الأربعون القضائية (4)
أ. محمد خير رمضان يوسف
(16)
الاختلاف في الطريق
عن أبي هريرة قال:
قضَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا تَشاجروا في الطريقِ بسبعةِ أذرع.
صحيح البخاري (2341) واللفظُ له، صحيح مسلم (1613).
تشاجروا: تنازعوا.
قال الطبري: معناهُ أن يجعلَ قدرَ الطريقِ المشتركةِ سبعةَ أذرع، ثم يبقَى بعد ذلك لكلِّ واحدٍ من الشركاءِ في الأرضِ قدرُ ما ينتفعُ به ولا يضرُّ غيره.
والحكمةُ في جعلِها سبعةَ أذرعٍ لتسلكها الأحمالُ والأثقالُ دخولًا وخروجًا، ويَسَعُ ما لا بدَّ لهم من طرحهِ عند الأبواب.
ويلتحقُ بأهلِ البنيانِ مَن قعدَ للبيعِ في حافَّةِ الطريق، فإن كانت الطريقُ أزيدَ من سبعةِ أذرعٍ لم يمنعْ من القعودِ في الزائد، وإن كان أقلَّ مُنع؛ لئلا يضيِّقَ الطريقَ على غيره[1].
(17)
اليمين الفاجرة
عن عبدالله [بن مسعود] رضيَ الله عنه قال: قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
"مَن حَلَفَ على يمينٍ وهو فيها فاجر، ليقتطعَ بها مالَ امرئ ٍمسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان".
قال: فقالَ الأشعث: فيَّ واللهِ كان ذلك، كان بيني وبين رجلٍ من اليهودِ أرضٌ فجحدني، فقدَّمتهُ إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فقالَ لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: "ألكَ بيِّنة"؟
قلت: لا.
قال: فقالَ لليهوديّ: "احلِفْ".
قال: قلت: يا رسولَ الله، إذًا يحلفُ ويذهبُ بمالي!
فأنزلَ اللهُ تعالَى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [سورة آل عمران: 77].
صحيح البخاري (2285) واللفظُ له، صحيح مسلم (138).
فاجر: كاذب.
ليقتطع: ليَفصلَ قطعةً من مالهِ ويأخذها بتلك اليمين[2].
قال الإمامُ النووي: التقييدُ بكونهِ فاجرًا لا بدَّ منه، ومعناه: هو آثم، ولا يكونُ آثمًا إلا إذا كان متعمِّدًا، عالمـًا بأنه غيرُ محقّ.
وأما قولهُ صلَّى الله عليه وسلَّم: "لقيَ اللهَ تعالَى وهو عليه غضبان"، وفى الروايةِ الأخرى "وهو عنه مُعرض"، فقال العلماء: الإعراضُ والغضبُ والسخطُ من الله تعالَى هو إرادتهُ إبعادُ ذلك المغضوبِ عليه من رحمته، وتعذيبُه، وإنكارُ فعله، وذمُّه. والله أعلم[3].
(18)
لصاحب الحق مقال
عن أبي هريرة رضيَ الله عنه:
أن رجلًا تقاضَى رسولَ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأغلظَ له، فهمَّ أصحابُه، فقال:
"دَعوه، فإن لصاحبِ الحقِّ مَقالًا، واشتَرُوا له بعيرًا فأَعطُوهُ إيَّاه".
وقالوا: لا نجدُ إلا أفضلَ مِن سِنِّه.
قال: "اشتَرُوهُ فأَعطُوهُ إيَّاه، فإن خيرَكم أحسنُكم قضاءً".
رواهُ الشيخان: صحيح البخاري (2260) واللفظُ له، صحيح مسلم (1601).
"فإن لصاحبِ الحقِّ مَقالًا" أي: صولةَ الطلب، وقوةَ الحجَّة. لكنْ مع مراعاةِ الأدبِ المشروع.
قال الحافظُ ابنُ حجر:
وفي الحديثِ جوازُ المطالبةِ بالدَّينِ إذا حلَّ أجله.
وفيه حُسنُ خُلقِ النبيِّ صلَّى الله عليه و سلَّم، وعظمُ حِلمه، وتواضعه، وإنصافه.
وأن مَن عليه دَينٌ لا ينبغي له مجافاةُ صاحبِ الحقّ.
وأن مَن أساءَ الأدبَ على الإمامِ كان عليه التعزيرُ بما يقتضيهِ الحال، إلا أن يعفوَ صاحبُ الحقّ.
قال: وفيه جوازُ وفاءِ ما هو أفضلُ من المثلِ المقترَضِ إذا لم تقعْ شرطيةُ ذلك في العقد، فيَحرمُ حينئذٍ اتفاقًا، وبه قال الجمهور. وعن المالكيةِ تفصيلٌ في الزيادة: إن كانت بالعددِ مُنعت، وإن كانت بالوصفِ جازت.
وفيه أن الاقتراضَ في البرِّ والطاعة، وكذا الأمورِ المباحة، لا يُعاب.
وأن للإمامِ أن يقترضَ على بيتِ المالِ لحاجةِ بعضِ المحتاجين، ليوفيَ ذلك من مالِ الصدقات[4].
والمخاطَبُ هو أبو رافعٍ مولَى النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، كما في الروايةِ التالية.
(19)
سلف
عن أبي رافع:
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ استسلفَ من رجلٍ بَكْرًا، فقَدِمَتْ عليهِ إبلٌ من إبلِ الصدقة، فأمرَ أبا رافعٍ أن يَقضي الرجلُ بَكَرَهُ، فرجعَ إليهِ أبو رافعٍ فقال: لم أجدْ فيها إلا خَيَارًا رَبَاعِيًّا، فقال:"أَعطِهِ إيّاه، إنَّ خيارَ الناسِ أحسنُهم قضاء".
صحيح مسلم (1600).
البَكر: الصغيرُ من الإبل.
والخيَار: الجيِّد.
والرَّباعي: مَن ألقَى رَباعيته. وهي السنُّ بين الثنيَّةِ والناب. والجمع: رَباعيات.
هذه روايةٌ أخرى للحديثِ السابق، أو تتمةٌ وتوضيحٌ له، قالَ ابنُ حجر رحمَهُ الله: ويجمعُ بينه وبين الروايةِ التي في الباب، حيثُ قال فيها "اشتروا له" بأنه أمرَ بالشراءِ أولًا، ثم قدمتْ إبلُ الصدقةِ فأعطاهُ منها، أو أنه أمرَ بالشراءِ من إبلِ الصدقةِ ممن استحقَّ منها شيئا[5].
(20)
خصومة في دَين
عن كعب بنِ مالك:
أنه تقاضَى ابنَ أبي حَدْرَدٍ دَينًا كان لهُ عليه في المسجد، فارتفعتْ أصواتُهما حتى سمعَها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وهو في بيته، فخرجَ إليهما حتى كشفَ سِجْفَ حُجرتِه، فنادَى:
"يا كعبُ".
قال: لبَّيكَ يا رسولَ الله.
قال: "ضعْ مِن دَينِكَ هذا". فأومأ إليه، أي: الشَّطرَ.
قال: لقد فعلتُ يا رسولَ الله.
قال: "قمْ فاقضِه".
صحيح البخاري (445) واللفظُ له، صحيح مسلم (1558).
قيل: هذا أمرٌ على جهةِ الوجوب؛ لأن ربَّ الدَّينِ لـمّا طاوعَ بوضعِ الشطر، تعيَّنَ على المديونِ أن يعجِّلَ إليه دَينه؛ لئلّا يجمعَ على ربِّ المالِ بين الوضيعةِ والمطل[6].
[1] فتح الباري 5/ 119.
[2] تحفة الأحوذي 8/ 275.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 162.
[4] فتح الباري 5/ 57.
[5] فتح الباري 5/ 57.
[6] عون المعبود 9/ 374.