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، ثم في حَجَّة الوداع قبل وفاته صلى الله عليه وسلم بواحدٍ وثمانين يومًا، أو اثنين وثمانين يومًا، نزَلَتْ سورةُ المائدة، وفيها قوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ ﴾ [المائدة: 101، 102].







ولزيادةِ البيان والتَّوضيح تدرَّج بهم الحقُّ سبحانه مِن الغيب المطلق الذي خلَقه واستأثر بمفاتِحِه إلى ما يرَوْن مِن عالَم الشهادة في البيئة البشرية، والعالم الذي يعيشون بين أكنافه، يعرفون جزئيَّةً صغيرة منه، ولا يستطيعون الإحاطة به كله، فقال:



﴿ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [الأنعام: 59] يعلَم دقيقَهما وجليلهما، مجمَلًا ومفصَّلًا، ما خلَقه الله فيهما مما اكتشفه البشرُ، وما يكتشفون، وما لا يكتشفون، ﴿ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا ﴾ [الأنعام: 59]، ولا تسقُطُ ورقةٌ في لُجَج البحار ومفاوز القِفار إلا علِمها قبل السقوط ومعه وبعده، وعلِم أسبابَ سقوطها، للتجدُّد والنَّماء، أو للانهيارِ والفَناء، ﴿ وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ ﴾ [الأنعام: 59]، ولا بذرة مطمورة في عُمْق الأرض إلا علِم حالها ومآلها، ومقدار آجالها، ﴿ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ ﴾ [الأنعام: 59] ولا كائن تتخلَّله الرُّطوبة أو اليبس إلا علِم قابليتَه للحياة والفَناء، وفاعليته في الكون، ﴿ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ﴾ [الأنعام: 59] إلا كَتَب في اللوحِ المحفوظ حكمةَ خَلْقه، ودورَه الذي خُلق له وسُخِّر فيه، وآجالَه التي أُجِّلتْ له.







ثم تدرَّج بهم الحقُّ سبحانه إلى أمثلةٍ لعلمِه سبحانه في حياتهم اليومية، في يقظَتهم ومنامهم، وسِرِّهم وعلانيتهم، وسَعْيِهم وكَسْبهم في دنياهم، وحسابهم وجزائهم في آخرتهم، فقال تعالى:



﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ ﴾ [الأنعام: 60] فتنامُون، ﴿ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ﴾ [الأنعام: 60] ويعلَمُ ما كسبَتْ في النهار جوارحُكم: أيديكم وأرجلُكم، وأسماعُكم وأبصاركم، وألسنتكم وقلوبكم وفُروجكم، مما هو مباحٌ أو محرَّم، مأجور أو مَوْزور[5]،﴿ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ﴾ [الأنعام: 60] يوقِظُكم مِن نومكم في النهار، وتتوالى عليكم الأيامُ، ﴿ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ﴾ [الأنعام: 60]؛ لتبلغوا ما أجل لكم من العمر، ثم تموتون، ﴿ ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ﴾ [الأنعام: 60] فترجِعون إلى الله سبحانه، ﴿ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 60] فيُخبِركم بجميع أعمالكم في الدنيا، ويجازيكم بها، إنْ خيرًا فخيرٌ، وإنْ شرًّا فشرٌّ.







إن كلَّ عاقل إذا استعرض حالَه، مبدأَه ومنتهاه، مسارَه ومآله، واستحضر إحاطةَ علم ربه بعالَمي الغَيب والشهود في السموات والأرض، والبَرِّ والبحر، في النوم واليقَظة، في المكسب مأجوورًا أو موزورًا، في الآخرة مبعوثًا محشورًا ثم مَجْزِيًّا أو مغفورًا، لا بد أن يستشعرَ بفِطرته السليمة قاهريَّةَ ربِّه للكون، وعَجْزَ الكائنات عن حماية نفسها فيما حدد لها مِن آجال، أو قدر لها مِن مقادير؛ لذلك ذكَّر الحقُّ سبحانه المشركين بفساد فِطرتهم؛ لعلهم يرشُدون، فقال:



﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [الأنعام: 61] قاهرٌ قهرَ خَلْقٍ واقتدار، وحُكْم وتسيير وتدبير، وقضاء وتقرير، لكل عباده في السمواتِ والأرض، مِن الجنِّ والإنس والملائكة وغيرهم، مما نعلم وما لا نعلم، وما لا يُحيط بعِلمه إلا هو سبحانه، مِن قاهريَّتِه وشمولِ عنايته بخَلْقه أنه عز وجل قال عقِبَ ذلك:



﴿ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ﴾ [الأنعام: 61] والمراد بالحفَظة: الملائكةُ المُوكَّلون بالحفظ، وتسجيل الأعمال، جمع حافظ؛ أي: يبُثُّ بينكم ملائكةً يتعاقبون فيكم بالليل والنهار، يكتبون أعمالَكم خيرَها وشرَّها، ويحفَظون عليكم أمنَكم الذي شمِلكم اللهُ به، وأرزاقَكم التي كُتبت لكم، وآجالَكم التي أُجِّلَتْ لكم، فإذا جاء مِن الله قدرُكم ترَكوكم له، وهو ما شرَحه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((يتعاقَبونَ فيكم ملائكةٌ بالليلِ وملائكةٌ بالنهارِ، ويجتمعون في صلاةِ الفجرِ وصلاةِ العصرِ، ثم يعرجُ الذين باتوا فيكم فيسألُهم ربُّهم - وهو أعلمُ بهم -: كيف تركتُم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يُصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّونَ))، وذلك ما ورد أيضًا في قوله تعالى: ﴿ لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ﴾ [الرعد: 11]؛ أي: ملائكة تعتقب على العباد، إذا صعِدت ملائكةُ الليل أعقبتها ملائكة النهار، وإذا صعِدت ملائكةُ النهار أعقبتها ملائكة الليل، فإذا نفِدَت أرزاقهم واستوفَوْا آجالَهم وُكِّل بكل منهم رسلٌ مِن الملائكة آخرون يتوفَّوْنَهم: ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا ﴾ [الأنعام: 61]؛ أي: مَلَكُ الموت وأعوانُه من الملائكة، ﴿ وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ ﴾ [الأنعام: 61] لا يقصِّرون في تنفيذِ أمر الله، ولا يتهاوَنون ولا يتردَّدون ولا يؤخِّرون أو يقدِّمون، ﴿ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [الأنعام: 62] حينئذ تُرَدُّ الأرواح المتوفَّاة إلى مولاها الحقِّ القاهرِ المقتدِر، فتجد نفسَها بيد مَن له الحُكم حقًّا: ﴿ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ ﴾ [الأنعام: 62]، له الأمرُ قضاءً وتنفيذًا، وعفوًا ورحمة واسعة وعقابًا شديدًا، ﴿ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ ﴾ [الأنعام: 62] أسرعُ محاسِبٍ ومُجازٍ لخَلْقه على أعمالهم خيرِها وشرِّها، حينئذٍ يعرف الجهلةُ بالله والمجادلون فيه والمشركون به، سرعةَ حسابٍ لا خيارَ لهم فيها ولا استعتاب[6]، وأنه عز وجل هو مولاهم القاهرُ فوقهم، بأسمائِه وصفاته التي بلَّغهم إياها رسولُه الكريم صلى الله عليه وسلم، أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيزدادون إيمانًا واطمئنانًا وأمنًا وحُسنَ مأوى: ﴿ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ﴾ [الزمر 74].







وبعد أن أعذَر الرسولُ صلى الله عليه وسلم إلى المشركينَ بقواطع الحُجج والأدلة وبارَأَهُمْ بأمرٍ مِن ربه في الدنيا قبل الآخرة، وذكَّرهم بعِلم الله المحيط بالغيب المطلَق، وبما في البَرِّ والبحر من جليلٍ عظيم أو دقيق أو حقير، أو ورقة تتساقط يابسةً متفانية، أو حَبَّة في باطن الأرض تنبت وتنمو رطبة جنية، وبيَّن لهم علمه بما يكسبه المرء أو يكتسبه، وما يكتبه عنه وله الملائكة المتعاقبون بالليل والنهار، وما يقوم به رسلُ الله الموكَّلون بقَبْض الأرواح، أخذ الوحي الكريم في تبكيتهم وتذكيرهم بجحودهم نِعَم اللهِ عليهم بقوله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم:



﴿ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 63] عبَّر الوحيُ عن شدائد الحياة بظُلمات البَرِّ والبحر على سبيل الاستعارة؛ أي: اسألِ المشركين يا محمدُ عمن ينجيكم من المِحَن والشدائد وأنتم تسعَوْن في البَرِّ آهلين أو ظاعنين أو مبعِدِين[7] ضاربين في الأرض، أو تخُوضون غِمار البحار ساعِين مكتسبين، وتدعون الله جهارًا وسرارًا متضرِّعين، وقد نذَرْتم أن تشكروه إن كشف عنكم الشِّدةَ، والسؤال في هذه الآيةِ الكريمة تمادٍ في التقريع، وشدةُ توبيخٍ لكل مشركٍ آثَرَ اتباعَ الباطل على اتباع الحق، وعبادة الأوثان على عبادة الرحمن.







فإن تردَّد المشركون أو تلجلجوا في الإجابة، فقُلْ لهم يا محمد:



﴿ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا ﴾ [الأنعام: 64]، قل لهم: إن اللهَ هو الذي يُنجيكم مِن تلك الشدائد، ﴿ وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ﴾ [الأنعام: 64]، ويكشِف عنكم كلَّ حزن وهمٍّ وغمٍّ، ﴿ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 64] ثم بعد انكشاف الشدائدِ يكون منكم الشِّرك بدل التوحيد، والكُفْران بدل الإيمان، والجحود بدل الشكر، والعصيان بدل الطاعة، تخافون فتتضرَّعون، ويستجاب لكم فتجحَدون وتُشركون، فبئس ما فعلتم وتفعلون.







ثم انتقَل الوحيُ ختامًا لهذا الموقف إلى التهديدِ باحتمال انتقام الله منهم إن أصرُّوا على إعراضهم وتمرُّدهم وعصيانهم، فقال تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم:



﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا ﴾ [الأنعام: 65] أنذَرهم بأن اللهَ تعالى قادرٌ على أن يعجِّلَ لهم بثلاثة أصناف مِن العذاب في الدنيا:



عذابٍ ﴿ مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]: يرسِلُه عليكم من السماء؛ صواعقَ وعواصفَ، وهدمًا ورَدْمًا، وأنواءً وغيرها.



﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]: أو عذابٍ مِن تحتكم، يرسله عليكم زلازلَ وخَسْفًا، وغرقًا وحرقًا وغيره.







﴿ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65]، وهو الصِّنفُ الثالث مِن العذاب، ولفظ: "لبَس يلبِس" بكسرِ عين المضارع مِن اللَّبس وهو الاختلاط، اختلاطُ الكذِب والباطل، واختلاط العقول والمُهَج، مِن قولك: "فلان لُبِّستْ عليه أمورُه"، إذا احتار في تقديرها وأخطأ التصرُّف فيها؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ ﴾ [الأنعام: 9]، قال أبو هلالٍ العسكريُّ في الفروق[8]: (حدُّ اللَّبس: منعُ النفسِ مِن إدراك المعنى)، كما يعني اللَّبْسُ أيضًا تنازُعَ الجماعة الواحدة، أو الأمة الواحدة، واختلاف أهوائها وآرائها وأهدافها، وتشرذمَها وتفرقَها وتنازعَها، كما وقع في فترات تاريخية سابقة داخل الأمة الإسلامية، سقطَتْ فيها بيدِ النفوذ الأجنبي، وذهبت ريحُها، وكما يقع حاليًّا في بلاد المسلمين من تمزُّق ونزاع، واختلاف للوَلَاءاتِ، واصطفاف مع أعداء الأمة، واستِعارٍ للأحقاد داخل المجتمع الواحد، وانتهاك لِمَا صانه اللهُ من الأعراض، وجَراءة على ما حرَّمه مِن الدماء، مما أدى إلى أن يقتُلَ الأخُ أخاه، والابن أباه، ويستعين في ذلك بالأعداء المتربِّصين بهم جميعًا.







إن لفظ: ﴿ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65] في الآية الكريمة من حروف ثلاثة: الشين والياء والعين، وله معانٍ ثلاثة، أوَّلها: الانتشار والتفرُّق، في مثل قولك: شاع الخبَرُ إذا تفرَّق، والثاني: الاتباع والتعصُّب للمتبوع؛ كتشييع الجنازة، والثالث: التقوية والتهييج؛ كما تقول: شيَّع النار إذا ألقى عليها الحطَب ليُذْكِيَها، ولفظ القُرْآن الكريم في هذه الآية الكريمة: ﴿ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65] يجمَعُ هذه المعانيَ الثلاثة كلها؛ لأنه يفيدُ التفرُّق وانتشاره في الأمة، ويفيد التعصُّب للرأي والانصياع لقادة الفِتَن والتحزب معهم؛ كما قال تعالى: ﴿ فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ [المؤمنون: 53]، ويفيد إذكاءَ نار الفتنة بالاختلاف والتعصُّب والاستبداد بالرأي والتقاتل عليه.







وقوله تعالى: ﴿ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا ﴾ [الأنعام: 65]؛ أي: يجعَلَكم فِرَقًا وطوائفَ مختلفة الأهواء مختلطتها، متضاربة الأهداف متناقضتها، مختلَّة المشاعر مضطربتها؛ لانحرافِكم عن العقيدة التوحيدية الموحدة، وإعراضكم عن المنهجِ الإسلامي السويِّ والصراط المستقيم، وتحاكمكم إلى غير القُرْآن الكريم.







ولذلك عقَّب تعالى على هذا الصِّنف مِن العذاب الذي هو تفرُّق الأمة وتمزُّقها وتقاتُلها، توضيحًا لنتائجِه الكارثية على البلاد والعباد بقوله عز وجل:



﴿ وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65] يسلِّط بعضَكم على بعضٍ بالقتل والسَّبي، ومصادرة الأموال، واغتصاب الأعراض، بسبب اختلاطِ أهوائكم واضطرابها، وتبايُن أهدافكم ومصالحكم، واختلاف ولاءاتكم لغير الله، كما يقع حاليًّا في أقطار المسلمين، وكما أخبَر بذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذ قال: ((إن بين يدَيِ الساعةِ الهَرْجَ))، قالوا: وما الهَرْجُ؟ قال: ((القَتْلُ، إنه ليس بقَتْلِكم المشركين، ولكن قتل بعضِكم بعضًا، حتى يقتُل الرجلُ جارَه، ويقتل أخاه، ويقتل عمَّه، ويقتل ابنَ عمه))، قالوا: ومعنا عقولُنا يومئذ؟، قال: ((إنه لتُنزَعُ عقولُ أهل ذلك الزمانِ، ويخلف له هباء مِن الناس، يحسَب أكثرُهم أنهم على شيءٍ، وليسوا على شيءٍ)).







وقد رُوِيَ في سبب نزول هذه الآية الكريمة عن زيدِ بن أسلَمَ قال: لما نزلت: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65]، قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تَرجِعوا بعدي كفَّارًا يضرب بعضُكم رقابَ بعض بالسيوف))، فقالوا: ونحن نشهَدُ أن لا إله إلا الله وأنك رسولُ الله؟ قال: ((نعم))، فقال بعضُ الناس: لا يكونُ هذا أبدًا؛ فأنزَل الله: ﴿ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنعام: 65 - 67].







ثم عقَّب الحق سبحانه إيقاظًا للعقول، وتحذيرًا مِن مكامن الضلال، وحثًّا على الفهم السليم والنظر السديد والاعتبار الرشيد، فقال عز وجل:



﴿ انْظُرْ ﴾ [الأنعام: 65] والخطابُ هذا موجَّهٌ إلى جميع المؤمنين، في شخص الرسولِ صلى الله عليه وسلم؛ أي: انظُروا أيها المؤمنون: ﴿ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65] الآياتُ في هذا السياق تُفيد الحُجَج والبينات؛ أي: انظُروا كيف نُقِيم الحُجَج، ونُقرِّر البيناتِ الهادية للحق، على عامة المشركين في كل عصرٍ إلى قيام الساعة، فنُقدِّم لهم الأدلة على صِدق رسالتك، والبراهين على فساد عقائد الكُفْر والشرك والنفاق، ونُبيِّن لهم ما ينتظر المتلبِّسين بها والمُصرِّين عليها؛ ﴿ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ ﴾ [الأنعام: 65]؛ كي يفقَهوا ما هم فيه، وما هم مُقبِلون عليه، وما ينتظرُهم في الدنيا والآخرة.







بهذه الآياتِ الكريمة التي نزلَتْ في هذه الفترة المكية المبكِّرة مِن البعثة النبوية الشريفة، وجَب على كلِّ عاقل أن يُعمِّقَ النظر فيما يرى مِن الكون المنظور؛ خَلْقًا وتصريفًا، وحركة وسكونًا واعتبارًا، واستقراءً للمحسوس، وصولًا إلى المعقول وتعرُّفًا عليه، واستنباطًا لقواعد التفكير السليم مما خلَق الله تعالى؛ بشرًا متسالمًا ومتقاتلًا، وحجَرًا رَطْبًا ويابسًا، وكائنات نامية أو فانية في البحار والقِفار، للوصول إلى تصوُّر إيماني سليم لِما أنزله تعالى من الكتاب والحكمة، وما أرسله من الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وما بثَّه لهم مِن مناهجَ للحياة سليمة، تُنقِذهم من جحيم الاقتتال والتناحر، وتنأى بهم عن الكُفر والمتلبِّسين به، والشِّرك والمصرِّين عليه، والنفاق والمجادلين عنه، وتأخذ بهم من طريق رحبٍ مستقيم إلى سعادة الدنيا ونعيم الآخرة.






[1] الإدْهَانُ: الملاينةُ فيما لا يحلُّ، والمدارَاةُ: الملايَنة فيما يحلُّ.



[2] أبو داودَ عن أبي الدرداء، ضعَّفه الألباني، ويقويه الحديث الصحيح بعده؛ حديث: ((تعِس عبد الدينار، تعِس عبد...)).



[3] صحيح/ الألباني.



[4] الحديث بلفظ مسلمٍ: مِن طريق ابن وهب، عن يونس، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل أتى عليك يومٌ كان أشد من يوم أحدٍ؟ فقال: ((لقد لقِيتُ من قومك، وكان أشدَّ ما لقيت منه يوم العقبة؛ إذ عرضتُ نفسي على ابن عبدياليل بن عبدكلال، فلم يُجِبْني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهمومٌ على وجهي، فلم أستفق إلا بقَرْن الثعالب، فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابةٍ قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام، فناداني، فقال: إن اللهَ قد سمع قول قومِك لك، وما ردوا عليك، وقد بعَث إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملَك الجِبال وسلَّم عليَّ، ثم قال: يا محمدُ، إن اللهَ قد سمِع قول قومك لك، وقد بعثني ربُّك إليك، لتأمرني بأمرك، فما شئت؟ إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبينِ - وهما جبلَا مَّكَة اللذانِ يكتنفانِها جنوبًا وشمالًا - فقال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابهم مَن يعبد الله، لا يُشرك به شيئًا)).



[5] مَوْزور: مِن الوِزر، وهو الإثمُ، ووزَر يَزِرُ، فهو مَوْزور؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [الأنعام: 164]، وفي الحديث النبوي: ((انصرِفْنَ مَأْزوراتٍ غيرَ مأجوراتٍ)، قُلِبَت الواوُ همزةً للازدواجِ.




[6] استعتَب فلانٌ ربَّه إذا سأله إقالتَه من الذَّنب؛ كما في قوله تعالى: ﴿ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ ﴾ [فصلت: 24]؛ أي: إن يستَقيلوا ربَّهم لم يُقِلْهم.



[7] الآهِل: المقيم، والظاعن: المسافر سفَرًا قريبًا، مِن قوله تعالى: ﴿ تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ ﴾ [النحل: 80]، والمُبعِد والضارب في الأرض: المسافر سَفَرًا بعيدًا.



[8] كتاب الفروق اللغوية لأبي هلال الحسن بن عبدالله بن سهل بن سعيد بن يحيى بن مِهران العسكري، المتوفى نحو 395هـ.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.54 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.92 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]