الأربعون القضائية (3)
أ. محمد خير رمضان يوسف
(11)
قضاء وافق حكم الله
عن أبي سعيد الخدري رضيَ الله عنه قال:
نزلَ أهلُ قُرَيظةَ على حُكمِ سعدِ بنِ معاذٍ، فأرسلَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إلى سعد، فأتَى على حمارٍ، فلمّا دنا من المسجدِ قالَ للأنصار: "قوموا إلى سيِّدِكم"، أو "خيرِكم".
فقال: "هؤلاءِ نَزَلوا على حُكمِك".
فقال: تَقتُلُ مُقاتِلتَهُم، وتَسْبي ذَراريَّهم.
قال: "قَضيتَ بحُكمِ الله". وربما قال: "بحُكمِ الْمَلِك".
صحيح البخاري (3895) واللفظُ له، صحيح مسلم (1768).
قولهُ صلَّى الله عليه وسلَّم: "قوموا إلى سيِّدكم" أو "خيركم": قال الإمامُ النووي: فيه إكرامُ أهلِ الفضل، وتلقِّيهم بالقيامِ لهم إذا أقبلوا. هكذا احتجَّ به جماهيرُ العلماءِ لاستحبابِ القيام.
قال القاضي [عياض]: وليس هذا من القيامِ المنهيِّ عنه، وإنما ذلك فيمن يقومون عليه وهو جالس، ويمثلون قيامًا طولَ جلوسه.
قلت: القيامُ للقادمِ من أهلِ الفضلِ مستحبّ، وقد جاءَ فيه أحاديث، ولم يصحَّ في النهي عنه شيءٌ صريح، وقد جمعتُ كلَّ ذلك مع كلامِ العلماءِ عليه في جزء، وأجبتُ فيه عمَّا تُوهِّمَ النهيُ عنه. والله أعلم.
قوله: وسبي ذريتهم: الذريةُ تطلقُ على النساءِ والصبيانِ معًا[1].
(12)
ردُّ مال
عن جابر رضيَ الله عنه:
أنَّ رجلًا أعتقَ عبدًا له، ليسَ له مالٌ غيرُه، فردَّهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، فابتاعَهُ منه نُعَيمُ بنُ النحّامِ.
صحيح البخاري (2284).
هذه روايةٌ مختصرةٌ للخبر، ويتوضَّح بما رواهُ مسلمٌ في صحيحهِ (997) مفصَّلًا، من روايةِ جابر أيضًا:
أعتقَ رجلٌ من بني عُذرةَ عبدًا له عن دُبُر، فبلغَ ذلك رسولَ الله ِصلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: "ألكَ مالٌ غيرُه"؟
فقال: لا.
فقال: "من يشتريهِ مني"؟
فاشتراه نُعَيمُ بنُ عبدِاللهِ العدَويُّ بثمانمائةِ درهم. فجاءَ بها رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فدفعها إليه، ثم قال: "ابدأْ بنفسِكَ فتصدَّقْ عليها، فإن فَضَلَ شيءٌ فلأهلِك، فإن فَضَلَ عن أهلِكَ شيءٌ فلذي قرابتِك، فإن فضَلَ عن ذي قرابتِكَ شيءٌ فهكذا وهكذا". يقول: فبين يدَيكَ وعن يمينِكَ وعن شِمالِك.
وقوله "عن دُبر" يعني العبدَ المدبر.
قال الإمامُ النووي في فوائدِ هذا الحديث: ومنها دلالةٌ ظاهرةٌ للشافعي وموافقيهِ في جوازِ بيعِ المدبر، وقال مالكٌ وأصحابه: لا يجوزُ بيعهُ إلا إذا كان على السيِّدِ دَين، فيُباعُ فيه. وهذا الحديثُ صريحٌ أو ظاهرٌ في الردِّ عليهم؛ لأن النبيَّ صلَّى الله عليه و سلَّمَ إنما باعَهُ ليُنفقَهُ سيِّدهُ على نفسه، والحديثُ صريحٌ أو ظاهرٌ في هذا[2].
(13)
الشفعة في الشركة التي لم تقسم
عن جابر قال:
قضَى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالشفعةِ في كلِّ شركةٍ لم تُقسَم، رَبْعةٍ أو حائط، لا يَحِلُّ لهُ أن يَبيعَ حتى يُؤذِنَ شريكَهُ، فإن شاءَ أَخذ، وإن شاءَ تَرك، فإذا باعَ ولم يُؤذِنْهُ فهو أحقُّ به.
صحيح مسلم (1608).
سمِّيتِ الشفعةُ شفعةً لضمِّ نصيبٍ إلى نصيب.
والربعة: الدارُ والمسكن، ومطلقُ الأرض.
وأجمعَ المسلمون على ثبوتِ الشفعةِ للشريكِ في العقارِ ما لم يُقسَم، قال العلماء: الحكمةُ في ثبوتِ الشفعةِ إزالةُالضررِ عن الشريك، وخُصَّتْ بالعقارِ لأنه أكثرُ الأنواعِ ضررًا. واتفقوا على أنه لا شفعةَ في الحيوانِ والثيابِ والأمتعةِ وسائرِ المنقول[3].
(14)
الشفعة أيضًا
عن جابر بنِ عبدالله رضيَ الله عنهما قال:
قضَى النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالشُّفعَةِ في كلِّ ما لم يُقسَمْ، فإذا وقعَتِ الحدودُ، وصُرِّفَتِ الطُّرق، فلا شُفعةَ.
صحيح البخاري (2138)، صحيح مسلم (1608)، واللفظُ للأول.
صُرِّفتِ الطرق: بُيِّنتْ مصارفُها وشوارعُها.
تضمَّنَ هذا الحديثُ ثبوتَ الشفعةِ في المشاع، وصدرهُ يُشعِرُ بثبوتها في المنقولات، وسياقهُ يُشعِرُ باختصاصها بالعقارِ وبما فيه العقار. وقد أخذَ بعمومها في كلِّ شيءٍ مالكٌ في رواية، وهو قولُ عطاء. وعن أحمد: تثبتُ في الحيواناتِ دون غيرها من المنقولات[4].
(15)
العمرى
عن جابر بنِ عبدالله:
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قضَى فيمن أُعْمِرَ عُمرَى: له ولعَقِبِه، فهي له بَتْلَةً، لا يجوزُ للمعطي فيها شرطٌ ولا ثُنْيَا.
هذا في صحيح مسلم (1625). ولفظهُ في صحيح البخاري (2482):
قضَى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ بالعُمرَى أنها لمن وُهِبَتْ له.
العُمرَى: قوله: أعمرتُكَ هذه الدار، أو جعلتُها لك عمركَ أو حياتك.
والعَقِب: أولادُ الإنسانِ ما تناسلوا.
بَتلَة: عطيَّةٌ ماضيةٌ غيرُ راجعةٍ إلى الواهب.
ثُنيا: استثناء.
قال الإمامُ النووي: العُمرَى هبةٌ صحيحةٌ ماضيةٌ يملكها الموهوبُ له ملكًا تامًّا، لا يعودُ إلى الواهبِ أبدًا، فإذا علموا ذلك، فمن شاءَ أعمرَ ودخلَ على بصيرة، ومن شاءَ ترك؛ لأنهم كانوا يتوهَّمون أنها كالعاريَّةِ ويُرجَعُ فيها[5].
وهناك اختلافاتٌ للفقهاءِ في العُمرَى تُنظَرُ في مظانِّها.
[1] باختصار من شرح النووي على صحيح مسلم 12/ 94.
[2] شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 83.
[3] شرح النووي على صحيح مسلم 11/ 45. وينظر شرح الحديث التالي.
[4] فتح الباري 4/ 436.
[5] شرح النووي على صحيح مسلم 11/ 70 - 72، حاشية السندي على سنن النسائي 6/ 276.