
24-08-2020, 03:09 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,855
الدولة :
|
|
رد: تأملات في آيات من القرآن الكريم
تأملات في آيات من القرآن الكريم
أ. د. عباس توفيق
(سورة البقرة)
1- ﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 7].
تُشير الآية الكريمة إلى القلب والسمع والبصر باعتبارها الحواس أو الوسائل الأساسية في المَعرِفة لدى الإنسان، ولنا مع هذه الآية بضع وقفات:
أ- إن الله -تعالى- كنّى بالقلب عن العقل الذي هو مناط التكليف؛ لأن العقل - كما يُمكِن أن يُظنَّ - ليس هو دماغًا باعتباره كتلة ضابطة وحسب؛ بل هو مزيج مِن عمل هذه الكتلة ومن الشعور، فما يَعتري الإنسان يتولى الدماغ تحليله، ولكن القلب هو الذي يتحسَّس نتائج التحليل، وكأنه هو المَوضِع الفعلي للإدراك.
ب- إن السمع والبصر هما الوسائل الأساسية الأولى في استِحصال المعرفة؛ فهما اللذان يَستجمِعان الإشارات ويَبعثان بها إلى القلب، ويَقتضي هذا التنظيم أن يكون ترتيب القلب في التسلسل تاليًا، غير أن ذكره تقدَّمَ في هذه الآية المباركة؛ لأنه وإن كان الوعاء المُستقبِل لإشارات السمع والبصر، إلا أنه أعلى منهما مقامًا؛ فلولا عمله في تحليل تلك الإشارات وربط بعضها ببعض لما كان هناك استخلاصٌ لإدراكٍ واحدٍ أو كلِّي؛ فالقلب مِن الأسرار التي يختصُّ بها الإنسان، ويقوم السمع والبصر على خدمته، ويُصبِحان وسيلتَين لنقل المحسوسات إليه، ومِن ثَمَّ فإن مقامه أعلى ويَستحِق التقديم في هذا الموضع، على حين أن ذِكْره يَرد آخرًا في سورة الإسراء: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا ﴾ [الإسراء: 36]؛ لأن هذه الآية في سياق بيان المسؤولية، فتتدرَّج في بيان مقامات هذه الأعضاء ابتداءً من الأدنى وصعودًا إلى الأعلى، فلو كُفَّ السمع والبصر عن المَحارم لأمِن القلب عن كثير من الآثام.
ت- وردَت القلوب والأبصار في الآية الكريمة بصيغة الجمع، بينما ورَد السمع بهذه الصيغة التي تحتمل الجمع والإفراد معًا، وإذا ما أخذناه على أنه جمع فإن الصيغة تتَّفق في العناصر الثلاثة، ولكننا إذا نظرنا إليه على أنه مُفرد فسنكون إزاء التفاتة بلاغية، وهي أن المسموع واحد ولكن السامعين قد يختلفون في تأويل هذا المسموع أو إدراكه أو القدرة على ذلك التأويل والإدراك، ولأن المسموع واحد فإن المناسب هو حَملُ السمع على صيغة الإفراد، ولأن تأويله متعدِّد ومتنوِّع فإن المتناسب في هذه الحال هو حَملُ السمع على صيغة الجمع.
والحال كذلك بالنسبة إلى الأبصار، فالشيء المرئي واحد، ولكن رؤية الناس له متباينة بسبب اختلاف زاوية الرؤية أو اختلاف إدراك ما يُرى، وقد لا يُتَّفق على كنهٍ واحد لذلك الشيء المرئي وإن كان هناك تقاربٌ في وصفه؛ فما يراه أحدهم جميلاً أو قبيحًا - على سبيل المثال - قد لا يحظى بالوقع ذاته في نظر آخر، ولئن اتَّفق الناظران على عمومية الجمال أو القبح فقد يَختلفان في مداهما ودرجتهما، وهكذا. وكذلك الحال بالنسبة إلى السمع، فعندما يرى إنسانٌ ما أحدهم يتكلَّم، فإن أذنه تلتقِط ما تلتقطه آذان الآخرين من الكلام ذاته، ولكنه قد يختلف عنهم في استقبال إشارات أخرى، بعضها بصريٌّ كقراءة الوجه وحركات الجسد، وبعضها سمعي كنبرات الصوت، وهي جميعًا تمنَح المسموع ظلالاً إضافية، ويكون الفهم مبنيًّا على كل هذه المعطيات ومدى الالتفات إليها، ولعلَّ ذلك يكون واحدًا مِن أسباب اختلاف السامعين في إدراك مغزى الكلام الذي يَسمعونه، ولأنَّ الحال كذلك فإن الأبصار بصيغة الجمع، وكذلك السمع باعتباره جمعًا، تُناسِب المقام.
2- ﴿ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ﴾ [البقرة: 31 - 33].
وعن معنى قوله تعالى: ﴿ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ﴾ وردَت روايات مختلفة، ومِن هذه الروايات أنها تدل على اسم كل ما في الوجود لم تُغادِر منه شيئًا، سواء كان كائنًا حيًّا أم لم يكن؛ "جامع البيان للطبري" (1: 310)، وسواء كان جليلاً أم حقيرًا؛ "الجامع لأحكام القرآن للقرطبي" (1: 296)، وأما ما ارتآه آخَرون، فمفاده أن الله -تعالى- علَّم آدم أسماء الملائكة وأسماء ذريته كلها، بينما اختار الربيع بن خُثيِّم أن التعليم كان بأسماء الملائكة خاصة؛ "الطبري" (1: 310)، ومردُّ الاختلاف إلى التركيب اللغوي واستعمال الضمير؛ فقد استحسن الطبري الرأي القائل: إن التعليم كان بأسماء ذرية آدم وأسماء الملائكة دون أسماء سائر أجناس الخلقِ؛ لأنَّ الله -تعالى- قال: ﴿ ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾، ولم يقل عَرضَها أو عَرضَهنَّ؛ لأن العرب لا تَكاد تُكنِّي بالهاء والميم إلا عن أسماء بني آدم والملائكة، وأما إذا أرادت أسماء البهائم وسائر الخَلقِ فإنها تُكنِّي عنها بالهاء والألف، أو بالهاء والنون، فتقول: عرَضهنَّ أو عرَضَها، وأنَّ هذا هو المُستفيض في كلامهم على الرغم مِن جواز استعمال الضمير ﴿ هم ﴾ للمجموع من الخلائق العاقلة وغير العاقلة، وقد استدلَّ الطبري على هذا الجواز بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [النور: 45].
ومالَ القُرطبي إلى الرأي الآخَر لما يقتضيه لفظ ﴿ كُلَّهَا ﴾ الدالة على الإحاطة والعموم، غير أنه لم يكتف بتوجيه اللفظة لُغويًّا بل عزَّزه بالحديث الذي رواه البخاري عن أنس عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - إذ قال: ((ويَجتمِع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون: أنت أبو الناس، خلقك الله بيَدِه، وأسجدَ لك ملائكته، وعلَّمك أسماء كل شيء))؛ صحيح البخاري حديث رقم: (4476)، وذكر أن ابن عباس قال: علَّمه أسماء كل شيء حتى الجَفنة والمِحلَب، وأورَد أن شيبان روى عن قتادة قال: "علَّم آدم مِن الأسماء أسماءَ خلقه ما لم يعلِّم الملائكة، وسمَّى كل شيء باسمه، وأنْحى منفعةَ كلِّ شيء إلى جنسه"، قال النحاس: "وهذا أحسن ما رُوي في هذا"، والمعنى: "علَّمه أسماء الأجناس وعرَّفه منافعها: هذا كذا وهو يصلح لكذا"؛ (القرطبي 1: 296).
ولم يغبْ هذا التعميم بطبيعة الحال، وخاصة ما ذُكر عن ابن عباس، عن الطبري، بيد أنه أرجع ذلك إلى أن الآية في حرف ابن مسعود: "ثم عرضهنَّ" وأنها في حرف أُبيٍّ: "ثم عرضها" وأن ابن عباس كان يقرأ قراءة أُبيٍّ (الطبري 1: 311)، ويَستنبِط رأيه منها.
ففي الآية الكريمة ﴿ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ ﴾ ضميران هما: ﴿ ها ﴾ وهو لغير العاقل، ويَعود على الأسماء، و﴿هم﴾، وهو للعاقل، ووقع التساؤل عن العَرْض هل كان لشخوص الأشياء أم لأسمائها؟ ويَبدو مِن إيراد ضمير العاقل أن العَرض كان للشخوص ذاتها، ولكن سؤالاً آخَر أُثيرَ وهو: هل كانت هذه الشخوص ملائكة وبشرًا فقط أم كانت معهما مخلوقات أخرى؟ وكما رأينا مِن قبل؛ فقد مال الطبري إلى أنها كانت أسماء الملائكة وأسماء ذرية آدم، ومالَ القُرطبي إلى أن العَرض كان لشخوص كل شيء، وكذلك كان رأي الزمخشري قبله إذ قال: "أراه الأجناس التي خلقَها، وعلَّمه أن هذا اسمه فرس، وهذا اسمه بعير، وهذا اسمه كذا، وهذا اسمه كذا، وعلَّمه أحوالها وما يتعلق بها من المنافع الدينية والدنيوية"، "تفسير الكشاف" (1: 129 - 130) بترتيب وضبط محمد عبدالسلام شاهين، دار الكتب العلمية لبنان، 1995 ط 1، وقد ردَّ سبب استعمال الضمير المذكَّر إلى تغليب العقلاء في التعبير عن هذا المزيج المنوع من الأجناس.
وأحسب أن رأي الربيع بن خثيم بقصْر الأمر على الملائكة هو الأقرب للصواب، وأن ما عُرض على الملائكة هو الملائكة الآخرون، وأن ما طُلِب منهم الإجابة عنه هو بيان أسمائهم، وهذا ما سأعود إليه بعد قليل، وليس في قول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: ((وعلّمكَ أسماء كلِّ شيء))، ما يُشير إلى كل صغيرة وكبيرة وبيانِ ماهيَّتها ومنافعها، كما رُوي عن قتادة واستحسنه النحاس، وإن هذا لا يعدو كونه تأويلاً لمنطوق الحديث وتفصيلاً له، والقول مثلاً: "كل الناس أقبلوا مِن هذا المكان" لا يعني أن الناس جميعًا أولَهم وآخرَهم، ومَن كان منهم في المشرق أو في المغرب، أقبلوا من هذا المكان، وإنما العبارة للإنباء عن شيوع الإقبال أو كثرة مَن أقبل، وكذلك ((وعلَّمكَ أسماء كل شيء)) فإنها للدلالة - والله أعلم - على سعة المعرفة، لا على التفصيلات التكوينيَّة لهذه المَعرِفة.
وإذا أخذنا بالقول:
إن الملائكة عجَزوا عن الجواب؛ لأنهم لم يكونوا يعهدون ما عُرض عليهم من مخلوقات وأدوات وأسماء ذرية آدم وغيرها، فعلى أي أساسٍ إذًا قبِلوا بما أنبأهم به آدم - عليه السلام؟ أي إذا كانوا لا يعرفون تلك المخلوقات ولا يعرفون أسماءها أو سُبُل الانتفاع بها، ولا يعرفون أسماء ذرية آدم، ولم تكن لهم وسيلة يتحقَّقون بها مِن صحة ما سيُخبِرهم به آدم - عليه السلام - فكيف إذًا سلَّموا أن الأسماء التي ذكرها آدم لهم صحيحة وألزموا أنفسهم الحُجة؟
ولا يبدو الرأي القائل بعرض كل شيء مُقنعًا؛ لأنه رأيٌ قائم على أن الملائكة كانوا يَجهلون أشياء كثيرة، وأنهم أقرُّوا لآدم بالعلم مِن غير أن يُمحِّصوا ما قدمه لهم، وكِلا الأمرين مبنيٌّ على انعدام المعرفة الحقيقية، وحُجَّة الله -تعالى- لا تقوم على الجهل، والذي أحسبه في هذا الصدد أن الله تعالى وهو ﴿ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ أتاح لملائكته معيارًا محدَّدًا يَحتكمون إليه في التثبُّت مما قُدِّر لهم أن يسمعوه في ذلك الاختبار، وهذا المعيار هو أسماؤهم الشخصية، ولعلَّ الملائكة كانوا يَعرفون أسماءهم الذاتية وأسماء عدد من أقرانهم، ولكنهم - والله أعلم - ما كانوا يعرفون اسم كل ملك، ولهذا فإن العملية اقتصرت عليهم وأن الله -تعالى- سألهم أن يكشفوا له عن معرفتهم بشخصيات بعضهم بعضًا بذكر الأسماء، وللدلالة على ذلك ورَد اسم الإشارة "هؤلاء" الذي هو للعاقل القريب فقال ﴿ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ ﴾، ولئِن كان المسؤول عنه خليطًا منوَّعًا مِن الكائنات الحية وغير الحية والأشياء لقال: أنبئوني بأسماء هذه، مثلاً، ولأنَّ علم الملائكة كان محدودًا بما علَّمهم الله تعالى فقد ﴿ قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا ﴾، فأظهروا أنهم ذوو علمٍ ولكنَّ عِلمهم لم يكن ليسع ما سُئلوا عنه، وعندئذ طلب الباري - عز وجل - من آدم، وهو واحدٌ أمام جموع الملائكة وهم كثير، أن يفعل فعرَّف كل ملك بنفسه، ﴿ قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، إن الضمير "هم" يعود على الملائكة، فـ ﴿ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ ﴾؛ أي: يا آدم أنبئ الملائكة ﴿ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾؛ أي: بأسماء الملائكة، ومعنى هذا: أنبئ الملائكة المستمعين الماثلين أمامك بأسمائهم ممَّن يَعرفون وممن لا يَعرفون من الملائكة الآخرين، وأما ربط الضمير "هم" في ﴿ أَنْبِئْهُمْ ﴾ بالملائكة وفي ﴿ بِأَسْمَائِهِمْ ﴾ بسائر المخلوقات والأشياء فإنه يتسبَّب في إرباك الفهم.
إن آدم الذي نُفِخت فيه الروح توًّا ولم يَسبِق له أن رأى الملائكة قبل تلك الساعة، ولم يُتوقَّع منه أن يعرف أسماءهم أخبرَ كلَّ ملَكٍ باسمه، وقد كان في هذا مدعاة لكي يتيقَّن كل ملَك مِن أنَّ الأسماء التي طرقت سمعه لأول مرة والتي كان يَجهلها قبلئذٍ صحيحة وحقيقية بعد أن تبيَّن له أن اسمه الشخصي وأسماء "معارفه" مِن الملائكة الآخرين قد ذُكرت بشكل صحيح، وبهذا القياس - وهو مِن وسائل العلم - أقرَّ الملائكةُ لآدم بالفضل، وألزموا أنفسهم الحُجة، فقال سبحانه: ﴿ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ﴾، ولأنهم أبرارٌ فقد استخلصوا من هذه الواقعة ما زادَهم طاعةً فاستجابوا لأمر الله -تعالى- لهم بالسجود لآدم - عليه السلام - بينما صَرفَ إبليسُ نفسَه عن هداية هذا العِلم فأبى السجود تكبُّرًا وعُلوًّا.
3- ﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [البقرة: 49].
وقرئت: يذبِّحون بالتشديد، وهي قراءة الجمهور، وبالتخفيف: "يذْبَحون" وهي قراءة ابن محيصن، والقراءة الأولى أولى وأرجح؛ "تفسير القرطبي (1: 393)، وذبَّحه كذبَحَه، ولكنه بالتشديد يدل على الكثرة، وبالتخفيف يصلح أن يكون للقليل والكثير، ومعنى التكثير أبلغ؛ "لسان العرب"، (مادة: ذبح)، كما أن في التشديد ظلاًّ للقسوة لا يعكسها التخفيف.
وقال: ﴿ نِسَاءَكُمْ ﴾ ولم يقل: بناتكم؛ لأن البنات داخلة في النساء أو باعتبار ما يكون إذ يؤول أمر البنات إلى أن يَصرْنَ نساءً، وهذا من علاقات المجاز المرسل في البلاغة، ولأن مِن شأن ذكر النساء استنهاضَ حمية الرجال وتذكيرًا لأولئك القوم بجميل فضل الله عليهم؛ إذ نجَّاهم مما كان من شأنه أن يمسَّ كرامتهم.
4- ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ [البقرة: 87].
فقد عطَف الفعل المضارع ﴿ تَقْتُلُونَ ﴾ على الفعل الماضي ﴿ كَذَّبْتُمْ ﴾، وهذا قد يكون لإرادة الحال الماضية، ولكن فظاعة الأمر تَستوجِب استحضاره في النفوس وتصويره في القلوب، أو أن المراد هو أن فريقًا تَقتلونهم فيما بعد؛ لأن المخاطبين - وهم اليهود - كانوا يَحومون حول النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - يبتغون قتله؛ "الكشاف للزمخشري" (1: 163)، ولئن قال مثلاً: وفريقًا قتلتم - بصيغة الماضي - فإن ذلك كان يبرِّئ اليهود من محاولاتهم المتكرِّرة المعروفة في التاريخ لاغتيال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم.
5- ﴿ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 91].
فقد دلَّ بقوله: ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ على أن الفعل قد مضى، ولكن: ﴿ لِمَ تَقْتُلُونَ ﴾ دال على المستقبل. ورأى بعض البصريين من علماء العربية أن المعنى هو فلمَ قتلتم، وأورَدوا شواهد على استعمال الفعل المضارع للدلالة على حدثٍ ماضٍ؛ كقول الشاعر، وهو مِن شواهد سيبويه:
ولقد أمرُّ على اللئيم يَسبُّني  فمضيتُ عنه وقلتُ: لا يَعنيني 
يريد: ولقد مررتُ بدلالة الفعل الماضي القادم: فمضيتُ، أو أنَّ "فعل، ويفعل" قد يشتركان في معنى واحد؛ كقول الطرماح:
وإني لآتيكم تشكُّرَ ما مضى  مِن الأمر واستيجاب ما كان في غَدِ 
أي: ما يكون في غد، وكقول الحطيئة:
شَهِد الحُطَيئة يوم يلقى ربَّه  أنَّ الوليد أحقُّ بالعُذرِ 
أي: يشهد الحُطيئة "تفسير الطبري" (1: 590).
غير أن بعض نَحوييِّ الكوفة قاسوا الجمع بين الماضي والمضارع ببعض الصيغ المضارعة المستعملة في الكلام وفي الشعر ودلالاتها على الماضي، كقولك: لمَ تفعل كذا وكذا، فهذا على تقدير أنه قد حصل. ومثله: "إذا نظرتَ في سيرة عمر لم تجده يُسيء"، والمعنى: لم تجده أساء، فلما كان أمر عُمر لا يُشَكُّ في مضيِّه لم يقع في الوهم أنه مستقبَل، فلذلك صلحت ﴿ مِنْ قَبْلُ ﴾ مع قوله: ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ ﴾؛ "تفسير الطبري" (1: 591).
كما أن ﴿ فَلِمَ تَقْتُلُونَ ﴾خطاب لمن عاصر التنزيل مِن اليهود، ولم يكونوا هم مَن قتل الأنبياء، بل إن مَن اقترف الجناية هم سابقوهم، وإنما جاز توجيه الخطاب إلى المُعاصِرين منهم بالصيغة المُنبِئة عن أنهم هم الذين قَتلوا؛ لأنهم كانوا يتولون أسلافهم ويرضون فعلهم فصاروا بمنزلتهم ونُسب القتل إليهم؛ "تفسير القرطبي" (2: 34).
6- ﴿ وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [البقرة: 111].
فقد قال: ﴿ كَانَ ﴾ بصيغة المفرد، ثم قال: ﴿ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ بصيغة الجمع، ومردُّ ذلك إلى أن ﴿ كَانَ ﴾ جُعل واحدًا بالالتفات إلى لفظ ﴿ مَنْ ﴾ وأن ﴿ هُودًا أَوْ نَصَارَى ﴾ ورَدا جمعَين ليتناسبا مع معنى ﴿ مَنْ ﴾ الذي هو جمعٌ؛ "تفسير القرطبي" (2: 81 - 82)، "الكشاف للزمخشري" (1: 176).
7- ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا ﴾ [البقرة: 144].
وتدلُّ "قد" عند النحويين على التحقيق إن تَبِعها فعلٌ ماضٍ، وعلى التقليل والاحتمال إن جاء بعدها فعل مضارع، غير أن هذا لا يستقيم مع استعمالات القرآن الكريم، فليس المراد بالآية: ربما نرى، بل المراد هو: نرى على وجه التأكيد، ومِن ثمَّ فإن ورود "قد" في القرآن الكريم هو للتحقيق بصرف النظر عن الفعل الذي يليه، وعلاوة على ذلك فقد يأتي الفعل المضارع بعد قد ومعناه ماضٍٍ، كما رأينا في شاهد سيبويه في الفقرة 5: ولقد أمرُّ؛ أي: مررت، وعلى هذا فالمعنى هو: قد رأينا، وقد حافظ الزمخشري على الدلالة النحوية لـ"قد" بحسب الفعل الذي يتبعه، أي إعطاء معنى الاحتمال للنصِّ إذا تلاها فعلٌ مُضارع، ولكنه أوَّل الآية بكثرة الرؤية فقال: "قد نرى ربما نرى، ومعناه كثرة الرؤية"، ويرى أن هذه الصيغة واحدة " مِن المواضِع التي تبالغ العرب فيها بالتعبير عن المعنى بضد عبارته"؛ "تفسير الكشاف" (1: 200).
8- ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 168].
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ﴾ [البقرة: 172].
"وهاتان الآياتان مُتماثلتان في التوجيه إلى تناول الحلال الطيب والتنكب عن المحرَّم، وعن تحريم المحلل، و"مِنْ" تبعيضيَّة، وهي في الآية الأولى تنبِّه إلى أن ليس كل ما في الأرض بمأكول"؛ "الكشاف (1: 211)، وفي الثانية تدعو إلى الانتقاء أو الاكتفاء.
والخطاب في الآية الأولى للناس عامة، وقد رُوي أنها نزلت في ثقيف وخزاعة وبني مُدلح فيما حرَّموه على أنفسهم من الأنعام؛ "تفسير القرطبي" (2: 213)، ولأن أولئك حرَّموا ما أحلَّ الله -تعالى- كان مِن المناسِب التعقيب على فعلهم بـ﴿ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾؛ لأن الفعل الذي قاموا به مِن إملاءات الشيطان الذي يُريد حرمان الإنسان مما أباحه المولى له، فالآية الأولى تدعو إلى الأكل مما في الأرض من الحلال، بينما تتَّجه الآية الثانية للمؤمنين وتدعوهم إلى أن يأكلوا مِن طيبات ما رزَقهم الله تعالى، وقد ورَدت "مِنْ" التبعيضيَّة مع الطيبات؛ أي: إن الله -تعالى- لم يقلْ لهم: كُلوا طيبات ما رَزقناكم، ومردُّ هذا - والله أعلم - إلى أن المؤمنين هم صفوة الناس فلا بدَّ لهم أن يَختاروا مِن الحلال صفوته، ثم أن يؤدُّوا شكر ذلك، ولربما تَنطوي الآية على التوجيه بتقليل الطعام أو بعدم تسهيل كلِّ ما هو مُتاح، ولعلَّ ما نُسِب إلى أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يَتماشى مع هذا الفهم حين قال ما معناه: "كنا نتجنَّب ما لا بأس فيه مخافة أن نقع فيما فيه بأس".
9- ﴿ فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ﴾ [البقرة: 249].
وفي هذه الآية يُحذِّر طالوت جنوده من الابتلاء بالنهر، وحدَّد العاصين بالذين سيَشربون منه، ولكي يكون التأكيد واضحًا وصارمًا؛ فقد قال ﴿ وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾، واختار لفظ الطَّعمِ؛ لأنه بمعنى الذوق، وهو أدنى حالات الاقتراب مِن الماء، فنفْيُ الطعمِ يستلزم نفْيَ الشربِ، ولكن نفي الشرب لا يمنع من الطعم، ولهذا فقد كان الأمر حاسمًا والاختبار شاقًّا، ثم إنه خفَّف عن جنده بأن أباح لهم أن يَغترفوا منه غرفة واحدة، ولا شك في أن هذا الاغتراف يَنطوي على الذوق، فقد تدرَّج مع جنده مِن المنع الباتِّ، وحتى مِن الذوق إلى الاغتراف بغرفة واحدة باليد كنايةً، ربما عن أخذ أقل ما يمكن، ولا شك أن في هذه الصرامة بناءً للجند على الانضباط وتحمُّل المشاقِّ التي تُصاحب الحروب، والحروب لا ينفَع معها التراخي والتهاون والاستِسلام للضعفِ.
وقد ذكر القرطبي أن هذا الجزء مِن الآية دلَّ على أن الماء طعام "وإذا كان طعامًا كان قوتًا لبقائه واقتيات الأبدان به، فوجب أن يَجري فيه الربا"؛ "تفسير القرطبي" (3: 249).
10- ﴿ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا ﴾ [البقرة: 275].
ومدار الآية على الرِّبا ولكنه ذكَر أن مُستحلِّيه يُشبِّهون البيع به، وكان مِن المُنتظَر أن يَقولوا: إنَّما الربا مثل البَيع، فكما أن البيع حلال فكذلك الرِّبا؛ أي إن البيع صار مُشبهًا بينما كان المُنتظَر أن يكون مُشبهًا به، وقد يكون هذا تشبيهًا مقلوبًا بحسب علم البلاغة؛ بدعوى أن البَيع هو عين الرِّبا، وما دام البيع مقبولاً فإن الربا تبعٌ له في القَبول، وللإمام أحمد بن منير الإسكندري تَخريجٌ يَكاد يُشابه هذا حين قال: "إنه متى كان المطلوب التسوية بين المُحلِّين في ثبوت الحكم، فللقائل أن يسوِّي بينهما طردًا فيقول: الربا مثل البيع، وغرضه من ذلك أن يقول: والبيع حلال فالربا حلال، وله أن يسوِّي بينهما في العكس فيقول: البيع مثل الربا، فلو كان الربا حرامًا كان البيع حرامًا، والأول على طريقة قياس الطرد، والثاني على طريقة قياس العكس ومآلهما إلى مقصد واحد"؛ هامش رقم: 1 في "تفسير الكشاف" (1: 316).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|