وقال الطبري: "﴿ إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾ [الشعراء: 227]، يقول: إلا الذين صَدَقوا الله ووحَّدوه، وأقرُّوا له بالوحدانية والطاعة، وعَمِلوا الصالحاتِ، وأدَّوا ما لَزِمهم من فرائضِه، واجتَنَبوا ما نَهَاهم عنه من معاصيه، واستَثنَى الذين آمنوا من الإنسانِ؛ لأن الإنسانَ بمعنى الجمع، لا بمعنى الواحد"[11].
وقال الله - تعالى -: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان:43- 44].
إن أكثرَ مَن اتَّخذ إله هواه مطيعًا له في أمورِه متبعًا له، هم محجوبونَ عن استماعِ بيانات الحقِّ والخيرِ والهداية، وعن إدراكِ العظاتِ والعِبَر، وعن التفكُّر فيها وتعقُّلها، وهم أيضًا لا يستطيعون ضبطَ نفوسِهم عن اتِّباع أهوائها؛ بسبب أن حواسَّهم وعقولَهم مسخَّرةٌ لهذه الأهواءِ.
وإن الذين عطَّلوا أسماعَهم وأبصارَهم وعقولَهم عن إدراكِ الحقِّ، وعن النظرِ إلى المستقبلِ البعيدِ، بسبب كونِهم عبيدَ أهوائهم المرتبطةِ بزينةِ الدنيا - قد نَزَلوا عن إنسانيَّتهم التي خُلِقت في أحسنِ تقويمٍ، إلى مستوى المخلوقاتِ التي لا تَعرِف غيرَ شهواتِها ومطالبِ غرائزها، فهم كالأنعامِ ظاهرًا، وأضلُّ من الأنعام حقيقةً؛ لأن الأنعامَ تتصرَّف بغرائزِها على وَفْقِ فِطَرِها، بخلافِ هؤلاء الضالِّين؛ فإن اللهَ قد وَهَبهم ما جَعَلهم به في أحسن تقويم، فعطَّلوا ما وهبَهم الله، ولم يَستَعمِلوه فيما خُلِقوا من أجلِه، فكانوا بذلك أضلَّ من الأنعامِ سبيلاً[12].
إن الخروجَ عن عبوديةِ الله هو مصادمةٌ لنظامِ الكون وناموسِه؛ فالله هو خالقُ هذا الكونِ ومدبِّره والمتصرِّف فيه، وهو ربُّه وسيِّده وحاكمُه، والمخلوقاتُ جميعُها مربوبةٌ لله، والكلُّ عبيدٌ له - سبحانه -: إليه يَخضَعون، وتحت قهرِه وسلطانِه يَنْضَوون، ولأمرِه الكوني طوعًا أو كَرْهًا يُسلِمون؛ فهو القاهرُ فوق عبادِه، ولا حول ولا قوة إلا به، وإنما أمرُه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون.
قال الله - سبحانه -: ﴿ أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ ﴾ [آل عمران: 83].
وقال - عز وجل -: ﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [الرعد: 15].
وقال - عز وجل -: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ * وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ﴾ [النحل: 48، 49].
وقال - سبحانه -:﴿ وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ﴾ [الأنعام: 17، 18].
وقال - تعالى -: ﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [آل عمران: 26].
وكما لا يَسَعُ الناسَ الخروجُ عن أمر الله الكوني وربوبيتِه وسلطانِه؛ لأنهم معبَّدون خاضعون له، والكلُّ عبيدٌ للهِ وفقَ ذلك المفهومِ، فكذلك لا يَصِحُّ أن يخرجَ الإنسانُ عن العبوديةِ لله؛ لأنه بذلك يتمرَّد على طبيعتِه ووظيفتِه التي خُلِق من أجلها، والتي لا يَستَقِيم أمرُ الدنيا والآخرة له إلا بالقيام بها.
لذلك نجدُ أن خطابَ الشرعِ دائمًا ما يذكِّرُ الإنسانَ المتمرِّد على عبوديتِه لربه بأصلِ خلقتِه وحقارةِ منشئِه، وحقيقةِ ضعفِه وافتقاره لربه، وبالنعمِ التي يُسدِيها إليه، كما يذكِّره بمآلِه ومصيرِه في الآخرة التي لا نجاةَ له فيها إلا بقَدْرِ قيامِه بوظيفتِه التي خُلِق من أجلِها.
وتدبَّر في الآيات التاليةِ التي تتحدَّث عن الإنسان وتخاطبه بوصفه إنسانًا؛ ليتبينَ سقوطُ تكريمِ هذا الإنسان عند تمرُّده على طبيعتِه، ونسيانه أو تناسيه لأصله ومنشئه، ومآله ومرجعه، وحقيقة وجوده ووظيفته.
قال الله - تعالى -:﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ * الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ [الانفطار: 6 - 8].
وقال - عز وجل -: ﴿ فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ * إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ * يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ * فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ ﴾ [الطارق: 5 - 10].
وقال - سبحانه -: ﴿ أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى ﴾ [القيامة: 36 - 40].
وقال - عز وجل -: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴾ [الإنسان: 1، 2].
وقال - سبحانه -: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ ﴾ [عبس: 17 - 23].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 4].
وقال - سبحانه -: ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا *إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا ﴾ [الانشقاق: 6 - 15].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ * أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا *أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ * أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ ﴾ [البلد: 4 - 10].
وقال - سبحانه -: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ * وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ * أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ * وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ * إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ ﴾ [العاديات: 6- 11].
وقال - تبارك وتعالى -: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ * كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى * إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى ﴾ [العلق: 1 - 8].
إن هذا الفهمَ الصحيحَ لحقيقةِ الإنسان، وغايةِ وجودِه وحياته، ومآلِه ومصيرِه، كما قرَّرها الإسلام، وكما جاءت في كلِّ رسالات الرسل ودعواتِ الأنبياء - يَقُودُنا بالضرورةِ إلى حتميةِ رفضِ ما يُستَورَد من الغربِ من: نُظُمٍ، وقوانينَ، وعقائدَ، وفلسفات، ونظرياتٍ بشريةٍ قامت على أُسُسٍ منحرِفةٍ مصادِمة للدين، ومن ذلك:
أولاً: أن غالبَ تلك النظرياتِ قائمةٌ على التعاملِ مع الإنسان على أنه مجرَّد كائنٍ أرضيٍّ بحتٍ، لا يَرتَفِع بمشاعرِه وعواطفه عن عالم الأرض[13]، مُغفِلةً البعدَ الروحي والديني الذي فُطِر عليه كلُّ البشر، وبناءً على تلك الرؤية المعوجَّة قامت نظريات أمثال: "فرويد"، و"دارون"، و"كارل ماركس"، و"لينين"، و"فرانسيس بيكون"، و"تشالز بيرز"، و"جون ديوي"، و"سارتر"، وغيرهم من أرباب الفكر الغربيِّ، الذين وجدت نظرياتُهم رواجًا واسعًا في الغرب وصارت جزءًا من حضارتِهم وثقافتِهم يدورون في أُطُرِها، ويقدِّسون جوهرها، ويَنطَلِقون من أصولِها وقواعدِها، وإن اختلفوا في بعض التفاصيل والجزئيات [14].
ثانيًا: أن تلك النظرياتِ والنظمَ الغربيةَ لا تُعطِي للحياة الأخروية أيَّ اعتبارٍ في تقريرِ المصالح والمفاسد؛ وإنما تَسعَى في تحقيقِ ما تراه يحقِّق سعادةً دنيويةً مَحضَةً وفقَ منظورٍ بشري يَخُصُّ صاحبه، ومن ثَمَّ يَسعَى أولئك إلى تمهيدِ كلِّ السبل أمام الإنسانِ؛ لإشباعِ رغباته وغرائزه بلا قيودٍ دينية، مع العمل على تنظيمِ ذلك بما لا يَتعَارَض مع مصالحَ دنيويةٍ أخرى.
ولذلك نجد مثلاً أن تلك النظمَ مطبقةٌ على اعتبارِ العَلاقةِ الجنسية بين رجلٍ وامرأةٍ في غيرِ إطارِ الزواج عملاً غير مجرَّمٍ، يَسمَح به القانون في الجملة، إذا وُضِعت بعضُ الضوابط المنظِّمة له.
ثالثًا: أن هذه النظرياتِ والأنظمةَ تَغلُو في قيمة الإنسان، وتبالِغ في تقديسِه وتعظيمِ رغباته، وتؤكِّد على أنه سيِّد هذا الكون، وأنه صاحبُ العقلِ والتفكير الحرِّ، والحرية والإرادة المطلقة؛ فلا يحتاج لموجِّه أو مرشِد؛ بل هو قادرٌ على صناعةِ حياتِه كما يشاءُ، وعلى التشريعِ ووضعِ القوانينِ التي يراها، ومن حقِّه أن يعيشَ بالطريقة التي يهواها، بعيدًا عما تقرِّره الأحكام الربانية والشرائع الإلهية التي تنحصر - إن وُجِدت في معتقدِه - في النسكِ، والشعائر التعبدية المحضة فقط[15].
إنهم لا يَنظُرون للإنسانِ على أنه عبدٌ لله، وإنما يَخلَعون عليه بعضَ صفاتِ الإلهية ونعوتِ الربوبية تحت مسمَّيات برَّاقة: كالحرية، وحقوقِ الإنسان، والحضارة والتقدُّم، وهذه المسمِّيات في حقيقتِها تَحمِل بعضَ الحقِّ، لكنها تُخفِي وراء ذلك الحقِّ كفرًا وضلالاً تَسعَى لترويجه والتسويق له.
فمثلاً تلك الحريةُ التي بها يتشدَّوقون، ويَرفَعون عَقِيرتَهم، مُنَادِين بها ودَاعِين إليها كشعارٍ برَّاق يدجِّلون به على السفهاء - هي التي سوَّغوا بها الكفرَ والطعنَ في ذاتِ الله وكتبِه وأنبيائه تحت مسمَّى: "حرية الفكر"، وروَّجوا بها للانحلالِ الخُلُقي، والانحطاطِ الجنسي تحت مسمَّى: "الحرية الشخصية"، وهي التي يُحارِبون بها تطبيقَ شريعةِ الله، وتنفيذَ أحكامِه تحت مسمَّى: "الحرية السياسية".
إن الثورةَ الفَرَنسية خاصَّة[16]، والثورة الصناعية في أوربا عمومًا حين رَفَعت شعارَ "الحرية"، وحَارَبت من أجلِه، استطاعت أن تتحرَّر فعلاً من طغيانِ الكنيسةِ ورجالاتِها وسيطرةِ الملوك والإقطاع؛ فحقَّقت انتصارًا علميًّا، وتقنيًّا، وحضاريًّا ماديًّا لا يمكن إنكارُه، وهو الذي أَضفَى على كلمة "الحرية" بريقًا جذَّابًا خَدَع الكثيرين، وجَعَلهم يَغفُلُون في الوقتِ ذاته عن إدراكِ فشلِ تلك الثوراتِ في التخلُّص من عبوديةٍ هي أشدُّ من سابقتِها، وهي عبوديةُ الأهواءِ والشهوات والغرائز، وكيف قَادَهم الغلوُّ في الحرية - وتعظيمِ الرغباتِ الإنسانية عمومًا، والبهائمية منها خصوصًا - إلى السقوط المدوِّي على مستوى الدينِ والخلقِ والمبادئ والمُثُل.
إن ذلك التمرُّد على العبوديةِ لله - عز وجل - هو الذي أَفرَز لنا ذلك النموذجَ الحضاريَّ المشوَّه الأعرج، وهو الذي أدَّى إلى السقوط الغربي في ذلِّ الشهوات وعبوديةِ الغرائز وتأليهِ الأهواء؛ ليَهبِطَ بأولئك البشرِ إلى هُوَّة بَهِيميَّة ودَركَةٍ حيوانيةٍ يتخبَّطون فيها في ضلالٍ أشدَّ من ضلالِ الأنعام، يَفتِكُ بإنسانيتهم، ويُهِين كرامتَهم، ولا يخفِّف عنهم عارَ ذلك السقوطِ ما أَحرَزُوه من تقدُّمٍ على المستوى المادي؛ لأنهم إذ سَقَطوا في تلك الهُوَّة السحيقة فَقَدوا أخصَّ خصائص الإنسان وأهم أسباب كرامته.
وخلاصةُ الأمرِ: أن الإسلام في تفرُّده بمنهجِه الرباني الشامل الكامل هو الذي يحقِّق الكرامةَ والعزَّ للإنسانِ؛ بتعبيدِه لربه، وتخليصِه من كلِّ عبوديةٍ لما سواه، وهذا المنهجُ الرباني لا يمكن أن يَلتَقِي مع تلك الأنظمةِ التي تُخَالِفه في المنطلق والغاية، والمقاصد والوسائل، والشكل والموضوع، وأيُّ محاولةٍ للتوفيقِ بينه وبينها هي دربٌ من الخداعِ، أو القفزُ على الحقائقِ، أو طلبُ المحال.
قال الله - سبحانه -: ﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا ﴾ [الكهف: 54].
وقال - عز وجل -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا ﴾ [النساء: 28].
نسأل الله أن ينوِّر بصائرنا، وأن يهديَ قلوبنا، ويسدِّد ألسنتنا ويَسلُلَ سَخِيمةَ صدورِنا، وأن يُرِيَنا الحقَّ حقًّا ويرزقَنا اتِّباعه، وأن يُرِيَنا الباطلَ باطلاً ويَرزُقنا اجتنابَه، وأن يُعِينَنا على شكرِه وذكرِه وحسن عبادته، وأن يرزقَنا اتِّباع سنةَ رسوله - صلى الله عليه وسلم - علمًا وعملاً ظاهرًا وباطنًا.
وصلَّى الله وسلَّم وبارك على عبدِه ورسوله محمدٍ خيرِ الأنام، وعلى آلِه، وأزواجِه، وأصحابِه، ومَن تَبِعهم بإحسان.
[1] العبودية لابن تيمية، ص9.
[2] تفسير الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (17/56).
[3] أخرجه مسلم (5109).
[4] أخرجه البخاري (2673).
[5] فتح الباري في شرح صحيح البخاري (11/254).
[6] البداية والنهاية، لابن كثير، ( 5 / 107، 108).
[7] العبودية ص26.
[8] تفسير القرآن العظيم (3/85).
[9] الجمع لأحكام القرآن للقرطبي (10/294).
[10] تفسير القرآن العظيم (4/871).
[11] تفسير جامع البيان للطبري (30/372).
[12] تدبر سورة الفرقان في وحدة الموضوع، لعبد الرحمن حسن حبنكة الميداني ص206.
[13] انظر: الإنسان بين المادية والإسلام، ص19.
[14] راجع: مدارس علم النفس لفاخر عاقل، والتراث اليهودي الصهيوني في الفكر الفرويدي لصبري جرجس، والطبيعة الإنسانية والسلوك لجون ديوي، والموسوعة الفلسفية لفؤاد كامل.
[15] راجع: سقوط الحضارة لكولن ولسن، وعقائد المفكرين في القرن العشرين لعباس العقاد.
[16] كان شعار الثورة الفرنسية "حرية.. مساواة.. أخوة".