عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-09-2020, 02:59 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,628
الدولة : Egypt
افتراضي رد: حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين

حكم استعمال الدواء المشتمل على شيء من نجس العين

أ. د. وهبة الزحيلي




حكم الاستحالة شرعاً في المذاهب الثمانية:

تغيّر حقيقة الشيء أو ذاته مع تغيّر صفاته وخصائصه هو الاستحالة كما تبين سابقاً، والموضوع يتناول ما هو متفق عليه بالنصوص الشرعية، أو مختلف فيه، لكن بعضه راجح الدليل، وبعضه الآخر ضعيف الدليل، مع الاتفاق على نجاسة الخمر والخنزير والميتة وغيرها من المضار والمؤذيات، والمنصوص عليه يتناول مسألتين:



المسألة الأولى – تحول الخمر إلى خل بطريق ذاتي دون مخلِّل.
المسألة الثانية – تحول الخمر إلى خل بالعلاج أو بمخلِّل خارجي.
وغير المنصوص عليه مختلف فيه.




أما المسألة الأولى وهي تحول الخمر إلى خل بطريق ذاتي دون مخلل:

فإن الفقهاء اتفقوا(21) على أن الخمر إا تخللت بنفسها دون مخلل خارجي ولو بالنقل من الظل إلى الشمس أو على العكس، فإنها تطهر ويحل أكلها واستعمالها، للنصوص الشرعية في السنة النبوية المقررة ذلك، ومنها:
- ما روي عن عائشة وجابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نعم الأُدْم الخل" أو "نعم الإدام الخل"(22)، وهذا صحيح بالاتفاق.
- وحديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير خلِّكم خل خمركم"(23) وهو ليس بالقوي، كما قال البيهقي في المعرفة.
لكن قيد الحنابلة حالة النقل من مكان إلى آخر بما لم يكن هناك قصد التخليل، فإن قصد تخليلها بنقلها لم تطهر؛ لأنه يحرم تخليلها، فلا تترتب عليه الطهارة.




وأما المسألة الثانية وهي تحول الخمر إلى خل بمخلل خارجي:

وهي أن يتم التخليل بشيء من البصل أو الخبز الحار أو الخميرة أو نحو ذلك، ففيها اتجاهان للفقهاء:
1- اتجاه الحنفية والمالكية والشيعة الإمامية والظاهرة(24) وغيرهم: أنها تطهر بالتخليل ويجوز استعمالها، للحديث السابق: "خير خلكم خل خمركم" دل على أن خير الخل هو خل الخمر مطلقاً، بواسطة أم بغير واسطة، ويؤكده عمل بعض الصحابة كعلي وابن عمر رضي الله عنهما حيث كانا يأكلان خل الخمر، وقياساً على طهارة الجلد بالدباغ عند من يجيزه، ولزوال النجاسة والشدة المسكرة منها دون ترك أي أثر.




2- اتجاه الشافعية والحنابلة والزيدية(25): أن الخمر لا تطهر بالتخليل، لكن إذا تخللت بنفسها طهرت، مستدلين بما روي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الخمر تتخذ خلاً؟ فقال: لا(26)، ولأن ما ألقي فيها ينجس، ولا يطهر بعده أبداً لا بغسل ولا بغيره(27)، وعن أنس "أن أبا طلحة سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمراً، قال أهرقها، قال: أفلا نجعلها خلاً؟ قال لا(28)، والصحابة أراقوا الخمر حين نزلت آية التحريم، كما ورد في الصحيح، فلو جاز التخليل لنبه عليه النبي صلى الله عليه وسلم كما نبّه في الشاة الميتة على دباغها(29).



وقال عمر رضي الله عنه على المنبر: لا يحل خل خمر أفسدت حتى يكون الله هو الذي تولى إفسادها(30).
وهناك أحاديث ثلاثة أخرى في معناها عن أنس (عند أحمد ومسلم وأبي داود والترمذي وصححه) وعن أبي سعيد الخدري عند أحمد، وعن أنس أيضاً عند أحمد والدارقطني، قال الشوكاني بعد إيراد الأحاديث الأربعة (ثلاثة عن أنس، والرابع عن الخدري): فيه دليل للجمهور على أنه لا يجوز تخليل الخمر، ولا تطهر بالتخليل أي إذا خلَّلها بوضع شيء فيها(31).




آراء العلماء في حكم الاستحالة في غير المنصوص عليه: كصيرورة دم الغزال مسكاً، والميتة ملحاً، والكلب إذا وقع في ملاحة، والروث إذا صار بالإحراق رماداً، والزيت المتنجس بجعله صابوناً، وطين البالوعة إذا جفّ وذهب أثره، والنجاسة إذا دفنت في الأرض وذهب أثرها:

اختلف الفقهاء على اتجاهين في حكم الاستحالة في غير المنصوص عليه شرعاً بين موسع ومضيق:
1 – الاتجاه الأول – للجمهور (الحنفية والمالكية والشيعة الإمامية والظاهرية، والزيدية في الظاهر، وابن تيمية وابن القيم، والشوكاني وصديق خان(32): الاستحالة مطهرة.




2 – الاتجاه الثاني – للشافعية والحنابلة: الاستحالة لا تطهر النجاسات. وعند الإباضية قولان: أحدهما – أن النجس إذا صار جمراً أو رماداً فإنه يطهر بالاحتراق. والثاني – أنه لا يصير طاهراً به، فهو ذات واحدة تغير لونها، أما ما تنجس (أي أصابته نجاسة من غيره) فإنه يطهر بالاحتراق، فيكون جمره ورماده ولهبه طاهراً؛ لأن ما تنجس بغيره تزول نجاسته بمزيل كالنار، أي إنهم كأصحاب الاتجاه الأول في المتنجس دون النجس، والراجح عندهم أن غبار النجس لا يطهر بالإحراق، لأن غبرة الشيء جزء لطيف منه، أما دخانه فقد قالوا بطهارته؛ لأنه لا توجد فيه ذات النجس ولا طعمه، ولا لونه، ولا رائحة يحكم عليه بالنجاسة بها، أما المتنجس بغيره فلا خلاف عندهم في طهارة غباره ورماده وجمره ودخانه.



الأدلة:

استدل أصحاب الاتجاه الأول بما يأتي:
1 – الحكم بالنص الشرعي بطهارة الخمر إذا انقلبت خلاً، وحل تناولها.
2 – الحكم بالنص أيضاً بطهارة جلود الميتة إذا دبغت، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دّبغ فقد طهر"(33).
3 – الأصل في الأعيان الطهارة والإباحة، سواء في أصل نشأتها، أم بعد انقلابها من النجاسة إلى الطهارة، لقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ} [البقرة:29].




قال ابن تيمية(34): الصواب أنه متى علم أن النجاسة قد استحالت فالماء طاهر، سواء كان قليلاً أو كثيراً، وكذلك في المائعات كلها، وذلك لأن الله تعالى أباح الطيبات وحرم الخبائث، والخبيث متميز عن الطيب بصفاته، فإذا كانت صفات الماء وغيره صفات الطيب دون الخبيث، وجب دخوله في الحلال دون الحرام.



ثم قال: ومما يبين القول بطهورية الماء إذا استحالت النجاسة: أنه لو وقع خمر في ماء واستحالت، ثم شربها شارب، لم يكن شارباً للخمر، ولم يجب عليه حد الخمر، إذ لم يبق شيء من طعمها ولونها وريحها، ولو صبّ لبن امرأة في ماء واستحال، حتى لم يبق له أثر، وشرب طفل ذلك الماء، لم يصر ابنها في الرضاعة بذلك.



وجاء في الفتاوى الهندية(35): إذا حرِّق رأس الشاة ملطخاً بالدم يحكم بطهارته، والطين النجس إذا جعل منه الكوز والقِدْر، فطبخ يكون طاهراً، وكذا اللبن إذا لبِّن بالماء النجس وأحرق، والدباغ يطهر الجلود النجسة؛ لأن الدباغ تطهير للجلود كلها إلا جلد الإنسان والخنزير.



وقال الدردير في الشرح الكبير(36): من الطاهر لبن الآدمي ولو كافراً، لاستحالته إلا صلاح.



وقال ابن حزم الظاهري(37): إذا استحالت صفات عين النجس أو الحرام، فبطل عنه الاسم الذي به ورد ذلك الحكم فيه، وانتقل إلى اسم آخر، وارد على حلال طاهر، فليس هو ذلك النجس ولا الحرام، بل قد صار شيئاً آخر ذا حكم آخر.



وقال صاحب دليل العروة الوثقى الشيخ حسن الحلي(38): الاستحالة وهي تبدل حقيقة الشيء وصورته النوعية إلى صورة أخرى، فإنها تطهر النجس بل المتنجس كالعذرة تصير تراباً، والخشبة المتنجسة إذا صارت رماداً والبول أو الماء المتنجس بخاراً، والكلب ملحاً وهكذا كالنطفة تصير حيواناً، والطعام النجس جزءاً من الحيوان، وأما تبدل الأوصاف وتفرق الأجزاء فلا اعتبار بهما كالحنطة إذا صارت طحيناً أو عجيناً أو خبزاً، والحليب إذا صار جبناً.



وذكر ابن القيم(39) أن طهارة الخمر بالاستحالة على وَفْق القياس، فإنها نجسة لوصف الخبث، فإذا زال الموجِب زال الموجَب، وهذا أصل الشريعة في مصادرها ومواردها، بل وأصل الثواب والعقاب، وعلى هذا فالقياس الصحيح تعدية ذلك إلى سائر النجاسات، وقد نبش النبي صلى الله عليه وسلم قبور المشركين من موضع مسجده، ولم ينقل التراب، وقد أخبر الله سبحانه عن اللبن أنه يخرج من بين فَرْث ودم، وقد أجمع المسلمون على أن الدابة إذا عُلِفت بالنجاسة ثم حبست وعلقت بالطاهرات حل لبنها ولحمها، وكذلك الزرع والثمار إذا سقيت بالماء النجس، ثم سقيت بالطاهر، حلت، لاستحالة وصف الخبث وتدبله بالطيب.



وعكس هذا أن الطيب إذا استحال خبيثاً صار نجساً كالماء والطعام إذا استحال بَوْلاً وعذرة، فكيف أثّرت الاستحالة في انقلاب الطيب خبيثاً، ولم تؤثر في انقلاب الخبيث طيباً؟! والله تعالى يخرج الطيب من الخبيث، والخبيث من الطيب، ولا عبرة بالأصل، بل بوصف الشيء في نفسه، ومن الممتنع بقاء حكم الخبث وقد زال اسمه ووصفه، والحكم تابع للاسم، والوصف دائر معه وجوداً وعدماً، فالنصوص المتناولة لتحريم الميتة والدم ولحم الخنزير والخمر، لا تتناول الزروع والثمار والرماد والملح والتراب والخل لا لفظاً ولا معنى ولا نصاً ولا قياساً.



وقال صديق حسن خان(40): والاستحالة مطهرة، أي إذا استحال الشيء إلى شيء آخر، حتى كان ذلك الشيء الآخر مخالفاً للشيء الأول لوناً وطعماً وريحاً، كاستحالة العذرة رماداً.



وقال الزيدية(41): الخمر نجسة لعموم تحريمها، فإذا تخللت بنفسها، طهرت، لعدم العلاج، وقيل: لا تطهر بذلك كعلاجها، والدِّنْ والمغرفة يطهران بالاستحالة.



واستدل أصحاب الاتجاه الثاني(42): بأن نجاسة غير الخمر مثل الخنزير والكلب لعيها أو ذاتها، أي ملازمة لها، فلا تطهر بالاستحالة، كالكلب إذا وقع في ملاحة، فصار ملحاً، أو احترق فصار رماداً، أما الخمر إذا انقلبت خلاً بنفسها فتطهر؛ لأن نجاستها إنما كانت لشدتها المسكرة الحادثة لها، فوجب أن تطهر كالماء الكثير الذي تنجس بالتغير إذا زال تغيره بنفسه.



وأما المتنجس بغيره: فإن كانت النجاسة حكيمة: وهي ما تُيقِن وجودها ولا يدرك لها طعم ولا لون ولا ريح، فيطهر الشيء بإجراء الماء عليه.



وإن كانت النجاسة عينية: وهي ما لها عين ملموس، فيجب بعد زوال عينها إزالة الطعم، وإن عسر؛ لأن بقاءه يدل على بقاء العين، ووجب محاولة إزالة العين ولا يضر بقاء لون كلون الدم أو ريح كرائحة الخمر، عسر زواله، فيطهر دفعاً للمشقة، بخلاف ما إذا سهل فيضر بقاؤه لدلالة ذلك على بقاء العين.



والخلاصة: إن دليل هؤلاء يتلخص في بقاء عين النجاسة، فلا يطهر الشيء بالاستحالة، ولا سيما الخنزير لأنه نجس العين.



قال الشافعية: لا يطهر شيء من النجاسات بالاستحالة إلا ثلاثة أشياء: الخمر مع إنائها إذا صارت خلاً بنفسها، والجلد (غير جلد الكب والخنزير) المتنجس بالموت يطهر ظاهره وباطنه بالدبغ، وما صار حيواناً كالميتة إذا صارت دوداً لحدوث الحياة(43).



وقال الحنابلة: ولا تطهر نجاسة باستحالة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم "نهى عن أكل الجلّالة وألبانها"(44) لأكلها النجاسة، ولو طهرت بالاستحالة لم ينه عنه، وتطهر الخمرة بالاستحالة بأن تنقلب خلاً بنفسها، لأن نجاستها لشدتها المسكرة الحادثة لها، وقد زال ذلك من غير نجاسة خلفتها، فوجب أن تطهر، كالماء الذي تنجس بالتغير إذا زال تغيره بنفسه، ولا يلزم عليه سائر النجاسات، لكونها لا تطهر بالاستحالة؛ لأنها نجاستها لعينها، والخمرة نجاستها لأمر زال بالانقلاب(45).



يتبين مما تقدم أن أدلة القائلين بالاستحالة أقوى وأحكم من أدلة القائلين بالمنع، لوجود التغير ولم يبق وجود للنجاسة، وكل مادة نجسة إذا تغير تركيبها الكيميائي، فقد صارت عيناً أخرى، بالاسم والصفات، فيتغير الحكم من النجاسة إلى الطهارة وإباحة التناول.

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.31 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.69 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.22%)]