
02-09-2020, 02:44 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,372
الدولة :
|
|
هل تأملت القمامة يوما؟
هل تأملت القمامة يوما؟
هيثم النوبي
هل تأمَّلت ذلك الصندوق ذا الرائحة الكريهة، وما به من الفضَلات والصفائح المُعوجَّة، والأكياس والأقمشة المهلهلة المُتَّسخة، والعلب الفارغة والأوراق المقطعة، والأطعمة الفاسدة، وغيرها من بقايا استخدام بني الإنسان؟
يبدو الأمر مقززًا، ولكن تلك الأشياء كانت يومًا ما جديدة، يتهافت عليها المستهلكون، تلك الزجاجات المكسورة والصفائح المعوجة، كانت بالأمس مُمتلئة بالعصائر والمياه الغازية، والأطعمة الجاهزة، وتُعرض بالثلاجات، ويَسيل عليها لُعاب العطشى والجوعى، وتلك الأوراق المقطعة كانت بالأمس على المكاتب، تَنتظر بكبرياء فيض الأقلام، والأقمشة المهلهلة كانت بالأمس معروضة بالأسواق، وكانت زينة للمُتزيِّنين، ورداءً للمتباهين.
لو تأمَّلت ذلك الرُّفات الذي يُزعجك برائحته العَفِنة، لوجَدت أن حاله لا يختلف عن حال الإنسان، فذلك البدن الذي نقضي حياتنا لتنعيمه وتلبية شهواته، سيضمُّه القبر يومًا ما، وستكون رائحته أفجَّ من رائحة صندوق القمامة الذي نتأفَّف منه، ويَهلك البدن كما تَهلك كل الدنيا، ولكننا ننسى ما سنؤول إليه، ونحيا لنُنعِم بدنًا لن يَكبَح شَهواته سوى القبر.
نَسِي الطينُ ساعةً أنه طينٌ
حقيرٌ فصالَ تِيْهًا وعَرْبَدْ 
وكسَا الخَزُّ جسمَه فتَباهى
وحوَى المالُ كِيسَه فتمرَّدْ 
وما الفرق بين الإنسان وغيره إن كان الزوال والهلاك والفناء مصير الجميع؟
الروح هي الفرق، فمن يحيا لتنعيم جسدٍ، فإنما يحيا لهدف بالٍ، أما مَن يُفني حياته للارتقاء بالروح والنفس البشرية، فقد أفلَح؛ ولذلك كانت رسالة كلِّ الأنبياء تَهتم بالارتقاء بالنفس وأخلاق البشر، وتخليصها من ذلِّ السجود لغير المعبود بحقٍّ، ومن يرتقي بالروح، فإنه يَرقى ببدنه، فكل الرسالات السماوية لا تهتم إلا بما هو باقٍ، فالأبدان من التراب وإلى التراب تعود، وإنما تبقى الروح وما ترَكته من أثرٍ؛ ولذلك لَمَّا مدَح الله تعالى نبيَّه الكريم، قال تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4]، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم - عن نفسه: ((إنما بُعِثت لأُتمِّمَ مكارمَ الأخلاق))؛ رواه الترمذي.
ولم يتحدث القرآن عن جمال يوسف - عليه السلام - ولم نجد إسهابًا في وصف وجهه الكريم، ولا بدنه الطاهر، بل كان التركيز في سورة يوسف على النقاط المعنوية والرُّوحية الباقية من حبِّ النبي لربِّه، وحب الأب لابنه، ولحظة أن أنْساه الشيطان ذِكر ربِّه، ولحظة ندمه على ذنبه، ولحظة إلقائه بالبئر، ولحظة نُصرته، فالأبدان لا تَخلُد - جميلة كانت أم قبيحة - إنما تَخلُد الرُّوح الطيِّبة بأثرها الطيِّب؛ يقول الشاعر:
وكنْ في الطريقِ عفيفَ الخُطى
شَريفَ السَّماعِ، كريمَ النَّظرْ 
وكنْ رجلاً إن أتَوا بعدَهُ
يَقولون: مَرَّ وهذا الأَثَرْ 
ولو لاحَظنا، لوجَدنا أنه كلما رقَت الروح وعلَت أخلاقها، رَقِي معها البدن، أما البدن وشهواته، فإنه يسوق الرُّوح إلى الهلاك واتِّباع الهوى.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|