نقول لهم: من الثابت القطعي أن الموت نهاية كل حي، والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ﴾[30]، ويقول:﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾[31]، ورسول الله قد مات، وتقول عائشة: مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين سحري ونحري، وخطب أبو بكر الناس يوم موت رسول الله فقال: من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ثم تلا قول الله تعالى:﴿ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ﴾[32]، وكما مات رسول الله مات الأنبياء من قبله، ومات الشهداء تحت لوائه ومن بعده في سبيل الله دفاعاً عن دينه، ولا يماري أحد في أنهم قد انتقلوا من عالمنا إلى عالم آخر يختلف عن هذا العالم الدنيوي في كل شيء، وتختلف حياتهم فيه عن حياتهم التي كانوا يحيونها قبل الموت والشهادة، وإكباراً لقدرهم نهى الله عن القول عنهم إنهم أموات فهم شهداء أحياء بثناء الله عليهم وثناء الملائكة عليهم، واستمرار أجرهم وثوابهم فلا ينقطع بموتهم كغيرهم من الأموات.
روى مسلم في صحيحه عن سلمان الفارسي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:«من قتل في سبيل الله أمن عذاب القبر وأجري عليه عمله الذي كان يعمل في الدنيا حتى يبعث».
وعن حقيقة حياتهم عند ربهم وصفتها.
روى مسلم عن مسروق قال: سألنا عبدالله عن هذه الآية ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169] قال: أما إنا قد سألنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: «أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطلاعة فقال: هل تشتهون شيئاً؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح في الجنة حيث شئنا – ففعل بهم ذلك ثلاث مرات- فلما رأوا أن لا يتركوا من أن يسألوا قالوا: يا رب نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا».
وعليه فلا يتأتى قياس حياتهم الأخرى بحياتهم الدنيا، فيتوسل بهم بعد موتهم، ويطلب عونهم وغوثهم، ولقد قال عمر -رضي الله عنه- ثلاث وددت أني سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنهم: - الجد والكلالة وأبواب من الربا - فيبدي عمر أسفه على ما فاته من سؤال رسول الله قبل وفاته، ولم يأتي القبر ليسأل الرسول، وهو يعلم أنه حي في قبره.
ومن الأدلة الحديثية التي يحتجون بها ما رواه الحاكم في المستدرك، والبيهقي في دلائل النبوة، والطبراني في الأوسط والصغير عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لما اقترف آدم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد لما غفرت لي، فقال الله: يا آدم وكيف عرفت محمداً ولم أخلقه؟ قال: يا رب لأنك لما خلقتني بيدك ونفخت في من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوباً لا إله إلا الله محمد رسول الله فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك، فقال الله: صدقت يا آدم إنه لأحب الخلق إلي، ادعني بحقه، فقد غفرت لك، ولولا محمد ما خلقتك».
قالوا: فقد توسل بنبينا أبوه آدم حتى قبل أن يوجد، وقالوا: وإلى هذا التوسل أشار الإمام مالك للخليفة المنصور، وذلك أنه لما حج المنصور وزار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل الإمام مالكاً وهو بالمسجد النبوي فقال لمالك: يا أبا عبدالله، استقبل القبلة فأدعو أم أستقبل رسول الله وأدعو؟ فقال له الإمام مالك: ولم تصرف وجهك عنه وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم إلى الله تعالى؟
ونقول لهم عن سند هذا الحديث: قال الذهبي في الميزان: عبدالله بن مسلم أبو الحارث الفهري، روى عن إسماعيل ابن مسلمة بن قعنب عن عبدالرحمن بن زيد بن أسلم خبراً باطلاً فيه - يا آدم لولا محمد ما خلقتك - رواه البيهقي في دلائل النبوة، وقال الذهبي أيضاً في تعليقه على مستدرك الحاكم: إنه حديث موضوع.
وجاء في مجمع الزوائد - عن هذا لحديث: رواه الطبراني في الأوسط والصغير وفيه من لم أعرفهم.
أما الحكاية المنسوبة إلى الإمام مالك فقد قال ابن عبدالهادي الحنبلي في الصارم المنكي: وهذه الحكاية التي ذكرها القاضي عياض ورواها بإسناده عن مالك ليست بصحيحه عنه، وإسنادها ليس بجيد بل إسناد مظلم منقطع، وهو مشتمل على من يتهم بالكذب، وعلى من يجهل حاله.
أما تعليقهم مغفرة الله لآدم على توسله فينقضه قول الله تعالى: ﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾[33]، قال القرطبي عن هذه الكلمات، قال ابن عباس والحسن وسعيد بن جبير والضحاك ومجاهد: هي قوله تعالى:﴿ قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾[34]، وكذلك جاء في تفسير النسفي، وابن كثير والمنار.
احتجوا بما رواه الترمذي والنسائي والبيهقي والطبراني وابن ماجه والحاكم عن سهل بن حنيف: أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ادع الله أن يعافيني فقال: «إن شئت دعوت، وإن شئت صبرت وهو خير» فقال: فادعه، فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويصلي ركعتين ويدعو بهذا الدعاء «اللهم إني أسألك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إن قد توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى، اللهم شفعه في» فلما دعا عاد وقد أبصر.
قالوا: وليس لمنكر التوسل أن يقول: إن هذا كان في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأن هذا الدعاء استعمله الصحابة والتابعون بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم - في قضاء حوائجهم، فقد روى الطبراني والبيهقي: أن رجلاً كان يختلف إلى عثمان بن عفان في زمن خلافته في حاجة فكان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فشكا ذلك لابن حنيف فقال: إيت الميضأة فتوضأ ثم ائت المسجد فصل ثم قل: اللهم إني أتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة - يا محمد إني أتوجه بك إلى ربك لتقضى حاجتي- فانطلق الرجل فصنع ذلك، ثم أتى باب عثمان بن عفان، فجاء البواب فأخذ بيده فأدخله على عثمان فأجلسه معه، وقال له: اذكر حاجتك فذكر حاجته فقضاها ثم قال له: ما كان لك من حاجة فاذكرها ثم خرج من عنده، فلقى ابن حنيف فقال له: جزاك الله خيراً، ما كان ينظر لحاجتي حتى كلمته لي، فقال ابن حنيف: والله ما كلمته ولكن شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره... إلى آخر الحديث.
ونقول لهم: في سند هذا الحديث -أبو جعفر- فإن كان هو عيسى بن أبي عيسى ماهان أبو جعفر الرازي التميمي –كما ظنه الحافظ ابن حجر في التقريب، فالأكثرون على ضعفه، قال عنه أحمد النسائي: ليس بالقوي وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن المديني: ثقة كان يخلط، وقال مرة: يكتب حديثه إلا أنه يخطئ وقال الفلاس: سيئ الحفظ، وقال ابن حبان ينفرد بالمناكير، وقال أبو زرعة: كثيراً... وإن كان - أبا جعفر المدني- كما في سنن ابن ماجه- فهو مجهول، لأن الذهبي قال في الميزان في ترجمته: روى عنه يحيى بن أبي كثير وحده. والراوي عنه في الحديث المتنازع فيه هو شعبة لا يحيى بن أبي كثير[35] ولو تغاضينا عما قيل في سند الحديث، فليس هناك ما منع من التوسل بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو حي، بل هو منة من الله ونعمة، وسعيد من حظي بدعاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشرف بصحبته. أما أن يدعي الخصم استعمال الصحابة والتابعين لهذا الدعاء بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القصة التي رواها الطبراني والبيهقي عن الرجل الذي كان يختلف إلى عثمان ويهمل شأنه، وما التفت إليه إلا بعد أن دعا بهذا الدعاء، فإننا ننكر ذلك، لأن القصة غير موثوقة السند، ففي سندها –روح بن صلاح قال عنه الذهبي في الميزان: روح بن صلاح يقال له ابن سبابة، ضعفه ابن عدي، والقصة تنافي ما عرف عن الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان من السلف الصالح، وما اشتهر من مسلكهم في التوسل إلى الله.
يحتجون بما روي عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: لما ماتت فاطمة بنت أسد بن هاشم أم علي بن أبي طالب، وكانت ربت النبي - صلى الله عليه وسلم - فدخل عليها وجلس عند رأسها وقال: «رحمك الله يا أمي» كنت أمي بعد أمي، تجوعين وتشبعيني، وتعرين وتكسيني، وتمنعين نفسك طيباً وتعطيني، تريدين بذلك وجه الله والدار الآخرة" ثم أمر أن تغسل ثلاثاً، فلما بلغ الماء الذي فيه الكافور، سكبه رسول الله بيده، ثم خلع قميصه فألبسها إياه وكفنها ببرد فوقه، ثم دعا رسول الله أسلمة بن زيد، وأبا أيوب الأنصاري، وعمر بن الخطاب، وغلاماً أسود، يحفرون، فحفروا قبرها، فلما بلغوا اللحد حفره رسول الله بيده، وأخرج ترابة بيده، فلما فرغ دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاضطجع فيه، فقال: «الله الذي يحي ويميت وهو حي لا يموت، اغفر لأمي فاطمة بنت أسد ولقنها حجتها، ووسع عليها مدخلها بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي فإنك أرحم الراحمين».
ونقول لهم: جاء الحديث في -مجمع الزوائد- باب مناقب فاطمة بنت أسد أم علي بن أبي طالب، قال الهيثمي: رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وفيه روح بن صلاح -و ثقه ابن حبان والحاكم- وفيه ضعف، وبقية رجاله رجال الصحيح وذكر الهيثمي في نفس الباب الحديث برواية أخرى عن ابن عباس وقال عنه: رواه الطبراني في الأوسط وفيه –سعدان بن الوليد- ولم أعرفه- وبقية رجاله ثقات.
ومع وهن سند الحديث، فإن غاية ما يتعلقون به فيه قوله، بحق نبيك والأنبياء الذين من قبلي، مع أن هذا الحق صفة من صفات الله سبحانه وتعالى، وهو نصرته لأنبيائه وإعلاؤه لشأنهم على عدوهم قال تعالى: ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾[36]، والتوسل إلى الله بأسمائه وصفاته مشروع مرغوب.
وإن كان العلماء على منع سؤال الله بحق أحد، فعند الحنابلة في أصح القولين أنه مكروه كراهة تحريم، ونقل القدوري وغيره من الحنفية عن أبي يوسف أنه قال: قال أبو حنيفة: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله به، وذكر العلائي في شريح التنوير عن التتارخانية عن أبي حنيفة أنه قال: لا ينبغي لأحد أن يدعو الله سبحانه به، وفي جميع متونهم أن قول الداعي المتوسل: بحق الأنبياء والأولياء وبحق البيت والمعشر الحرام مكروه كراهة تحريم وهي كالحرام في العقوبة بالنار عند محمد، وعللوا ذلك كلهم بقولهم: لأنه لا حق للمخلوق على الخالق[37].
جاء في الصحيح عن معاذ بن جبل قال: كنت ردف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا معاذ قلت: لبيك وسعديك يا رسول الله ثلاث مرات. قال: «أتدري ما حق الله على العباد، وحق العباد على الله»؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: «حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذبهم إذا فعلوا ذلك، بل يثيبهم ويدخلهم الجنة».
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ووفقنا إلى توحيدك مخلصين لك الدين، واجعل وسيلتنا إليك صدق إيماننا - وكمال يقيننا، واتباع نبينا...
ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشداً.
[1] هذا بحث منقول عن حولية كلية الدعوة التي تصدرها كلية الدعوة الإسلامية بجامعة الأزهر الشريف - العدد الخامس 1409هـ/1989م.
[2] المائدة: 35.
[3] الإسراء: 57.
[4] الإسراء: 56.
[5] المفردات في غريب القرآن: الراغب الأصفهاني، ص523.
[6] تفسير الكشاف: جار الله محمود بن عمر الزمخشري، ج1، ص610.
[7] تفسير النسفي: عبدالله بن أحمد محمود النسفي، ج1، ص282.
[8] تفسير القرطبي: محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، ص2156.
[9] إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم (تفسير أبو السعود)، ج1، ص371.
[10] الدر المنثور في التفسير بالمأثور: جلال الدين بن عبدالرحمن بن أبي بكر السيوطي، ج2، ص280.
[11] تفسير البيضاوي، ج2، ص148.
[12] تفسير القرآن العظيم: الحافظ ابن كثير، المجلد الثالث، ص96.
[13] مفاتيح الغيب (التفسير الكبير): فخر الدين محمد الرازي، ج3، ص396.
[14] تفسير المنار: رشيد رضا، ج6، ص369.
[15] النهاية في غريب الحديث والأثر: ابن الأثير، ج5، ص185.
[16] رسالة تطهير الاعتقاد: محمد بن إسماعيل الأمير الصنعاني، ص14.
[17] الأعراف: 180.
[18] المؤمنون: 118.
[19] الأنبياء: 83 -84.
[20] آل عمران: 193.
[21] الصافات: 143- 144.
[22] الفاتحة: 5.
[23] النساء: 64.
[24] التوبة: 102.
[25] الحديث ضعيف وانظر ضعيف الجامع، 6278.
[26] البقرة: 89.
[27] السيرة النبوية، ابن كثير، ج2، ص176.
[28] آل عمران: 169.
[29] البقرة: 54.
[30] آل عمران: 185.
[31] الرحمن: 26.
[32] آل عمران: 144.
[33] البقرة: 37.
[34] الأعراف: 23.
[35] صيانة الإنسان: محمد بشير السهسواني الهندي، ص131 باختصار.
[36] الروم: 47.
[37] صيانة الإنسان: محمد بشير السهسواني الهندي، ص207.