عرض مشاركة واحدة
  #13  
قديم 24-08-2020, 03:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,842
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم



الفتى هو الشاب اليافع، فكان أصحاب الكهف من هذه الفئة العمرية التي بلغت الرجولة توًّا، وامتازوا بصلابة العقيدة ورباطة الجأش. ومن الملاحَظ أن الله تعالى ينوِّه بدَورِ هذه الفئة لا في هذه السورة وحسب حيث تصدى الفتيان للطغيان دون خوف أو وجَلٍ؛ بل في سياق قصة إبراهيم أيضًا عليه السلام؛ حيث قال تعالى: ﴿ قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ ﴾ [الأنبياء: 59، 60]، كما أن موسى عليه السلام اصطحب فَتَاهُ حين ذهب لملاقاة العبد الصالح، والمراد بـ (فَتَاهُ) هو تابعه، ولكن اختيار كلمة الفتى للتابع دالٌّ على أنه كان في مقتبل فتوته ورجولته ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا ﴾ [الكهف: 60]، وكان اختياره له؛ لثقته به، ولقدرته على تحمُّل مشقة الرحلة التي عزم عليها حتى وإن استغرقتْ منه حقبًا.







وفي هذه الآيات ومثيلاتها ما يُبرِزُ دَورَ الشباب في كونهم أحيانًا - على الأقل - رأسَ الرمح في التغيير وإشاعة العقيدة الصحيحة، وقد عرَف رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للمؤمنين به من الشبان دورَهم هذا، فأَولاهم أمانته وثقته، وحفظ لنا التاريخ شيئًا من ذلك؛ كاختياره عليه الصلاة والسلام دارَ الأرقم بن أبي الأرقم في دعوته السرِّية في مكة حين كان الأرقم ابن سبعَ عشْرةَ سنة، وتكليفِه لعلي بن أبي طالب حين كان في أوائل العشرينات من عمره في أن يمكث في فراشه ليلة هجرته، وكتسميته أسامة بن زيد قائدًا لجيشٍ أعَدَّه وفيه كبار الصحابة وهو ابن ثماني عشرة سنة، وغير ذلك.







5- ﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا ﴾ [الكهف: 30، 31].







ورد ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ على العموم من غير تخصيص بزمن أو بفئة من المؤمنين أو من الصحابة؛ ولهذا وصف الله تعالى جزاءهم بـ: ﴿ أُوْلَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾.







ووُصِفتْ الجنات في القرآن الكريم بأنها ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، وهو الأكثر، أو ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾، وترد هاتان الصيغتان في سياق جزاء المؤمنين بشكل عام، وليس في سياق جزاء فئة مخصوصة منهم، وأشار بعض العلماء من المفسرين ومن المعاصرين إلى أن ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ﴾ وصفٌ لجنات ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾، ولأن المؤمنين مذكورون على وجه العموم، فإن فيهم الأنبياء ورسول الله صلى الله عليه وسلم، والأنبياءُ والرسل أعلى مقامًا منالمهاجرين والأنصار الذين وُصفت جناتهم في سورة التوبة بـ: ﴿ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ ﴾ مجردة من (مِن) في قوله تعالى: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100].







ولبيان الفرق بين الصيغتين؛ ذكَر أولئك العلماء أن هذه الجنات المقترن وصفها بـ (مِن) تنبع الأنهار من تحتها، ولا تنبع من موضع آخر، مُوحِينَ بذلك إلى أنها جنات كائنة في وسط الأنهار، وهي من ثم أسمى من الجنات التي لم يقترن وصفها بـ (مِن) في سورة التوبة، والتي تمر بها الأنهار النابعة من موضع آخر، مما يعني أنها ليست كائنة في وسط الأنهار كما كان الشأن مع سابقتها.







ولم أهتدِ في كلامهم إلى كيفية جمع الأنبياء والمؤمنين ومنهم الصحابة في نوع من الجنات، ثم وضْع السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بإحسان بعد ذلك في نوع آخر من الجنان، كما أن حديثهم عن الآية المقصودة في سورة التوبة يوحي باستثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين، ولولا ذلك لما ظَنُّوا أن الجنات المذكورة في سورة التوبة المجردة من (مِن) أقلُّ مقامًا من الجنات التي وردت مشفوعةً بها.







وبدا لي هذا إشكالًا يمكن حله من جانبين؛ أولهما: هو أن قوله تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ لا ينصرف إلى الأنبياء، بل إلى أتباعهم من المؤمنين وإلى الذين تلقوا القرآن الكريم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسياقُ في كل الآيات التي تتحدث عن المؤمنين وجناتهم واضحٌ اتصالُه بهؤلاء إلا فيما ندر؛ كقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ ﴾ [المائدة: 12]، ثم إن القرآن الكريم ميَّزَ من بين هؤلاء المؤمنين مَن هم الأعلى رتبة: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴾ [التوبة: 100]، ووصفَ جناتهم مشفوعةً بـ (مِن) أو مجردةً منها. وأما الأنبياء أنفسهم، فيمكن تخيُّلُ عظيم جنانهم من خلال وصف جنات الأتباع، فإذا كان الأتباع في ذلك النعيم العظيم، ففي أي مقام سيكون الأنبياء الذين هم أعلى وأرفع؟ وفي أي مقام سيكون رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو سيد أُولي العزم من الرسل؟







وثاني الجانبين: هو قوله تعالى على لسان فرعون: ﴿ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الزخرف: 51]، ولا شك في أن ليس المراد به جريان الأنهار من تحت فرعون مباشرة. ويُفهم من ﴿ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ أمران: أولهما: هو القدرة على التصرُّف الحر في ما في مصر من حجرٍ ونهر، وبهذه القدرة على التصرف يستقيم عطف ﴿ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ﴾ على ﴿ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ ﴾، وثانيهما: هو تباهي فرعون بأُبَّهتِه، ومن مظاهر تلك الأبهة التي أراد تذكير أتباعه بها أن قصره مشرفٌ على النهر أو أنه على شاطئ النهر، وليس في الآية ما يعني أن قصره في داخل النهر. وعلى النحو نفسه يُفهَم - فيما أحسب - قوله تعالى: ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾ أو قوله تعالى: ﴿ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ ﴾ أو قوله تعالى: ﴿ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ﴾؛ فهذا الوصف يعكس منازل أصحاب هذه الجنات من جهة، ويعني تصرُّفهم المطلق فيها من جهة أخرى.







ويبدو - والله أعلم - أن ﴿ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ ﴾ ليس إلا وصفًا لجنات مخصوصة لفئة مخصوصة من المؤمنين، هم ﴿ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾ فقط، وليس لجنات كلِّ من دخل الجنة. وهذا يعني أن هذه الفئة المخصوصة أعلى مقامًا من عموم المؤمنين الآخرين، وأن جناتهم تقع على الأنهار مباشرة؛ ولهذا أسقطت (مِن) في وصفها، وأما الآخرون، فهم يلُونهم في المرتبة، وقريبون من الأنهار، ولكن ليسوا على شاطئها مباشرة كسابقيهم؛ فوُصفت جناتهم بأنها ﴿ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾؛ لتعكس (مِن) هذه الفاصلَ المكاني، الذي هو فاصل مقامٍ ومنزلة، ولئن جاز لنا التصور فإن جنات الأنبياء عليهم السلام كائنة في وسط الأنهار، وحينئذٍ يكون الأنبياء في مركز الدائرة وحولهم ﴿ السَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ ﴾، وحولهم المؤمنون الآخرون، والله أعلى وأعلم.







﴿ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا ﴾، فقد تكون الثياب خضراء في اللون، وهو لون يبعث راحة وطمأنينة في النفس، ولكن المعنى الذي يكون أقرب إلى دوام النعيم ودوام الشعور به هو أن تكون ﴿ خُضْرًا ﴾ دالةً على الجدة؛ أي: وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا جديدةً، وحينئذٍ يُفسح المجال أمام تنوع الألوان أيضًا ليزيد أهل الجنة بهجة وسرورًا، وكذلك - فيما أحسب - ينبغي أن يُفهم قوله تعالى في سورة الرحمن: ﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ [الرحمن: 76]، وقوله تعالى: ﴿ عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ ﴾ [الإنسان: 21]، والله أعلم.







6- ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ﴾ [الكهف: 52].







والغريب أن هؤلاء الضالين الذين لم يستجيبوا لله في حياتهم الدنيا - يستجيبون لأمره الصادر إليهم على سبيل التقريع في اليوم الآخر، ﴿ وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ ﴾، وليست استجابتهم هذه في حقيقتها نابعةً من الامتثال والخضوع للأمر؛ بل من فساد الجوهر؛ فهم ما يزالون يعتقدون النفع والنجدة من الشركاء ﴿ فَدَعَوْهُمْ ﴾، وكان حريًّا بهم وقد انكشف لهم بطلان معتقدهم أن يعتذروا لربِّهم عما كانوا فيه من جهل وغَواية حين أمَرَهم بدعوة شركائهم، لا أن يدْعُوهم. وإذ كانت هذه حالهم؛ فقد شهدوا على أنفسهم بدوامهم على الكفر حتى بعد رؤيتهم العيانية لضلالهم، فكان أن أيقَنوا أنهم واردو النار لا محالة ﴿ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ﴾ [الكهف: 53].







7- ﴿ قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا * قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا * قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا * قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا * فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾ [الكهف: 66 - 71].







تبيِّن هذه الآيات المباركات أدبَ التلمذة وحدَب الأستاذ، فموسى عليه السلام موعود بلقاء الرجل الصالح، ولكنه يستأذنه في اتباعه ليتعلم منه؛ أي: إنه - وهو نبي - يُظهر تواضُعَه للرجل ويُقِر له أنه أعلم منه، وبهاتين الخصيصتين يُستحصل العلم: التواضع مهما كان الشأن عاليًا، ومعرفة الفضل لأصحابه. وتبين أيضًا أن الرجل الصالح لم يحجب علمه، وأنه يبذله بشرطه، وبتبصير (طالبه) بوعورة ما هو مقدم عليه، فأبدى إشفاقه من ألا يتحمل موسى عليه السلام مجرياته، وتِبيانُ مشقة الطريق ينطوي على ضرورة عدم التغرير بالسالك الراغب في معرفة الحق، بل بتبصيره بما سيواجهه، فوعد موسى عليه السلام بالصبر والطاعة، وهما عُدَّةُ طلبة العلم، وبيَّن (الأستاذ) شرطه، وهو أن لكل شيء أوانًا، وأن على موسى أن يصبر إلى أن يأتيه تأويل ما يرى، وانطلق الاثنان بمجرد أن اتفَقا، ولأن صيغة حركتهما مثناة وليست جمعًا ﴿ فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ ﴾؛ فمن المحتمل أن الفتى لم يكن معهما، وربما ظل في مكانه في مجمع البحرين ينتظر عودة موسى عليه السلام.







وبدأ الدرس الأول بمجرد ركوب السفينة التي شرع العبد الصالح في خرقها، ولكن موسى عليه السلام تدخَّل؛ إذ لم يحتمل ما حصل، ولم يسأل العبدَ الصالح عن فعله بالقول مثلًا: لماذا خرقتَ السفينة؟ بل تجاوزه إلى ما هو أشد، فأنكَرَ الفعل بصيغة الاستفهام الإنكاري، وحكم عليه حكمًا سلبيًّا من غير أن ينتظر جواب الفاعل! ﴿ قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ﴾؟! وتكرر منه الاستفهام الإنكاري والحكم في المرة الثانية أيضًا: ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا ﴾ [الكهف: 74]، وأما في المرة الثالثة، فإنه وإن لم يستطع السكوت إلا أنه تمالك نفسه فلم ينكر ولم يحكم، بل أبدى اقتراحًا ﴿ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا ﴾ [الكهف: 77]، ولكن هذا الاقتراح عكس ما يجول في الخاطر من نفاد الصبر، فأصبح (الأستاذ) في حلٍّ من المواصلة بعد أن استنفد الفرص التي منحها "لتلميذه"، وأخبَرَه بالفِراق، وبيَّن له حكمة ما جرى ﴿ قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 78].







ولأن الحكمة لم تكن مكشوفة لموسى عليه السلام بعدُ؛ فقد استعمل العبد الصالح عبارة ﴿ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ ﴾ بتكرير التاء في ﴿ تَسْتَطِعْ ﴾؛ ليكون جرس الكلمة بهما وبالطاء دالًّا على المشقة، وقد خفف الكلمة بحذف التاء الثانية بعد تأويل الأحداث ﴿ ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا ﴾ [الكهف: 82]؛ للإشارة إلى أن الأمر أخف من المشقة التي أبداها موسى عليه السلام، كما أن لفظة ﴿ تَسْطِع ﴾ كانت أخف من ﴿ تَسْتَطِع ﴾.







وتكررت هذه الكلمة بصيغتي الخفة والثقل في قصة ذي القرنين وبناء السدِّ ﴿ فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا ﴾ [الكهف: 97]؛ أما الأُولى - أي: ﴿ اسْطَاعُوا ﴾ - فإنها تعكس الانزلاق الذي يصاحب السعي لتسلق سطح أملس، وأما الثانية - أي: ﴿ اسْتَطَاعُوا ﴾ - فإنها تعكس الجهد المبذول لإحداث ثقب في جسم صلب.







8- ﴿ أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا * وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾ [الكهف: 79 - 82].







لقد ذكر العبد الصالح أن كل ما فعله لم يكن عن أمره هو ﴿ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ﴾، ولكنه كان ينفذ إرادة الله ومراده، وقد عبَّر عن هذه الإرادة بثلاث صيغ: أُولاها هي ﴿ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا ﴾، فنسب الإرادة إلى نفسه وكأنها إرادته هو، وكذلك كان حاله في نسبة الفعل؛ لأنه ألحق عيبًا بالسفينة يجعلها غير صالحة للمصادرة، فهو لكمال أدبه مع الله تعالى؛ لم يشأ أن ينسب ذلك العيب إليه سبحانه. وعبَّر في حادثة الغلام بأفعال الجمع ﴿ فَخَشِينَا ﴾... ﴿ فَأَرَدْنَا ﴾؛ مشيرًا إلى توحد إرادته بإرادة الله تعالى الذي هو وحده يقبض الروح ويرزق الولد، ولكن التعبير كان بصيغةٍ تجعل العبد الصالح في الواجهة، وفي هذا أيضًا مراعاة للأدب مع الله تعالى، فالخشية تناسبه هو، وأن قضاء الله بشأن الغلام جرى على يده هو، فصاغ الفعل بما يُظهر نسبته إليه هو. وأما في الحالة الثالثة، فقد نسب الإرادة إلى الله تعالى، واختفَتْ ذات العبد الصالح: ﴿ فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ ﴾؛ لأن مجريات هذه الحادثة كانت رحمة خالصة، ولم تحتمل الإيحاء بما من شأنه أن يكون عيبًا أو نقصًا.








وفعَل ذو القرنين بعد الانتهاء من السد الشيءَ ذاته؛ إذ جعل ما فعله رحمة من الله تعالى، فـ ﴿ قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا ﴾ [الكهف: 98]، وكذلك هو شعور العاملين المؤمنين بما يقومون به في صالح العباد؛ إذ لا يرون أنفسهم، بل يرون الله تعالى وحده، وإليه ينسُبون ما وفقهم إلى فعله.






__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 36.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 36.23 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.70%)]