وقد كانت العرب تُمتدح بقلة الأكل، وذلك معروف في أشعارها، فكيف بأهل الإيمان؟
وأما من عَظُمَت الدنيا في عينه من كافر وسفيه، فإنما همته في شبع بطنه، ولذة فرجه.
وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن المؤمن حقَّ المؤمن شأنه، يأكل في معي واحد، وهذا مجاز دال على المدح في القليل من الأكل، والقناعة فيه، والاكتفاء به.
وقال النووي:
يحتمل أن يريد بالسبعة في الكافر، صفات هي: الحرص، والشره، وطول الأمل، والطمع، وسوء الطبع، وحب السمن، وبالواحد في المؤمن سدّ خَلته.
وقال القرطبي:
شهوات الطعام سبعٌ؛ شهوة الطبع، وشهوة النفس، وشهوة العين، وشهوة الفم، وشهوة الأذن، وشهوة الأنف، وشهوة الجوع، وهي الضرورية التي يأكل بها المؤمن، وأما الكافر فيأكل بالجميع.
ونقل ابن التين:
أن المعنى؛ أن المؤمن يأكل الحلال، والكافر يأكل الحرام، والحلال أقل من الحرام في الوجود.
وقال محمد بن رشد:
هذا من المجاز على غير حقيقة اللفظ، لأن عدد أمعاء الكافر والمؤمن سواء، وإنما هو مَثـَلٌ ضربه في قلة الأكل من كثرته، على سبيل الاستعارة وهو كثير، من ذلك قوله عز وجل: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4].
واختلف في تأويله؛ فقيل: إنه على ظاهره في مقدار أكل المؤمن من الكافر.
ومعناه:
في الرجل بعينه الذي ضاف النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو كافر، فأمر له النبي - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحلبت فشرب حلابها، ثم بأخرى فشربه، ثم بأخرى فشربه، حتى شرب حلاب سَبْعَ شياهٍ، ثم إنه أصبح فأسلم، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بشاة فحُلِـبَتْ فشرب حلابها، ثم أمر بأخرى فلم يستتمّها. رواه الإمام مالك، ومسلم، فقال ذلك القول، فكان مقصورًا على ذلك الرجل الذي كان سببه، ولم يكن على عمومه في كل مسلم وكافر.
وقيل:
ليس ذلك على ظاهره في مقدار أكل المؤمن من أكل الكافر إذ قد يكون الكافر قليل الأكل، والمؤمن كثير الأكل، وقد كان يطرح لعمر صاعٌ من تمر فيأكله حتى يأكل حشفه، - رواه مالك في الموطأ (3442) - ومن يساويه في جودة الإيمان؟!
وإنما معناه؛ إن الكافر يرغب في الدنيا ويستكثر منها، ولا يؤثر على نفسه، إذ لا يعتقد القربة بذلك، والمؤمن يدخر فيها، ولا يستكثر منها، ويطوي بطنه عن جاره، ويؤثر على نفسه، أي: إن هذا هو فعل المؤمن الممدوح إيمانه، وهذا أولى ما قيل في تأويل الحديث.
وقد قيل: المعنى فيه؛ إن المسلم يسمي الله تعالى على طعامه؛ ليضع له البركة به، والكافر لا توضع في طعامه، أي لا يسمي الله عز وجل، والله أعلم. البيان والتحصيل لأبي الوليد القرطبي (17/ 225- 226).
وفي حديث الكافر الذي شرب حلاب سبعَ شياه، ثم أصبح مسلمًا، فشرب حلاب شاة واحدة، يقول أبو عمر بن عبد البر: هذا الحديث ليس على ظاهره؛ لأن المشاهَدَة تدفعه، والمعاينة تردُّه، والخبر يشهد بأن الكافر يسلم وأكله كما كان، وشربه.
وقد نزَّه الله رسوله عن أن يخبر بخبر، فيؤخذ المخبر عنه خلاف ذلك، هذا كأنه قال: هذا الضيف إذ كان كافرًا أكل في سبعة أمعاء، فلما أسلم بورك له في إسلامه، فأكل في معي واحد، يريد أنه كان أكل عنده قبل أن يسلم، سبعة أمثال ما أكل عنده لما أسلم، إما لبركة التسمية التي أمره الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها، فأشبعه الله عز وجل بحلاب تلك الشياه، وما وضع له فيها من البركة ما يكون له برهانًا وآية، ليرسخ الإيمان في نفسه.
وذلك والله أعلم لما علم الله تعالى من قلة الطعام يومئذٍ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولتكون آية لذلك الرجل، فأراه الله في نفسه آية في إيمانه ليزداد يقينًا، ونحو هذا مما يُعلَم من آياتِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحيانًا في بركة الطعام الذي أكل منه العدد الكثير، فشبعوا، وهو قوتُ واحد أو اثنين، وآياتُه وعلاماتُه في مثل ذلك كثير، وساق بسنده عن عطاء بن يسار، عن جهجاه الغفاري أنه قدم في نفر من قومه يريدون الإسلام، فحضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المغرب، فلما سلّم قال: "ليأخذ كل رجل منكم بيد جليسه"، فلم يبق في المسجد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغيري، وكنت رجلا عظيمًا طوالا، لا يقدُم عليّ أحدٌ، فذهبت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى منزله، فحلب لي عنزًا، فأتيت عليها، ثم حلب لي أخرى، فأتيت عليها حتى حلب لي سبعة أعنُزٍ، ثم أتيت بثومة، فأتيت عليها، فقالت أم أيمن: أجاع الله من أجاع رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "مه يا أم أيمن، أكل رزقه، ورزقنا على الله عز وجل". مصنف ابن أبي شيبة (8/ 134).
وفيه؛ أنه أسلم، ثم ذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته، وتركه أصحابه لطول جسمه وعِظَمِه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحُلِبت له عنز فشربها، فرويَ! قال: فرَويتُ فشبعت، فقالت أم أيمن: يا رسول الله أليس هذا ضيفنا؟ فقال: "بلى"، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه أكل في معي مؤمن الليلة، وأكل في معي كافر، والكافر يأكل في سبعة أمعاء، والمؤمن يأكل في معي واحد"، - يريد ذلك الرجل بعينه - والله أعلم. من الاستذكار لابن عبد البر (26/ 265).
ونقل المباركفوري في تحفة الأحوذي (5/441- 442) عدة نقول في تأويل الحديث سبق ذكر أغلبها، وقال: وقيل: بل هو على ظاهره، ثم اختلفوا في ذلك على أقوال:
الأول: أنه روي في شخص بعينه، واللام عهدية لا جنسية، جزم بذلك ابن عبد البر -وقد سبق-، وقد تعقِّب هذا الحمل بأن ابن عمر راوي الحديث فهم منه العموم، فلذلك منع الذي رآه يأكل كثيرًا من الدخول عليه، واحتج بالحديث، ثم كيف يتأتى حمله على شخص بعينه مع ما تقدم من ترجيح تعدد الواقعة، ويورد الحديث المذكور عقب كل واحدة منها في حق الذي وقع له ذلك.
الثاني: أن الذي خرج مخرج الغالب، وليست حقيقة العدد مرادة، قالوا: تخصيص السبعة للمبالغة في التكثير، كما قال تعالى: ﴿ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ﴾ [لقمان: 27]، والمعنى: أن من شأن المؤمن التقلل من الأكل، لاشتغاله بأسباب العبادة، ولعلمه بأن مقصود الشرع من الأكل ما يسد الجوع، ويمسك الرمق، ويعين على العبادة، ولخشيته أيضًا من حساب ما زاد على ذلك، والكافر بخلاف ذلك كله، فإنه لا يقف مع مقصود الشرع، بل هو تابعٌ لشهوة النفس مسترسل منها، غير خائف من تبعات الحرام، فصار أكل المؤمن لما ذكرته إذا نسب إلى أكل الكافر كأنه بقدر السُّـبْع منه، ولا يلزم من هذا طرده في كل مؤمن وكافر، فقد يكون في المؤمنين من يأكل كثيرًا؛ إما بحسب العادة، وإما لعارض يعرض له من مرض باطن أو لغير ذلك، ويكون في الكفار من يأكل قليلا؛ إما لمراعاة الصحة على رأي الأطباء، وإما للرياضة على رأي الرهبان، وإما لعارض كضعف المعدة.
الثالث: أن المراد بالمؤمن في هذا الحديث؛ التام الإيمان، لأن مَنْ حَسُنَ إسلامه، وكَمُلَ إيمانه، اشتغل فكره فيما يصير إليه من الموت وما بعده، فيمنعه شدة الخوف، وكثرة الفكر، والإشفاق على نفسه من استيفاء شهوته، كما ورد في حديث لأبي أمامة رفعه: "من كثر تفكره؛ قل طعمه، ومن قل تفكره؛ كثر طعمه، وقسا قلبه"، - موضوع الضعيفة (90) -.
ويشير إلى ذلك حديث أبي سعيد الصحيح: "إن هذا المال حلوة خضرة، فمن أخذه بإشراف نفس؛ كان كالذي يأكل ولا يشبع". - الذي في البخاري (1472) عن حَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ سَأَلْتُهُ فَأَعْطَانِي، ثُمَّ قَالَ: "يَا حَكِيمُ! إِنَّ هَذَا الْمَالَ خَضِرَةٌ حُلْوَةٌ، فَمَنْ أَخَذَهُ بِسَخَاوَةِ نَفْسٍ بُورِكَ لَهُ فِيهِ، وَمَنْ أَخَذَهُ بِإِشْرَافِ نَفْسٍ لَمْ يُبَارَكْ لَهُ فِيهِ؛ كَالَّذِي يَأْكُلُ وَلَا يَشْبَعُ الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى.."، ومسلم (1035) نحوه -، فدل على أن المراد بالمؤمن؛ من يقصد في مطعمه، وأما الكافر؛ فمن شأنه الشَّرَهُ، فيأكل بالنهم كما تأكل البهيمة، ولا يأكل بالمصلحة لقيام البنية، وقد رد هذا الخطابي، وقال: قد ذُكر عن غير واحد من أفاضل السلف الأكل الكثير، فلم يكن ذلك نقصًا في إيمانهم.
الرابع: أن المراد أن المؤمن يسمي الله تعالى عند طعامه وشرابه، فلا يشركه الشيطان، فيكفيه القليل، والكافر لا يسمي، فيشركه الشيطان، وفي صحيح مسلم (2017) في حديث مرفوع: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَسْتَحِلُّ الطَّعَامَ؛ أنْ لا يُذْكَرَ اسمُ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ ..".
الخامس: قال النووي: المختار أن المراد أن بعض المؤمنين يأكل في معي واحد، وأن أكثر الكفار يأكلون في سبعة أمعاء، ولا يلزم أن يكون كل واحد من السبعة، مثل: مِعي المؤمن. انتهى.
ويدل على تفاوت الأمعاء؛ ما ذكره عياض عن أهل التشريح، أن أمعاء الإنسان سبعة:
المعدة، ثم ثلاثة أمعاء بعدها متصلة بها، وهي: البواب، ثم الصائم، ثم الرقيق، والثلاثة رقاق، ثم الأعور والقولون والمستقيم وكلها غلاظ، فيكون المعنى؛ أن الكافر لكونه يأكل بشره لا يشبعه إلا ملء أمعائه السبعة، والمؤمن يشبعه ملء معي واحد.
قال المباركفوري:
قلت: في أكثر هذه الأقوال بُعدٌ كما لا يخفى، والظاهر عندي هو القول الثاني، والله تعالى أعلم.
وبعد هذا الطواف في أقوال علماء الحديث والفقه نخلص إلى ما يلي:
1- الحث على التقلل من أمور الدنيا، وعدم الإسراف، قال الله تعالى: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا ﴾ [الأعراف: 31].
2- الاقتصاد في المأكل، ففي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما ملأ آدميٌّ وعاءً شرًا من بطنه، بحسب ابن آدم أكلاتٌ يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنَفَسه". أحمد والترمذي والبيهقي والحاكم عن المقدام بن معديكرب، انظر: صحيح الجامع الصغير، حديث: (5674).
3- البعد عن الجشع وشدة الحرص والأنانية، فما يكفي الواحد من الطعام المبارك فيه، يكفي غيره معه، ففي الحديث: "طعام الواحد يكفي الاثنين، وطعام الاثنين يكفي الأربعة، وطعام الأربعة يكفي الثمانية". أحمد ومسلم والترمذي والنسائي عن جابر، انظر: صحيح الجامع الصغير، حديث: (3910).
4- كثرة الأكل ومجاوزة حد الاعتدال فيه، تورث كثيرًا من الأمراض، مثل: عسر الهضم وغيره، وحد الاعتدال فيه، ما قاله ابن قدامه المقدسي في منهاج القاصدين: فالأولى؛ تناول ما لا يمنع من العبادات، ويكون سببًا لبقاء القوة، فلا يحس المتناول بجوع ولا شبع، فحينئذ يصح البدن وتجتمع الهمة، ويصفو الفكر، ومتى زاد في الأكل أورثه كثرة النوم، وبلادة الذهن، وذلك بتكثير البخار في الدماغ حتى يغطي مكان الفكر، وموضع الذكر، ويجلب أمراضًا أُخر. منهاج القاصدين (ص: 175).
5- وقد حـث الشرع الشاب الأعزب الذي لم يجـد مؤونة الزواج على الصوم، فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع، فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء". أحمد والشيخان والأربعة عن ابن مسعود، انظر: صحيح الجامع الصغير، حديث: (7975).
6- لابد للمؤمن من اتباع آداب الطعام عند تناول طعامه من التسمية على أوله، وإن نسي؛ فيسمي في وسطه أو عند تذكره، ويحمد الله في آخره، عن حذيفة قال: كنا إذا حضرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طعامًا لم نضع أيدينا، حتى يبدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيضع يده، وإنا حضرنا معه مرةً طعامًا؛ فجاءت جارية كأنها تدفع، فذهبت لتضع في الطعام فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدها، ثم جاء أعرابيُّ كأنما يُدْفع، فأخذ بيده، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الشيطان ليستحلَّ به فأخذت بيده، والذي نفسي بيده؛ إن يده في يدي مع يدها". رواه مسلم، ففي الحديث؛ أن التسمية تحرّم على الشيطان الطعام، فلا يأكل، وتبقى البركة، وكذلك الاجتماع على الطعام يجلب البركة، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اجتمعوا على طعامكم، واذكروا اسم الله، يبارك لكم فيه". أحمد وأبو داود وابن حبان والحاكم عن وحشي بن حرب، انظر: صحيح الجامع، حديث: (142).
7- من أكبر الأخطاء؛ أن نبادر إلى تصديق خبر أو تكذيبه، دون تحقق أو تثبت.
8- إذا ثبت الخبر عن ثقة؛ لابد من فهمه، بما لا يتناقض مع الأمور المسَلّمات، كما رأيت من علمائنا وشروحهم للحديث السابق.
كل ما ذكرته؛ وذكره أئمتنا وعلماؤنا، يرد التكذيبَ بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وفيه المقنع والكفاية لمن أراد الإنصاف، لا لمجرد الهوى والاعتساف.
وقانا الله وإياكم الردى، وأيدنا سبحانه بالحق والهدى
وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم