القائلون بالتناسب في القرآن الكريم والآخذون به
محمود حسن عمر
1- أبو جعفر الطبري ت 310هـ في تفسيره (جامع البيان عن تأويل آي القرآن)، فقد تحدث عن المناسبة في مواطن كثيرة من تفسيره، وانتصر لها، وإن لم يُصرح بلفظ التناسب، وأغلب كلامه في المناسبة بين الآيات فحسب، أو بين الآيات وواقع الدعوة، وربما دمَج تفسير آيتين؛ ليُبرز العلاقةَ بينهما، والكلامَ المقدرَ المحذوف الذي تُرِك لدلالة ما ظهَر من الكلام عليه وَفْق تعبيره[1].
2- القاضي عبد القاهر الجرجاني ت 471 هـ: صاحب نظرية النظم الذي هو بحسب تعبيره: "تعليق الكلم بعضها ببعض، وجعل بعضها بسبب من بعض"[2]، وعنده أن المعاني تترتب في النفس أولاً وتَتبعها الألفاظ مُرتبة على حسب ترتيب المعاني.
يقول عبد القاهر أيضًا: "وأنك إذا فرَغت من ترتيب المعاني في نفسك، لم تحتج إلى أن تستأنف فكرًا في ترتيب الألفاظ، بل تجدها تترتَّب لك بحكم أنها خَدَمٌ للمعاني، وتابعة لها، ولاحقة بها، وأن العلم بمواقع المعاني في النفس، علم بمواقع الألفاظ الدالة عليها في النطق"[3].
ولعل هذا يوضِّح أن النظم هو الإعجاز الحقيقي للقرآن عند عبد القاهر.
يقول الدكتور طه جابر العلواني: "ومع أن الجرجاني لم ينص على مفهوم التناسب والوحدة البنائية في القرآن الكريم، فإن جهوده في بناء نظرية النظم قد أسَّست لها، وشقَّت الطريق إليها؛ من حيث إن الترتيب هو الأساس في النظم، كما أنه السر في التناسب، والجرجاني نظريًّا يُقرر أن ترتيب الآيات والسور والأعشار، هو على أكمل وجوه الاتساق والنظام والإتقان والالتئام والإحكام، لكنه في التقعيد والتطبيق ركَّز على الترتيب في الجملة والآية، ولم يتجاوز إلى وحدة السورة أو التناسب بين السور، أو الوحدة في القرآن كله"[4].
3- الزمخشري ت 538هـ: طبَّق الزمخشري في كشَّافه نظرية الجرجاني في النظم، وهو منذ البداية يؤكد في مقدمته: "الحمد لله الذي أنزل القرآن كلامًا مُؤلفًا منظمًا، ونزله بحسب المصالح مُنجمًا، وجعله بالتحميد مُفتتحًا، وبالاستعاذة مُختتمًا"[5].
يقول الدكتور طارق مصطفى: "صرَّح الزمخشري بنظم الكلم القرآني، ولفت في حديثه عن افتتاح القرآن واختتامه إلى كون القرآن وحدة واحدة، وألمح - وهو يُميز بين الإنزال والتنزيل - إلى أن الترتيب توقيفي، وهو ما أكده في تفسير سورة القدر؛ فالقرآن - بحسب ما يُفهم من كلام الزمخشري في المقدمة، حين أُنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا - كان مؤلفًا منظمًا، ثم تنزَّل مُفرَّقًا على النبي صلى الله عليه وسلم، لكن جمعه في المصاحف كان وَفقًا للترتيب الأول"[6].
والناظر في الكشاف يجد الزمخشري يؤكد وحدة النص القرآني وتماسُكه، فيصف نظم القرآن الرصين بالبناء المحكم المرصف، وذلك في تفسير الآية الأولى من سورة هود: ﴿ الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود: 1]، قال: "أُحكمت آياته: نُظِمت نظمًا رصينًا مُحكمًا، لا يقع فيه نَقْضٌ ولا خَللٌ؛ كالبناء المُحكم المُرصف"[7].
وهذا إن دلَّ على شيء، فإنما يدل على أن الزمخشري أفضل مَن قرأ فكر عبد القاهر البلاغي.
4- القاضي أبو بكر بن العربي ت 543هـ: وهو من الذين انتصروا للمناسبة، وقد نقل عنه الزركشي في البرهان قوله: "ارتباط آي القرآن بعضها ببعض، حتى تكون كالكلمة الواحدة؛ متسقة المعاني، منتظمة المعاني، علم عظيم، لم يتعرض له إلا عالم واحد عمل فيه بسورة البقرة، ثم فتح الله عز وجل لنا فيه، فلمَّا لم نَجد له حَمَلةً، ورأينا الخلق فيه بأوصاف البَطَلة، ختمنا عليه، وجعلناه بيننا وبين الله، ورَددناه إليه"[8].
5- أبو جعفر بن الزبير ت 708هـ في كتابَيه:" البرهان في تناسب سور القرآن"، و"مِلاك التأويل"، وقد كان هذا الرجل من أشد المنتصرين للمناسبة ووجودها في القرآن، وقد حدَّد الدكتور طارق مصطفى موضوعات كتابيه، فقال: "فأما البرهان فقد خصَّصه لموضوعات السور والارتباط فيما بينها، وقد نقل البقاعي أغلبه في تفسيره مُصرِّحًا بنسبة كلامه إليه، كما نقل عنه غير واحد من تلاميذه؛ كصاحب البحر المحيط - أبي حيان - وصاحب التسهيل - ابن مالك - والأول تابَع أستاذَه واقتفى أثره في الاهتمام والالتفات إلى موضوع التناسب، وأما (ملاك التأويل)، فإنه قد خصَّصه لتفسير الآيات المتشابهات؛ حيث كان كثيرًا ما يذكر أن السبب هو الارتباط بالآية السابقة والسياق، كما يلفت إلى المناسبة مع موضوع السورة، وما يتكرَّر فيها من الألفاظ والصِّيَغ والمعاني التي تُميز كل سورة عما سواها"[9].
6- بدر الدين الزركشي ت 794هـ: وقد تحدث في كتابه البرهان في علوم القرآن عن التناسب باعتباره واحدًا من علوم القرآن، فعرَّفه وذكَر روَّاده، وأبرز المشتغلين به إلى زمانه، وردودهم على المعترضين، ثم أفاض في الحديث عن وجوه التناسب.
7- برهان الدين البقاعي ت 885هـ: وله التفسير المسمى: (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور)، وله أيضًا: (مصاعد النظر في الإشراف على مقاصد السور)؛ حيث كان دأب البقاعي في نظم الدرر أن يُورد في بداية كل سورة مقصودها من خلال اسمها الدال على هذا المقصود حسب رأيه، ولا يكتفي بذلك، وإنما يتحدث عن كل أوجه التناسب؛ داخل الآية، وبين الآيتين، وفيما بين مقاطع السورة، والتناسب بين ختام السورة وبدايتها فيما يُسميه: "رد المقطع على المطلع" بالنسبة للسورة، ثم بين السورة وجارتها، بل ويتحدث عن "رد المقطع على المطلع" بالنسبة للقرآن؛ أي: المناسبة بين السور التي في آخر المصحف ونظيراتها في أوله، باعتبار القرآن جميعِه وَحدةً واحدة[10].
يقول الدكتور طارق مصطفى: "ولعل جهد البقاعي في نظم الدرر هو الأجمع والأشمل والأكثر تفصيلًا، والأفضل من كل سابقيه وأغلب الذين جاؤوا من بعده؛ فإنه قد جعل المناسبة من جميع جوانبها غايته من الكتاب الذي حوى كنوزًا من هذا الفن، ولا عبرة بما يقال أحيانًا عن تكلُّفه فيه، فبعضه من كلام الأقران، أو الذين لا يقدرون هذا العلم حق قدره، ثم هل يتوقع من البقاعي وقد أخذ على عاتقه استقصاء وجوه التناسب في القرآن كله - أن يهتدي إلى الأصوب في كل موضع؟ وبحسب البقاعي أنه قد التفت إلى بعض أوجه التناسب التي لم يُسبق إليها؛ كدلالة اسم السورة على مقصودها، أو رد المقطع على المطلع فيما يتعلق بالتناسب بين السور التي في آخر المصحف ونظيراتها في آخره، وهذه الثانية لم يتابعه فيها أحد من المتأخرين، بحسب علم الباحث"[11].
8- السيوطي ت 911هـ: انتصر السيوطي لوجود المناسبة في القرآن، وقد ألَّف كتبًا كثيرة جاءت المناسبة جزءًا منها؛ مثل: (الإتقان)، و(معترك الأقران)، وقد نقل فيهما أغلب كلام الزركشي في (البرهان)، وألَّف أيضًا كُتبًا قصَرها على المناسبة؛ مثل: (تناسق الدرر في تناسب السور)، وقد ذكر السيوطي في مقدمته أن هذا الكتاب هو جزء من كتاب له كبير في موضوع التناسب، واسمه (أسرار التنزيل)، وله: (قطف الأزهار في كشف الأسرار)، و(مراصد المطالع في تناسب المقاطع والمطالع).
[1] ينظر: جامع البيان؛ للطبري، ج 3، ص 458، ودلالة السياق؛ للدكتور عبد الوهاب أبو صفية، ص 86.
[2] دلائل الإعجاز؛ لعبد القاهر، ص 4.
[3] السابق، ص 54.
[4] مقدمة كتاب: الوحدة البنائية للقرآن المجيد؛ للدكتور طه جابر العلواني، ص 3.
[5] الكشاف؛ للزمخشري، ج 1، ص 6.
[6] التناسب في سورة البقرة؛ للدكتور طارق مصطفى محمد، ص 18.
[7] الكشاف؛ للزمخشري، ج4، ص 771.
[8] البرهان؛ للزركشي، ج1، ص 62.
[9] التناسب في سورة البقرة؛ للدكتور طارق مصطفى محمد، ص 20.
[10] التناسب القرآني عند البقاعي؛ للدكتور مشهور موسى، ص 57 وما بعدها.
[11] التناسب في سورة البقرة؛ للدكتور طارق مصطفى، ص 21 وما بعدها.