المطلب الثاني
الإسراف والتبذير والفرق بينهما
الإسراف لغة:
مصدر أسرَفَ يُسرِفُ، وهو مأخوذٌ من مادَّة (س ر ف) التي تدلُّ على تعدِّي الحدِّ والإغفال للشيء، تقول: في الأمر سَرَفٌ؛ أي: مجاوزة القدْر، وقال الراغب: السَّرَفُ تجاوُز الحدِّ في كلِّ فعلٍ يفعَلُه الإنسان، وإنْ كان ذلك في الإنفاق أشهر، ويُقال تارَةً اعتبارًا بالقدر (الكمية) وتارَةً اعتبارًا بالكيفيَّة؛ ولهذا قال سفيان بن عُيَيْنَةَ: ما أنفقت في غير طاعة الله سَرَفٌ وإنْ كان قليلاً، وقول الله تعالى: ï´؟قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْï´¾ [الزمر: 53]، الإسرافُ هنا يتناوَلُ المال وغيره، والإسراف في القتل: أنْ يَقتُل ولي الدم غيرَ القاتل أو يتعدَّاه إلى مَن هو أشرف منه حسبما كانت الجاهليَّة تفعَلُه، وقِيل: السَّرَفُ ضد القصد، والسَّرَفُ الإغفال والخطأ، والإسرافُ في النفقة: التبذير، وقيل: السرفُ الغفلةُ، وقيل: هو من الإسراف والتبذير في النَّفقة لغير حاجةٍ، أو في غير طاعة الله.
الإسراف اصطلاحًا:
قال الجرجاني: الإسرافُ: هو إنفاقُ المال الكثيرِ في العرض الخسيس، وقيل: هو تجاوُز الحدِّ في النَّفقة، وقيل: هو أنْ يَأكُل الرجل ما لا يحلُّ له أو يَأكُل ممَّا يحلُّ له فوق الاعتِدال ومِقدار الحاجة، وقيل: هو تجاوُزٌ في الكميَّة، فهو جهلٌ بمقادير الحقوق، وقال المناوي: الإسرافُ: هو الإبعاد في مجاوزة الحدِّ.
والإسراف كما يكون من الغنيِّ فإنَّه يكونُ من الفقير؛ ولهذا قال سفيان الثوري - رضِي الله عنه -: "ما أنفقت في غير طاعة الله فهو سَرَفٌ، وإنْ كان قليلاً".
وكذا قال ابن عباس - رضِي الله عنهما -: "مَن أنفَقَ دِرهمًا في غير حقِّه فهو سَرَفٌ".
مظاهر الإسراف وأنواعه:
قال الراغب: الإنفاقُ ضربان: ممدوحٌ ومذمومٌ، فالممدوح منه ما يكسب صاحبه العَدالة، وهو بذلُ ما أوجبت الشَّريعة بذله، كالصدقة المفروضة والإنفاق على العيال... إلخ، والمذموم ضربان: إفراطٌ وهو التبذير والإسراف، وتفريطٌ وهو التقتير والإمساك، وكلاهما يُراعَى فيه الكميَّة والكيفيَّة، فالأوَّل من جهة الكميَّة أنْ يُعطي أكثر ممَّا يحتَمِلُه حاله.
ومن جهة الكيفيَّة بأنْ يضعه في غير مَوْضِعِه، والاعتبار هنا بالكيفيَّة أكثر منه بالكميَّة، فرُبَّ مُنفِق درهمًا من أُلوفٍ وهو في إنفاقه مسرفٌ، وببذله مفسدٌ ظالم؛ كمَن أعطى فاجرةً درهمًا، أو اشترى خمرًا، ورُبَّ مُنفِق ألوفًا لا يملك غيرها هو فيها مقتصدٌ، وببذلها مجتهدٌ، كما رُوِي في شأن الصِّدِّيق أبي بكر - رضِي الله عنه - وقد قِيل لبعضهم: متى يكونُ بذلُ القليل إسرافًا والكثير اقتصادًا؟ قال: إذا كان بَذْلُ القليل في باطلٍ والكثير في حقٍّ.
أمَّا الثاني: وهو التقتير فهو من جهة الكميَّة أنْ ينفق دُون ما يحتَمِلَه حاله، ومن حيث الكيفيَّة، أنْ يمنع من حيث يجب، ويضع حيث لا يجب، وليس الإسراف متعلقًا بالمال وحدَه، بل في كلِّ شيءٍ وضع في غير مَوضِعِه اللائق به، ألا ترى أنَّ الله - تعالى - وصف قومِ لوطٍ بالإسراف لوَضْعِهم البذرَ في غير المحرث فقال: ï´؟إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَï´¾ [الأعراف: 81]، ووصف فرعون بقوله: ï´؟إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَï´¾ [الدخان: 31].
ومن أسباب الإسراف:
1- جهْل المسرف بتَعاليم الدِّين الذي يَنهَى عن الإسراف بشتَّى صُوَرِه، فعاقِبة المسرِف في الدُّنيا الحسرة والنَّدامة؛ ï´؟وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًاï´¾ [الإسراء: 29]، وفي الآخِرة العقاب الأليم والعَذاب الشديد؛ ï´؟وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ * وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ * لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ * إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ...ï´¾ [الواقعة: 41 - 45].
ومن نتيجة جهْل المسرف بتعاليم الدِّين مجاوزةُ الحدِّ في تناوُل المباحات، فإنَّ هذا من شأنه أنْ يُؤدِّي إلى السمنة وضَخامة البدن وسَيْطرة الشَّهوات، ومن ثَمَّ الكسل والتراخي؛ ممَّا يُؤدِّي به إلى الإسراف.
جاء عن عمر بن الخطاب - رضِي الله عنه - قوله: "إيَّاكم والبِطنة في الطعام والشراب، فإنها مُفسِدة للجسد، مُورثة للسقم، مُكسِلة عن الصَّلاة، وعليكم بالقَصْدِ فيهما، فإنَّه أصلح للجسَد، وأبعد من السَّرَفِ...".
2- النَّشأة الأولى: فقد يكون السبب في الإسراف إنما هو النشأة الأولى؛ أي: الحياة الأولى، ذلك أنَّ الفرد قد ينشأ في أسرةٍ حالها الإسراف والبذخ، فما يكونُ منه سِوَى الاقتداء والتأسِّي.
3- الغَفلة عن طبيعة الحياة الدُّنيا وقد يكونُ السبب في الإسراف إنما هو الغَفلة عن طبيعة الحياة الدُّنيا وما ينبغي أنْ تكون؛ ذلك أنَّ طبيعة الحياة الدنيا أنها لا تثبُت ولا تستقرُّ على حالٍ واحدة، والواجب يقتَضِي أنْ نضَع النِّعمة في مَوضِعها، وندَّخر ما يفيضُ عن حاجَتِنا الضروريَّة اليوم من مالٍ وصحَّة إلى وقتٍ آخَر.
4- السَّعة بعد الضِّيق أو اليُسر بعد العُسر؛ ذلك أنَّ كثيرًا من الناس قد يعيشون في ضيقٍ أو حِرمان، أو شدَّة أو عسر، فإذا هم صابرون مُحتَسِبون، وقد يحدُث أنْ تتبدَّل الأحوال فتكون السَّعة بعد الضِّيق، أو اليُسر بعد العُسر؛ وحينئذٍ يَصعُب على هذا الصنف من الناس التوسُّط أو الاعتدال فينقلب على النَّقيض تمامًا، فيكون الإسراف والتبذير.
5- صُحبة المسرفين: وقد يكون السبب في الإسراف إنما هي صُحبة المسرفين ومُخالَطتهم؛ ذلك أنَّ الإنسان غالبًا ما يتخلَّق بأخلاق صاحِبِه وخليلِه؛ إذ إنَّ المرء كما قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((على دِين خَلِيلِه، فلينظُر أحدُكم مَن يُخالِل)).
6- حبُّ الظهور والتباهي: وقد يكونُ الإسراف سببه حبَّ الشُّهرة والتباهي أمامَ الناس رياءً وسمعةً والتعالي عليهم، فيُظهِر لهم أنَّه سخيٌّ وجَوَادٌ، فيَنال ثَناءهم ومدحَهم؛ لذا ينفق أمواله في كلِّ حينٍ وبأيِّ حال، ولا يهمه أنَّه أضاع أمواله وارتكب ما حرَّم الله.
7- المحاكاة والتقليد: وقد يكونُ سبب الإسراف محاكاة الغير وتقليدهم حتى لا يوصف بالبخل؛ فيُنفق أمواله كيفما كان من غير تبصُّر أو نظَر في العاقبة التي سينتَهِي إليها.
وقد أشار أبو الحسن الماوردي - رحمه الله - إلى كثيرٍ من صُوَرِ الإسْراف والتبذير فقال:
"من التبذير أنْ يُنفق ماله فيما لا يُجدِي عليه نفعًا في دُنياه ولا يُكسبه أجرًا في أُخراه، بل يكسبه في دُنياه ذَمًا ويحمِل إلى آخِرته إثمًا كإنفاقه في المحرَّمات وشُرب الخمر وإتيان الفَواحش وإعطائه السُّفَهاء من المغنِّين والملهين والمساخر والمضحِكين، ومن التبذير أنْ يشغَل المال بفُضول الدور التي لا يحتاج إليها، وعَساه لا يسكنها أو يَبنِيها لأعْدائه ولِخَراب الدَّهر الذي هو قاتله وسالبه، ومن التبذير أنْ يجعل المال في الفُرُشِ الوثيرة والأواني الكثيرة الفضيَّة والذهبيَّة التي تقلُّ أيَّامه ولا تتَّسع للارتِفاق بها...".
ثم يقول: "وكلُّ ما أنفَقَه الإنسان ما يكسبه عند الله أجرًا ويرفع له إليه منزلة، أو يكسب عند العُقَلاء وأهل التمييز حمدًا فهو جُود وليس بتبذيرٍ وإنْ عظُم وكثُر، وكل ما أنفَقَه في معصية الله التي تكسبه عند الله إثمًا وعند العُقَلاء ذمًّا فهو تبذيرٌ وإنْ قلَّ...".
فإنفاقُ المال على الدُّخان والمخدِّرات والمسكرات من أعظم صُوَرِ الإسراف والتَّبذِير، وإنفاقُه في فُضول الطعام والشراب بل ورمي الطعام والشراب في القمامة من صُوَرِ الإسراف والتبذير، والعجيب أنَّ بعض الدُّوَلِ الإسلاميَّة تبلغ نسبة فَضلات الأطعمة الملقاة في القمامة فيها 45%، أليس هذا إسرافًا وتبذيرًا؟!
ثم إنَّ من صور الإسراف والتبذير مُتابَعة الموضة والانشغال بجنون الأزياء والاستجابة لضُغوط الحملات الإعلاميَّة الصاخبة التي تحملُ كثيرًا من مُتابِعيها على شراء ما لا يحتاجون.
من مَضارِّ الإسراف:
1- يجلب غضَب الرب؛ لأنَّه ينافي كمال الإيمان.
2- التشبُّه بالشيطان في الإفساد.
3- إضاعة المال والفقر في المال.
4- الندم والحسرة على ما ضاعَ من غير فائدة.
5- يطبع المجتمع بطابع الانحِلال والبعد عن الجدِّ والاجتهاد.
6- يدع المجتمع عالةً على غيره، عاجزًا عن القيام بمهامِّه.
التبذير لغة:
مصدر قولهم: بذر يبذر تبذيرًا، وهو مأخوذٌ من مادة (ب ذ ر) التي تدلُّ - فيما يقولُ ابن فارس - على معنى واحدٍ؛ هو نثر الشيء وتفريقه، يُقال: بذَرتُ البذرَ أبذره بذرًا إذا زرعته، وبذرت المال أبذره تبذيرًا، إذا فرَّقته إسرافًا، ويُقال: رجل تِبذارة للذي يبذر ماله ويفسده، ورجل بَذُور: يُذِيع الأسرار، وجمعه بُذُر، وهم القومُ لا يَكتُمون حديثًا، ولا يحفَظُون ألسنتهم.
وقال ابن منظور: يُقال: تفرَّق القوم شَذَرَ بَذَرَ، و شِذَرَ بِذَرَ؛ أي: في كلِّ وجه، وتفرَّقت إبله كذلك، وبذر ماله أفسده وأنفقه في السَّرَفِ، وكل ما فرَّقته وأفسدته فقد بذَّرته، يُقال: فيه بَذَّارة بتشديد الراء وتخفيفها؛ أي: تبذير، والمُباذِر والمبذِّر هو المُسرِف في النَّفَقة.
التبذير اصطلاحًا:
قال المناوي: التبذير: تفريقُ المال على وجْه الإسراف، وأصلُه إلقاءُ البذر وطرحُه، فاستُعِير لكلِّ مُضيِّع لماله، فتبذير البذر تفريقٌ في الظاهر لِمَن لا يعرفُ مَآل ما يلقيه، ونقَل القُرطبي عن الإمام الشافعيِّ قوله: التبذير: إنفاقُ المال في غير حقِّه، ولا تبذيرَ في عمل الخير، ورُوِي عن الإمام مالك قوله: التبذير: هو أَخْذُ المال من حَقِّهِ ووضعُه في غير حَقِّهِ.
من مضارِّ التبذير:
1- فيه طاعةٌ للشيطان ومعصيةٌ للرحمن.
2- يُباعد من الجنَّة ويُقرِّب من النار.
3- المبذِّر أخٌ للشيطان.
4- في التبذير رُجوعٌ إلى الجاهليَّة وعاداتها القبيحة، وفيه مُفاخَرةٌ ممقوتةٌ.
5- في التبذير إتلافٌ للمال، وتضييعٌ له.
6- التبذيرُ عند الموت لا يُعَدُّ من الصَّدَقَة المقبولة، وهو مردودٌ على صاحبه.
7- التبذير يُؤدِّي للفقر ويحتاجُ صاحبه - فيما بعدُ - إلى الذُّلِّ للخلق.
8- المبذِّر مُعرَّض للعين والحسَد والحِقد عليه.
9- في التبذير اتِّباعٌ للهَوى وبُعدٌ عن الحقِّ.
10- التبذير يُشعِر الإنسان بالمرارة، خاصَّةً إذا اقترب الأجَل.
الفرق بين التبذير والإسراف:
قال الكفوي: الإسراف: هو صرفٌ فيما ينبَغِي زائدًا على ما ينبَغِي، أمَّا التبذير فإنَّه صرفُ الشيءِ فيما لا ينبغي وأيضًا فإنَّ الإسراف تجاوزٌ في الكميَّة؛ إذ هو جهلٌ بمقادير الحقوق، والتبذيرُ تجاوزٌ في موضع الحق؛ إذ هو جهلٌ بمواقعها - أي: الحقوق - يُرشِد إلى هذا قول الله - سبحانه - في تعليل النَّهي عن الإسراف: ï´؟إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَï´¾ [الأنعام: 141]، وقوله - عزَّ وجلَّ - في تعليل النهي عن التبذير: ï´؟إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًاï´¾ [الإسراء: 27]، فإنَّ تعليل الثاني فوق الأوَّل.
لقد ذهَب بعضُ المفسِّرين إلى أنَّ الإسراف والتبذير قد يَرِدان بمعنى واحدٍ؛ ومن ثَمَّ فقَد يَرِدُ أحدُهما ويُراد به الآخَر، من ذلك ما ذكَرَه الماوردي من أنَّ التبذير هو الإسراف المُتلِفُ للمال، وروَى أشهب عن مالك أنَّ التبذير هو الإسراف.
وذكر القرطبي في تفسير قوله - تعالى -: ï´؟وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًاï´¾ [الإسراء: 26] قال: معناه: لا تسرف في الإنفاق في غير حقٍّ.
وقال ابن كثير في نفس الآية الكريمة: لَمَّا أمَر الله - عزَّ وجلَّ - بالإنفاق نهى عن الإسراف فيه.
والخلاصة: أنَّ بين الأمرين عُمومًا وخُصوصًا؛ إذ قد يجتمعان فيكون لهما المعنى نفسه أحيانًا وقد ينفردُ الأعمُّ وهو الإسراف.
المطلب الثالث
صور إضاعة المال
إنَّ تجاوُز الإنفاق الحدَّ المتعارف عليه في المباحات يُصبِح إسرافًا وإضاعةً للمال، وقد يكونُ مَكروهًا مذمومًا وقد يبلغ درجة الحرمة:
ومن إضاعة المال إهمالُ الممتلكات سواء الخاصَّة أو العامَّة والتفريط بها، وذلك بعدَم حِفظها أو مُراقَبتها أو بعدَم صِيانتها، فإنَّ تفريط الإنسان في إتْلاف المرافق العامَّة أو عدم المحافظة عليها تبذيرٌ وغِشٌّ للمسلمين، وإنَّ دفْع المال إلى السُّفَهاء الذين لا يُحسِنون التصرُّف فيه أيضًا من صُوَرِ إضاعة المال؛ كما قال - سبحانه وتعالى -: ï´؟وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًاï´¾ [النساء: 5].
فإذا ما نظَرْنا إلى حَياتنا الاجتماعيَّة الماليَّة فسنجدُ مُمارساتٍ غيرَ محمودةٍ وواقعًا غير مُرضٍ، فهناك عَبَثٌ من كثيرٍ من الناس بالأموال، سواء عند البِناء أو عند شِراء الأثاث، فتجدُ التكلُّف ظاهرًا في شَكلِه ومُحتواه، وقد تبلُغ تكاليف الديكورات والزَّخارف تكلفةَ العمران الأصلي.
وإذا ما انتقَلْنا إلى المأكل والمشرب نرى مَظاهِر التبذير والإسراف عند البعض؛ فشِراء بغير حُدود، ويُرمى من الأطعمة المتنوِّعة والنظيفة في براميل القمامة، وتكاليف المناسبات تخرُج عن الحدود المعقولة بغرَض المباهاة والمفاخَرة.
وفي شِراء السيارات: فمظاهر الإسراف تبدو من وجوهٍ عند الكثيرين؛ فقد تكون السيارة غاليةَ الثمن فيستَدِين لشرائها، ونجدُ من الشباب مَن لا يحسن استعمالها فيُدمِّرها قبل أنْ يُسدِّد أقساطها، فتكون الحوادث المروريَّة المهلكة التي تحصد الأرواحَ والممتلكات وتتسبَّب في كثيرٍ من حالات الإعاقة التي تُكلِّف المرء والدولة الكثيرَ.
ومن إضاعة المال أيضًا في هذا الجانب نجدُ مَن يُجدِّد سيارته كلَّ عام؛ فيشتريها بمبلغ باهظ ويبيعُها بنصف القيمة أو نحوه بعد سَنَةٍ من شِرائها، والبعض بلَغ به الأمرُ أنْ يقوم بشِراء سيارةٍ بالتقسيط وبيعها في زمنِ شِرائها ليُوفِّر تذاكر السفر وتكاليفه، ويتكبَّد هَمَّ الأقساط طِيلة الشُّهور المُقبِلة.
ولا شَكَّ أنَّ النفقة على باب التسلية والترفيهِ؛ سَواء في عالم التقنيات الحديثة، والرياضة، والسياحة في بلاد الغرب تستحوذُ على جُزءٍ كبيرٍ من ميزانيَّة الأفراد والأُسَر، وإنَّ كثيرًا من الأموال تُصرَف بلا وعيٍ ولا حِكمة؛ سَواء في شِراء السِّلَعِ المستوردة منهم أو في مجال استِثمار الأموال في بلدانهم ومُداومة السياحة لديهم، فتصبُّ هذه الأموال في جُيوب أعدائنا، فهم المستفيدون الحقيقيُّون من هذه الثروات، والمصيبة أنَّ إضاعة المال وتبذيرَه ليست مقصورةً على أهل الغِنَى والثَّراء، بل تشمَلُ شَرائح عديدة من المجتمع من مُتوسِّطي الحال أو ممَّن هم دُون ذلك، وإذا كان التبذير مَذمومًا حينما يَصدُر من الغنيِّ، فإنَّه يكونُ أكثر ذمًّا وبشاعة حينما يصدر من الفقير ومَن في حُكمه، فليتذكَّر كلُّ مَن أنعَمَ الله عليه بالغنى في المال أنَّ بلادهم بحاجةٍ شديدة الى هذا الفائض لتَسخِيره في العمران ونشر الخير والحقِّ والعِلم.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: شِراء الميتة والأصنام؛ ففي الحديث: ((قاتَل اللهُ اليهودَ؛ إنَّ الله لَمَّا حرَّم شُحومها أجملوه، ثم باعُوه، فأكَلُوا ثمنَه))، قال ابن بطَّال: أجمعت الأمَّة على أنَّه لا يجوزُ بيع الميتة والأصنام، لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضعُ الثمَن فيهما إضاعةُ المال، وقد نهى النبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - عن إضاعة المال.
الذين يُنفِقون الأموالَ في القمار، أو يُنفِقونه في الأسفار والسِّياحات التي هي في معصية الله أو لا مَنفَعة فيها.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: رميُ الطعام، وانظُروا لفائض الولائم والمناسبات ما يصنع به عند أكثَرِ الناس!
فينبغي على صاحب الطعام أنْ يُحافظ عليه؛ وذلك بأنْ يَأكُلَه في اليوم الآخَر، أو يُوزِّعه بين جِيرانه، أو يتصدَّق به على المحتاجين، أو يطعمه لبهيمةٍ، أو يُعطيه بعض الجمعيَّات الخيريَّة، وهم يَأخُذونه ويتصرَّفون به حسَب خِبرتهم ومعرفتهم.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: إهدارُ الطاقة الكهربائيَّة، فالمكيِّفات تعمل، والمنزل يُضاء، ولا يوجد أحدٌ في المنزل، أو يجلس أحدُهم في غرفة، والمكيف يعمل في الأخرى!
ومن صُوَرِ إضاعة المال: إهدار الثروة المائيَّة، فالماء أساسُ خلقِ الإنسان وحاجتُه له شديدةٌ، ومع هذا نرَى فيه إسرافًا شديدًا، فبعضُ الناس يتوضَّأ أو يَغسِلُ يديه فيضيع ماء كثيرًا جدًّا، وترى أحدهم قد مَدَّ خرطوم الماء ليغسل سيَّارته بالماء المعد للسِّقاية والذي قد لا يجدُه البعض، وكذلك النساء في البيوت فإنهنَّ لعدم دِرايتهنَّ الشرعيَّة يهدرن كميَّات كبيرةً من الماء في غسل الملابس والأطباق.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: شراءُ التحف والمحنَّطات التي ليس من ورائها فائدةٌ.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: الإسراف في الأعْراس، ومن ذلك: الكوشات التي تُهيَّأ ويُجعَل خَلفها الديكورات وأصناف الورود، والتي تتكلَّف الآلاف، والفساتين التي تُفصَّل بعشرات الآلاف لأجل ليلةٍ واحدة بل ساعات محدودة، وأنواع البوفيهات والأطعمة الشرقيَّة والغربيَّة والهنديَّة والصينيَّة، كلُّ ذلك في ليلةٍ واحدة، ثم يُرمَى الفائض، ولا حول ولا قوة إلا بالله!
ومن صور إضاعة المال: المبالغة في تزيين وتزويق بناء المساج؛ فقد نهى الشرع عن زَخرفتها؛ لأجل عدم صرف الناس عن الخشوع في الصلاة وإشغال المصلِّين، ولأجل عدم إضاعة المال.
قال ابن عباس: لتزخرفنها كما زَخرفت اليهود والنَّصارى.
وكان عُمر - رضي الله عنه - يَأمُر ببناء المساجد ويقول: أكنَّ الناس من المطر، وإيَّاك أنْ تُحمِّر أو تُصفِّر فتفتن الناس.
قال أنس: يتباهون بها ثم لا يعمرونها إلا قليلاً.
ومن صُوَرِ إضاعة المال: المبالغةُ في تشطيب البيوت وله صُوَرٌ عديدة، منها: المبالغة في وضع الديكورات، والمبالغة في الدهانات بصور وأشكال وألوان تُكلِّف آلافًا مُؤلَّفة للغُرفة الواحدة، فضلاً عن الشقَّة أو العمارة أو غيرها.
ومن صور إضاعة المال: المبالغة في أثاث المنزل حتى يصل إلى مئات الآلاف.
علاج الإسراف والتبذير:
إذا عرَف العبد أنَّ الإسراف والتبذير ممَّا نهى عنه الشَّرع الكريم، فأوَّل طريق العِلاج والوقاية أنْ يعلم العبد أنَّ تركَه لهذين الخصلتين عبادةٌ وقُربة لله - تعالى - ويمكن علاجُ الإسراف بعلاج أسبابه، وبالتربية الصالحة للأبناء نحصل على جيل مقتصد واعٍ، وبالحزْم مع النَّفس الأمَّارة بالسوء نقضي على آفة الإسراف، وحتى لا يمل المسلم فعليه أنْ يتتبَّع سُنَّة المصطفى - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحاله هو وأصحابه، وفي ذلك تنشيطٌ للنفس على مُواصَلة الطريق، ومن أجل عِلاج هذه الظاهرة يجبُ أنْ تتعاون الجهات المؤثِّرة في المجتمع في وضْع التدابير اللازمة لتَقلِيلها والحدِّ من انتشارها. من خِلال ما يلي:
1- زيادة الوعي الدِّيني والاجتماعي بضَرورة ترشيد الاستهلاك والإنفاق في كلِّ الأمور الحياتيَّة.
2- ضَرورة وجود نماذج قياديَّة يُقتَدى بها يتلقَّف الناس تصرُّفاتهم الحسنة كنماذج للسُّلوك السويِّ الصحيح.
3- زيادة عدد المشاريع الاقتصاديَّة الناجحة؛ لتدفع برُؤوس الأموال للخُروج إلى الأسواق وعدَم تكدس هذه الأرصدة لدى الناس؛ ممَّا يدفعهم لاستِخدامها في مظاهر عديدة للتَّرَفِ والبذَخ.