أيها المسلمون: اليتيم يأتي إلى الدار بالخيرات، وتتنـزل بحلوله البركات، ويلين به القلب من الزلات، سأل رجل الإمام أحمد -رحمه الله-: كيف يرق قلبي، قال: "ادخل المقبرة وامسح رأس اليتيم". وأطيب المال ما أعطي منه اليتيم، قال -عليه الصلاة والسلام-: "إن هذا المال خضرة حلوة، فنعم صاحب المال المسلم ما أُعطي منه المسكين واليتيم وابن السبيل". متفق عليه.
ونختم هذا ببعض الأمثلة التطبييقية من النبي صلى الله عليه وسلم: وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- قدوة في كفالة الأيتام، فاتخذ -عليه الصلاة والسلام- أكثر من عشرة أيتام يحوطهم برعايته وعنايته.
فمن ذلك ما فعل بأولاد أبي سلمة عبدالله بن عبد الأسد بن هلال المخزومي - رضي الله عنه - الذي مات سنة 4هـ عن أولاد صغار، وعن زوجته الكريمة أم سلمة- هند بنت أبي أمية بن المغيرة المخزومية - فيتم الأطفال، وتأيمت المرأة، فقام النبي صلى الله عليه وسلم بكفالتهم جميعاً كما يكفل أبناءه.
و لما علم بانقضاء عدة أم سلمة - رضي الله عنها - أرسل إليها يخطبها ليكفلها وأولادها، وقال لها لما أرادت أن تعتذر إليه بغيرتها وكثرة صبيانها: "أما قولك: غيرى، فسأدعو الله فتذهب غيرتك، وأما قولك: فإني امرأة مصبية فستكفين صبيانك" (رواه النسائي) فرضيت وتزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وعال أيتامها.
ولما أفاء الله تعالى عليه كان يلي أمر كل مسلم يموت وله عيال، ويقول: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم، فمن توفي من المؤمنين فترك دينًا أو كلاً أو ضياعًا فعلي وإلي، ومن ترك مالاً فلورثته" (رواه البخاري ومسلم).
فهكذا كان النبي -صلي الله عليه وسلم- يعني بالأيتام بنفسه الشريفة، ليكون أسوة للأمة في العناية بهم وجبر كسرهم وسد عوزهم، فإنها مأمورة بالتأسي به صلي الله عليه وسلم، وفعله شرع لها، وهي مسؤولة عنه إن هي فرطت في أتباعه فيه، لا سيما من يلي أمر الأمة من خلفائه بعده، فإن عليهم أن يفعلوا ما كان النبي صلي الله عليه وسلم يفعله من الكفالة والإعالة للأيتام؛ لأنهم نوابه في رعاياهم من بعده، وذلك من مقتضيات ولاياتهم وواجبات خلافتهم، التي ائتمنهم الله تعالي عليها.
• ولنا في الصحابة أسوة فقد كان ابن عمر - رضي الله عنهما - لا يجلس على طعام إلا على مائدته أيتام.
ولما جيء لعمر بن عبدالعزيز بغلام شج ابنه وكان هذا الغلام يتيماً فلما سمع عمر الجلبة خرج فإذا أمه تقول إنه يتيم فقال لها عمر هوني عليك ثم قال عمر: أله عطاء في الديوان؟ قالت: لا، قال عمر: فاكتبوه في الذرية، فقالت امرأته فاطمة: أتفعل هذا وقد شج ابنك وفعل وفعل ولعله في المرة الثانية يشجه فقال لها: ويحك إنه يتيم وقد أفزعتموه، ذكره ابن كثير في البداية والنهاية.
ولو ذهبنا نعدد سير الصالحين في هذا وتطبيقهم لنصوص الوحيين في الحثّ على رعاية اليتيم لطال بنا المقام وقد قال زيد بن أرقم رضي الله عنه: كنت يتيماً في حجر عبدالله بن رواحة فلم أر والي يتيم خيراً منه وذكر من شأنه ما ذكر.
وكان أبو الشعثاء يقول لأن أتصدق على يتيم بدرهم أحب إليَّ من حج بعد حجة الإسلام، ذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام.
وكان بعض الصالحين يشتري الفاكهة زمن الفاكهة ويذهب بها إلى الكتاتيب يطعم الأيتام منها.
وكان عبدالله بن عكيم يتوسل إلى الله بأنه لم يأكل مال يتيم كما ذكره الخطيب في تاريخه، فانظر كيف جعل ذلك من الأعمال الصالحة العظيمة.
فوائد كفالة الأيتام:
اعلم أخي المسلم أن من نعمة الله عليك أن يوفقك إلى كفالة يتيم أو من كان في حكمه، وقد رتب الشرع جملة من الفوائد التي تتحقق لك وللمجتمع عند قيامك أو أحد أفراد المسلمين بكفالتهم ورعايتهم ومن هذه الفوائد:
(1) كفالة اليتيم من قبل المسلم تؤدي إلى مصاحبة الرسول (في الجنة وكفى بذلك شرفاً وفخراً.
(2) كفالة اليتيم والإنفاق عليه وتربيته والعناية به تدل على طبع سليم وفطرة نقية وقلب رحوم.
(3) كفالة اليتيم والمسح على رأسه وتطييب خاطره تؤدي إلى ترقيق القلب وتزيل القسوة عنه.
(4) كفالة اليتيم تعود على صاحبها بالخير الجزيل والفضل العظيم في الحياة الدنيا فضلاً عن الآخرة قال تعالى: ﴿ هَل جَزَاءُ الإِحسَانِ إِلاَّ الإِحسَانَ ﴾ [الرحمن: 60]، أي هل جزاء من أحسن في عبادة الخالق، ونفع عبيده، إلا أن يحسن خالقه إليه بالثواب الجزيل، والفوز الكبير والعيش السليم في الدنيا والآخرة.
(5) كفالة اليتيم تساهم في بناء مجتمع سليمٍ خالٍ من الحقد والكراهية وتسود فيه روح المحبة والمودة قال: (ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى) (رواه البخاري).
(6) في إكرام اليتيم والقيام بأمره ورعايته والعناية به وكفالته إكرام لمن شارك الرسول (في صفة اليتم، وفي هذا دليل على محبته).
(7) كفالة اليتيم تزكي مال المسلم وتطهره وتجعل هذا المال نعم الصاحب للمسلم.
(8) كفالة اليتيم من الأخلاق الحميدة التي أقرها الإسلام وأمتدح أهلها.
(9) في كفالة اليتيم بركة عظيمة تحل على الكافل، وتزيد في رزقه (1).
(10) كفالة اليتيم تجعل البيت الذي فيه اليتيم من خير البيوت كما قال: (خير بيتٍ في المسلمين بيتٌ فيه يتيم يُحسَن إليه...).
(11) في كفالة اليتيم حفظ لذريتك من بعدك وقيام الآخرين بالإحسان إلى أيتامك قال تعالى: ﴿ وليَخشَ الّذيِنَ لَو تَركُوا مِن خَلفِهِم ذُرّيّةً ضِعَافاً خَافُوا عَلَيهِم فَليَتّقُوا اللَّه وليَقُولُوا قَولاً سَدِيداً ﴾ [النساء:9]، فكافل اليتيم اليوم إنما يعمل لنفسه لو ترك ذرية ضعافاً، فكما تُحسن إلى اليتيم اليوم يُحسن إلى أيتامك في الغد، وكما تدين تدان.
وبكل حال أخي الحبيب لا يمكن أن تستشعر هذه الفوائد الدنيوية المترتبة على كفالة اليتيم، وجعله يعيش في كنف أسرتك إلا بعد التطبيق العملي لهذا المشروع الخيّر وقيامك بكفالة أحد الأيتام، وستجد الخير كل الخير في الدنيا وفي الآخرة بإذن الله.
خطوات على طريق الرعاية:
لا بد وأن يتخذ المجتمع والجمعيات الخيرية والمنظمات التطوعية خطوات هادفة على أرض الواقع من أجل شمول اليتيم بالرعاية والعطف؛ حتى لا نبقى ندور في دائرة الكلام فقط، و منها:
• إعادة بث الثقة والطمأنينة داخل قلب اليتيم: إذ إنه يعاني من فقدان التوازن الداخلي نتيجة شعوره بأنه قد أصبح بلا سند في الحياة، ولا يستوعب عقله الصغير ولا تفكيره الطفولي أن يستيقظ من نومه فلا يجد أباه أو أمه، أو لا يجدهما معا.. وقد كانا يمثلان له النافذة التي يطل بها على عالمه الخارجي، والجدار الذي يحتمي خلفه إذا ما واجهته المصاعب والشرور. لذا؛ فإن شعورا غامضا يجتاحه بأنه أصبح مكشوفاً أمام الأخطار والمصاعب، ومن هنا فإنه يحتاج إلى من يعيد إليه توازنه الداخلي بإشعاره بأنه ليس وحيداً، لذا فإني أقترح هنا أن تدشن حملة "لست بمفردك فنحن معك"، من أجل إعادة تأهيل اليتيم للاندماج في المجتمع، من خلال التأكيد له أن هذا المجتمع هو الأب البديل أو الأم البديلة فلا يخشى من شيء، ولا يهاب من المجهول.
• الحفاظ على مال اليتيم حفاظا يصل إلى حد القداسة حتى يصل إلى السن الذي يمكنه من الاستقلال بشأنه المالي: وقد شدد القرآن الكريم على عدم الاقتراب من مال اليتيم بالباطل، فقال سبحانه: "إن الذين يأكلون أموال اليتامى إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا". وروى أبو سعيد الخدري قال: حدثنا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ليلة أسري به، قال: "رأيت قوما لهم مشافر كمشافر الإبل، وقد وكل بهم من يأخذ بمشافرهم، ثم يجعل في أفواههم صخرا من نار يخرج من أسافلهم. فقلت يا جبريل: من هؤلاء؟ قال: هم الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما". فهذا الوعيد الشديد لمن يأخذ من مال اليتيم بدون وجه حق إنما يعكس نظرة الإسلام في حرصه على هذا الضعيف، وعدم تركه لأصحاب الأهواء والأطماع يفعلون في ماله ما يشاؤون.
• الاهتمام بتربيته تربية متوازنة دون إفراط أو تفريط: أي دون قسوة تذهب الفرحة من قلبه، وتزيد الأحزان فوق أحزانه، وتجعله ناقما على كل من حوله، بل قد تتوطن في داخله الأمراض النفسية العصية التي تحيله إلى كتلة من الكراهية.. وفي المقابل ـ أيضا ـ لا ينبغي الإفراط في تدليله إفراطا يذهب الحزم المطلوب، ويخرج لنا شخصية غير سوية أيضا، فالوسطية هي السبيل والطريق من أجل إخراج شخصية صالحة ومصلحة في آن واحد.
• اهتمام الجمعيات الخيرية بتوفير الأجواء الاجتماعية التي تعوضه عن غياب أحد الوالدين أو كليهما: من خلال تدريب المزيد من المتطوعين الذين يجيدون التعامل مع "اليتيم" من حيث التربية، والتنشئة، والتعليم، والتثقيف.
• ضرورة كفالتهم كفالة مالية تضمن لهم حفظ كرامتهم الإنسانية من سؤال الناس أو مد يد الحاجة إلى الآخرين: وهذا دور بالغ الأهمية يجب أن توليه الجمعيات الخيرية، بل والدولة نفسها، اهتماما بالغاً عن طريق التوسع في حجم الإعفاءات المادية التي تصيبهم في جانب التعليم والصحة وما شابه ذلك، والعمل على توفير المعاش الشهري المناسب لهم.
إن اليتيم الذي فقد أحد والديه أو كليهما يجب أن يشعر أنه ليس بمفرده، بل إن الجميع معه، يؤازرونه، ويمدونه بما يحتاج ويريد؛ فهذا حقه بالتأكيد، وليس منة أو فضلاً منا.
أيها المسلمون: من خيار بيوت المسلمين بيت فيه يتيم يُحسَن إليه، إن خفض الجناح لليتامى والبائسين دليل الشهامة، وكمال المروءة، صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وتحفظ من المحن والبلايا. لى كل من ابتلاه الله باليتم، إلى أجنحة الرَّحمة ونسمات الإيمان المباركة في المجتمع، وإلى من هم أسباب مضمونة للسَّعادة في العاجل والآجل:
• في عقولكم كفاية الفكر، وفي راحتيكم فيض النَّدى وأنتم - بلا شك - لستم أقلَّ من غيركم فيما وهبتم به من ربِّكم ومولاكم، فارتادوا فضاء المجد من أوسع أبوابه؛ لأنَّكم أهله، ولا يعجزنكم شيء؛ فما ينقصكم شيء، إذا كان الله معكم. والله يرعاكم ويحفظكم بعينه التي لا تنام.
والله من وراء القصد