
19-08-2020, 04:32 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,341
الدولة :
|
|
رد: تفسير القرآن الكريم **** للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )

تفسير القرآن الكريم
- للشيخ : ( أبوبكر الجزائري )
تفسير سورة البقرة - (48)
الحلقة (55)
تفسير سورة البقرة (19)
كان مما عاب الله على اليهود وعاتبهم عليه أنهم يأمرون غيرهم بالبر والدخول في الإسلام، ويغفلون عن أنفسهم، مع أن الأصل أن يكونوا هم السباقين لذلك لأنهم على علم، ولديهم عقول، وكونهم يخافون من رؤسائهم أو يخشون المتاعب والمصائب ليس عذراً لهم؛ إذ عليهم أن يستعينوا بالصبر والصلاة، وهذه شاقة على النفس، لا يقدر عليها إلا المخبتون لربهم، الموقنون بلقاء الله والرجوع إليه.
مراجعة لما سبق تفسيره من آيات سورة البقرة
الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة. من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً. أما بعد:فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. ثم أما بعد:أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات!إن السورة ما زالت كعهدنا بها سورة البقرة، وإن الآيات المباركات التي نستعين الله تعالى على تفسيرها وفهم معانيها سائلين الله عز وجل أن يرزقنا الاهتداء بهديها والعمل بها؛ إنه قريب مجيب سميع الدعاء.قراءة تلك الآيات بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ * وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:44-46].
تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم
معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! ما زال السياق في بني إسرائيل، وقد ناداهم الرب تبارك وتعالى نداءً تتجلى فيه مظاهر الرحمة الإلهية، والولاء، والعطاء الرباني، وقلنا: مضى بنو إسرائيل في طريقهم إلى الهاوية، ونحن نقر ونقرر أننا المنتفعون بذلك التعليم الإلهي، فاليهود أصروا على الكفر والعناد؛ لحلمهم الذي يراودهم ألا وهو إيجاد مملكة بني إسرائيل التي تسود العالم، ومشوا في هذا خطوات، ولاحت في الأفق بوادر تشير إلى أنهم قد وصلوا، إذ ما كان مسلم يفكر أو يخطر بباله أن اليهود يحتلون ديار الإسلام، ويعلنون فيها دولتهم، ألا وهي دولة إسرائيل، وعما قريب يطلقون عليها اسم المملكة، فهم فقط يحتالون، وإلا ما يرضون بدولة إسرائيل يريدون مملكة إسرائيل.ومن باب أننا نستفيد من ذلك النداء نستعرضه مرة أخرى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ [البقرة:40]، فهل نحن ما أنعم الله علينا؟ بل نعمنا أجلُّ من نعمهم، فلم لا نذكر النعم، وننساها، ونتنكر لها؟ حتى لا نشكر الله عليها!وقد قلت لكم: ينبغي أن تخلو بنفسك دقائق، وتستعرض حياتك، فسوف تقف على نعم كثيرة أنعم الله تعالى بها عليك، فإذا عيناك تدمعان، وأنت من الذاكرين الشاكرين.
تذكير بني إسرائيل بالوفاء بالعهود
ثانياً: أمرهم بالوفاء بالعهد، وواعدهم أن يفي لهم.وهل نحن ما أخذ علينا عهداً؟قلت لكم: كل من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمد رسول الله فقد أعطى عهداً وميثاقاً أن يعبد الله وحده وألا يعبد معه سواه، وألا يعترف بعبادة غير الله. من قال: أشهد أن لا إله إلا الله وجب أن يعبد الله، وإلا ما معنى شهادته أنه لا معبود إلا الله وهو لا يعبده، ينافق أو يسخر ويستهزئ، فيجب أن يعبد الله.
ثانياً: أن يعبده وحده، فلا يشرك بعبادته غيره بحال من الأحوال، فمن أشير إليه أن عمله هذا من الشرك يجب أن ينتفض كالأسد ويقول: أستغفر الله. ولا يصر أبداً على الشرك، وإن كان به جاهلاً غير عالم.ثالثاً: ألا يرضى بأن يعبد غير الله، أي: لا يرضى بالشرك. أما أن يداهن المشركين، ويوافقوهم، ويبتسم معهم فهذا قد غشهم من جهة ونقض عهده من جهة، وهو الذي يشهد بأعلى صوته أن لا إله إلا الله.ثانياً: عهد آخر فمن شهد أن محمداً رسول الله وجب عليه أن يعظم رسول الله وأن يجله، ويكبره، ويحبه، ويمشي وراءه، لا عن يمينه ولا عن شماله ولا أمامه، بل لابد أن يتبع. والاتباع أن تأكل كما يأكل .. تشرب كما يشرب .. تلبس كما يلبس، وهكذا في كل شئونك، ما استطعت إلى ذلك سبيلاً.ودعنا من الأكل والشرب، الصلاة والعبادات ينبغي أن نأتي بها على النحو الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها، وإن كان المحبون كـابن عمر الذي كان يبحث عن المكان الذي جلس فيه رسول الله فيجلس فيه، ويبتسم ابتسامة رسول الله، وإذا نظر ينظر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهذا الاتباع هو الذي يورث حب الله عز وجل للعبد، واقرءوا: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ [آل عمران:31]، المشي وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحجرات:1]، فلا رأي، ولا ذوق، ولا منطق، ولا فهم، ولا علم يحملك على أن تتقدم رسول الله وتقدم رأيك وفهمك على رسول الله، فهذا مقتضى العهد الذي أعطيته بنفسك إذ قلت: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، قال تعالى: وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا [المائدة:7].
تذكير بني إسرائيل برهبة الله وتقواه
ثالثاً: وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة:40]، أمرهم أن يرهبوه وحده، ونحن أيضاً مأمورون ألا نرهب إلا الله، والرهبة الخوف، لكن في معنى قشعريرة أو حركة نفسية.رابعاً: وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41] أيضاً: فلا نتقي سوى الله، بم نتقي الله؟ بالحصون العالية؟ بالأسوار الرفيعة؟ بالجيوش الجرارة؟ بم يتقى الله يا عباد الله؟ بالإسلام له، نسلم له أي شيء؟ الوجه والقلب، فأعط وجهك وقلبك لله، وبهذا تكون قد أسلمت لله عز وجل، وبالإسلام اتقيت سخطه وعذابه ونقمه وبلاءه، وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ [البقرة:41].
تحذير بني إسرائيل من لبس الحق بالباطل وكتمان الحق
خامساً: وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ [البقرة:42]، حرم عليهم التضليل والخداع، وإظهار الباطل في صورة الحق، وإظهار الحق في صورة الباطل، ليمشوا وراء أغراضهم وأطماعهم وشهواتهم، وهل يصح لنا هذا فنقول: هذا خاص ببني إسرائيل؟ وهل يجوز للمفتي أن يلبس الباطل لباس الحق ويقول: هذا هو شرع الله أو مراد الله؟لا يصح في صغيرة ولا كبيرة، فلا نخلط أبداً بين الحق والباطل، الحق حق، والباطل باطل، وإن كنا لا نعلم فنفزع إلى كلمة: الله أعلم. وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ [البقرة:42]، أي: ولا تكتموا الحق، وهل يجوز لنا أن نكتم الحق؟ قلنا: لو كان الحق تعلق بأبيك وتقطع يده أو يرجم بالحجارة يجب أن تقول، ولا تكتم الحق.ومع الأسف حدث أن أصبحنا نتحيز لا للأقارب فقط بل حتى للبلاد: هذا من بلادنا، ويكتم الحق ويدافع عن الباطل؛ لأن هذا مواطن من مواطنينا، فهذه مظاهر الهبوط البعيدة المدى، فيشهد بالباطل؛ لأنه من بلاده أو موطنه.
تذكير بني إسرائيل بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والركوع مع الراكعين
أخيراً: أمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فهل نحن غير مأمورين بهذا؟ نحن أحق بهذا.وأمرهم كذلك بصلاة الجماعة فقال: وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43]، فهل نحن مبرءون من هذه؟ هذا خاص ببني إسرائيل: صلِّّ في بيتك وفي رحلك؟ لا والله، فلا نتأخر عن صلاة الجماعة إلا لعلة المرض أو الخوف فقط، والمرض يشمل التمريض، فكونه يمرض مريض في بيته ككونه هو مريض، والخائف إما على نفسه في الطريق، أو على ماله يؤخذ منه، أو على بيته يدخل عليه ويسلب ماله في ظروف معينة فقط، وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ [البقرة:43].إذاً: ما كان لهم هو لنا وزيادة، ونحن أحق بهذا.
تفسير قوله تعالى: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ...)
التحذير من أمر الناس بالبر وإغفال النفس عن ذلك
يقول تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، هذا الاستفهام للتقريع والتوبيخ. أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، أي: بالخير، ولفظ البر شامل لكل خير، ويدخل فيه الإسلام بكل تعاليمه وشرائعه، إذ كان بعضهم يأمر العرب أن يدخلوا في الإسلام، ولم لا يأمرونهم أن يدخلوا في اليهودية؟ لا، لا. اليهودية غالية، ما يريدون شعباً غير شعب بني إسرائيل يدخل معهم.وإلى الآن هل بلغكم أن اليهود فتحوا مكتباً للدعوة إلى اليهودية في أمريكا .. في بريطانيا .. في أي مكان؟ لا؛ لأنهم يحتفظون بكيانهم من أجل إقامة مملكتهم وسيادة العالم أجمع، فكان منهم من إذا استشاره الأنصار: الأوسي والخزرجي، قال له: لا بأس ادخل في الدين أحسن، وهو كذلك.وفي نفس الوقت دخول العرب في الإسلام ينفعهم أكثر مما يبقى مشركاً، كافراً جاهلاً يتخبط.وقد يسألون عن فضائل الأعمال فيرشدون: ادخل .. اعمل .. تصدق .. صل، وهذا حصل بالفعل.وإلى الآن فيما أعلم أن اليهود المواطنين في بلاد العرب ما كانوا يأمرون الناس بالفسق والفجور، بل كانوا يأمرونهم بالتقوى والطاعة، وعندنا شواهد أنهم كانوا يفضلون المتقي على الفاجر؛ للشعور الديني في نفوسهم، وحسبنا خبر الله تعالى: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ [البقرة:44]، ولفظ البر جامع لكل خير؛ لأن لفظ البِر مأخوذ من البَر الواسع، والبرية الواسعة، فكل خير يدخل تحت كلمة (بر). أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ [البقرة:44]، فلا تأمرونها بالخير. أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44] توبيخ آخر. وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، مع الأسف والحال أنكم تقرءون كتابه الذي يأمر بالبر والخير، و أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ [البقرة:44]، لو كنتم أميين جهلاء ما عندكم التوراة ولا فيها كلام الله قد تعذرون، لكن أنت تقرأ الكتاب، وتجد فيه الأمر بالخير وتأمر الناس به ولا تفعله؛ اتباعاً لشهوتك وهواك أو منصبك ودخلك المالي.ونحن أيها المسلمون هل يليق بنا هذا؟!يا فلان! صل وأمر أولادك بالصلاة، وهو لا يصلي ولا يأمر أولاده بالصلاة.يا فلان! حرام عليك، عيب عليك تبيت والأغاني في بيتك والرقص، فتنهى المؤمن وأنت تبيت ترقص مع أهلك، كيف يكون ذلك؟!يا فلان! اعف لحيتك، لا تحلق. وهو حالق.يا فلان! التدخين لا يجوز وعيب، حرام، والسيجارة في جيبه.هل هذا يليق بنا؟! أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].
الترهيب من أمر الناس بالبر وإغفال النفس عن ذلك
وقد روى أحمد رحمه الله في مسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مررت ليلة أسري بي )، من أين أسري به؟ من مكة إلى القدس إلى السماء السابعة إلى سدرة المنتهى، وفي عروجه حدثنا عما لاقى، ولكن عند هبوطه مر بعالم الشقاء وسبحان الله العظيم! لما عرج به مر بالسماوات ومن فيها، ودخل دار السلام وانتهى إلى سدرة المنتهى، ورأى ما رأى، وتم ذلك اللقاء مع ربه العليم الحكيم، وكافحه بالكلام لكن بدون رؤية وجه الله؛ لأن الرسول لا يستطيع ذلك، وقد طلبها موسى فما استطاع، امتحنه الله بأن ينظر إلى جبل تجلى الله له، فإذا الجبل يتفتت، وأصبح كالرمل، وصعق موسى، فأبصارنا هذه غير قادرة، وأبصارنا الآتية في الخلق الثاني يوم القيامة تقدر، أما الآن الملائكة ما تستطيع أن تراهم حولك، والجن يطوفون بكم ولا تستطيعون رؤيتهم، فكيف ترى الله عز وجل؟! ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم: ( أرأيت ربك يا رسول الله؟ قال: نور أنى أراه؟ )، نور عظيم أنى أراه، ويقول: ( لو يزيل تعالى سبحات وجهه -تلك الأنوار- لاحترق ما انتهى إليه بصره )، فلهذا ثقوا واطمئنوا على أننا عاجزون، ومن ادعى أنه رأى الله عز وجل فهو كاذب، أما الرؤية المنامية فجائزة، فترى نفسك بين يدي الله يحدثك، ويأمر وينهى، لكن ما ترى الوجه الكريم، وإنما شعور أنك بين يدي الله، ولكن لا ترى ذاته المقدسة، المنزهة عن مشابهة الحوادث.والشاهد عندنا: أن تفهموا أنه لما عرج به وأسري به ما شاهد العالم الثاني، ولما رجع عائداً مر بعالم الشقاء أو عرض عليه فشاهد أحداثاً عجاباً، ومن ذلك قوله: ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار )، ورأى أيضاً النساء العواهر معلقات من ثُديهن، ورأى العجب، والأحاديث الصحاح هنا وهناك.( فرأيت رجالاً من أمتي تقرض شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ قال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون بالبر وينسون أنفسهم )، كما هي الآية: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44].نعم، وجد خطباء، فصحاء، بلغاء يأمرون بالبر على المنابر، ولا يأتونه خارج المنبر، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، والرؤيا حق، ( مررت ليلة أسري بي برجال من أمتي برجال تقطع شفاههم وألسنتهم بمقاريض من نار ) تقرض بمقاريض من نار ( فقلت: من هؤلاء يا جبريل؟ ) هو الدليل معه ( فقال: هؤلاء خطباء أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ).ومعنى هذا يا معاشر المستمعين والمستمعات! يا من يأمر بالبر! لا تنسَ نفسك إلا إذا عجزت وما قدرت، فـ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أما أنك تقدر على فعل هذا الخير وتتركه ناسياً نفسك، وتأمر به غيرك، فهذه مزلة ومعرة أيضاً، وصاحبها يستحق اللوم والعتاب، وهذا بلا خلاف بين أهل الإسلام، فإذا أمرت بخير كن السباق، وإذا نهيت عن منكر كن السباق أيضاً إلى تركه، فلا يليق بالمؤمن أبداً أن يأمر بمعروف وهو قادر على فعله ولا يفعله، ولا أن ينهى عن منكر .. عن باطل .. عن شر وهو قادر على تركه ويأتيه إيثاراً لشهوته أو أطماعه في الحياة.وهنا يروى عن ابن عباس -وهو كلام معقول-: إذا كان لا يأمر بالمعروف إلا من يأتيه، ولا ينهى عن المنكر إلا من تركه، فما بقي إذن من يأمر ولا من ينهى.لكن هنا لا تتخذ هذه رخصة، فاعلم أنك تأمر وتأتي بالمعروف والبر، لكن إن حدث مرة أنك ما فعلت لعجز قام بك فلا يمنعنك عدم عملك أن تأمر بالمعروف.مثلاً: جاءت جماعة تشكو الفقر، يريدون طعاماً أو شراباً، فقمت أنت تخطب الناس وتحثهم، فمن الجائز أنك لا تملك ريالاً واحداً، فلا تقل: ما دمت أنا لا أشارك في هذا المعروف فلا أتكلم.وقد تنهى عن منكر، وهذا المنكر في بيتك وعجزت عن مقاومته أو تغييره، فهل تقول: ما دمت أنا ما استطعت في بيتي فلا أنهى الناس عن المنكر؟ لا ينبغي، وهذا الموقف دقيق.إذاً: يوبخ ويلام، ويعتب عليه، بل يعذب بعذاب الله إن لم يرحمه الله، فالذي يعرف المعروف ويحث الناس على فعله وهو يتركه مع قدرته عليه، فما تركه إلا لشهوة أو هوى أو لدنيا، كذلك الذي ينهى عن منكر وهو يأتيه ومتلبس به وهو قادر على التخلي عنه والبعد منه، ولكن خضوعاً للشهوة واتباعاً للهوى فلا يتركه، فإن هذا يقرع ويلام ويعتب عليه، وقد يكون من هؤلاء الخطباء.وفي عرض آخر: ( فرأى النبي صلى الله عليه وسلم النار وفيها رجال تبقر بطونهم .. أمعاؤهم، هم الذين كانوا يأمرون الناس بالبر ولا يفعلون ). فلهذا هذه الآية ألصق بنا من اليهود: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ .
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|