
19-07-2020, 03:46 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,710
الدولة :
|
|
التوصيف الفقهي للمعاوضة على تحصيل الديون
التوصيف الفقهي للمعاوضة على تحصيل الديون 1/ 2
د. عبد الله بن عبد الرحمن السلطان
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فقد ازدهرت في الآونة الأخيرة أعمال المعاوضة على تحصيل الديون المستحقة والمتأخرة في ذمة المدينين لصالح الدائنين، وتخصص في ذلك العمل أفراد وشركات، حيث يتولى المحصل أعباء ومسؤوليات تحصيل الديون مقابل عوض مقطوع أو مقابل نسبة شائعة من المبلغ المحصَّل، مما يعود بالنفع على الدائن بتحصيل دينه بأسرع وقت، وأقل تكاليف، وقد تناول الفقهاء -رحمهم الله تعالى- حكم هذا التصرف في مسائل معدودة متناثرة في أبواب فقهية متفرقة، ورأيت أن من المفيد جمع تلك المسائل في بحث مستقل، وقد أسميته بـ التوصيف الفقهي للمعاوضة على تحصيل الديون.
أولاً: التمهيد
وفيه خمس مسائل:
المسألة الأولى: تعريف التوصيف الفقهي:
التوصيف لغة: مصدر للفعل المضعف: وَصَّف يوصِّف تَوْصِيْفاً، وأصله: وَصَفَ وَصْفاً وَصِفَةً(1). ويأتي لعدة معاني من أبرزها:
1 – نعت الشيء، وحليته، قال الليث: الوصف: وصفك الشيء بحليته ونعته.
2 – تعيين الشيء باسمه ومقداره، يقال: وصف الطبيب الدواء.
3 – حكاية الشيء، يقال: وصف الخبر أي حكاه.
4 – إظهار حالة الشيء وهيئته، يقال: وصف الثوبُ الجسم(2).
قال ابن فارس: "الواو والصاد والفاء أصل واحد هو تحلية الشيء وصفته وصفاً، والصفة: الأمارة اللازمة للشيء..."(3).
ثانياً: تعريف التوصيف الفقهي:
يعد هذا المصطلح من المصطلحات الحادثة التي لم يستعملها الفقهاء السابقون في كتبهم ومدوناتهم، بل قصروا استعماله على معناه اللغوي، فإذا أضيف التوصيف إلى الفقه كان المقصود به: نعته فقهاً، ولم أجد لأحد من الفقهاء السابقين من استعمل هذا المصطلح بالمعنى الذي استعمله الفقهاء المعاصرون، ومن هؤلاء الدكتور عبد الله السلمي حيث عرفه في معرض تعريفه للتوصيف الفقهي لعقد التصريف بقوله: "بيان موقعه من العقود، وهل هو عقد جديد من العقود غير المسماة؟ أم هو داخل ضمن العقود المسماة التي ذكرها الفقهاء المتقدمون رحمهم الله"(4).
الألفاظ ذات الصلة:
1 – التكييف: التكييف مصدر الفعل المضعف كَيَّف، وأصلها "كَيْف" التي تستعمل لعدة معان، منها: الاستفهام عن حال الشيء وصِفَتِه، وللتعجب، والتوبيخ، والإنكار. وكيفية الشيء: حاله وصِفَته(5).
ويرى بعض أئمة اللغة أن لفظة التكييف مولدة لا سماع فيها عن العرب، قال ابن دريد: "كيف: كلمة يستفهم بها، فأما قولهم: هذا شيء لا يكيف: فكلام مولد. هكذا يقول الأصمعي"(6).
ثانياً: تعريف التكييف الفقهي للعقد:
ليس لمصطلح التكييف معنى اصطلاحي خاص به عند الفقهاء السابقين غير معناه اللغوي، وعلى ذلك فإن هذا المصطلح من المصطلحات الحادثة التي غلب استعمالها لدى الفقهاء المعاصرين(7)، ولعل من أبرز تعاريفه أنه تحرير المسألة، وبيان انتمائها إلى أصل معين معتبر(8).
المسألة الثانية: تعريف المعاوضة.
أولاً: المعاوضة في اللغة: مصدر عاوضه يعاوضه معاوضة، أي أعطاه العوض، والعوض هو البدل، والخلف للشيء، أو ما يبذل في مقابلة الشيء، وجمعه أعواض(9).
وفي الاصطلاح الفقهي: مبادلة بين عوضين أحدهما أو كلاهما مال.
شرح التعريف:
مبادلة عوضين: أخرج التبرعات التي يكون العوض من جانب واحد.
أحدهما أو كلاهما مال: يدخل المعاوضة المحضة التي يقصد بها المال من الجانبين، كالبيع والإجارة، والمعاوضة غير المحضة التي يكون المال فيها مقصوداً من جانب واحد، كالنكاح، المهر عوضه البضع، وهو ليس مالاً(10).
المسألة الثالثة: تعريف التحصيل.
أولاً: في اللغة: قال ابن فارس: "الحاء والصاد واللام أصل واحد منقاس، وهو جمع الشيء، ولذلك سميت حوصلة الطائر؛ لأنه يجمع فيها. ويقال: حصلت الشيء تحصيلاً. وزعم ناس من أهل اللغة أن أصل التحصيل استخراج الذهب أو الفضة من الحجر أو من تراب المعدن، ويقال لفاعله المحصل"(11).
والتَّحْصِيلُ: هو تَمْييزُ ما يَحْصُل، وقيل: الإظهار والإخراج، كإظهار اللب من القشر، وإخراج الذَّهب مِن حَجَر المَعْدِن، والبُرِّ مِن التِّبْن، وإظهار الحاصل من الحساب، ومنه قوله تعالى: {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} أي أُظْهر ما فيها وجُمِع(12).
ثانياً: في الاصطلاح: لا يخرج معنى التحصيل في الاصطلاح الفقهي عن المعنى اللغوي، فتحصيل الديون هو جمعها من المدينين، جاء في الفروق "وكذلك التلوم للخصوم في تحصيل الديون للغرماء(13)"(14).
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام "فإذا كان في المضاربة ربح ولو كان قليلاً فالمضارب مجبور على تحصيل تلك الديون؛ لأن المضارب في هذه الصورة أجير يعمل الأجرة، وحصته في الربح هي كالأجرة، وتحصيل الديون من تكميل العمل"(15).
وقد اقتصرت على لفظ التحصيل لأنه اللفظ الشائع بين أوساط الناس، وإن كان الفقهاء يستعملونه على قلة، ويفضلون لفظ الاقتضاء، أو التقاضي، أو الاستيفاء، أو القبض(16).
المسألة الرابعة: تعريف الديون.
أولاً: في اللغة: الديون جمع دين، والدائن من له الدين، والمَدين والمَدْيون من عليه، وللدين في اللغة عدة معانٍ منها: الانقياد، والذل، ومنه قيل للأَمَة مدينة، والقرض(17).
ثانياً: تعريف الدين في الاصطلاح: يستعمل الفقهاء الدين في معنيين: عام، وخاص: فالمعنى العام: هو كل ما يثبت في الذمة، سواء كان مالاً، كثمن مبيع، أو غير مال، كصلاة لم تؤد في وقتها.
والمعنى الخاص: هو ما يثبت في الذمة من مالٍ بسبب يقتضي ثبوته(18).
المسألة الخامسة: مشروعية المعاوضة على تحصيل الديون:
اتفق جمهور الفقهاء من الحنفية(19)، والمالكية(20)، والشافعية(21)، والحنابلة(22) على مشروعية المعاوضة على تحصيل الديون في الجملة، ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يبعث عماله لقبض الصدقات ويجعل لهم عمالة، فعن عبد المطلب بن ربيعة بن الحارث قال اجتمع ربيعة بن الحارث والعباس بن عبد المطلب فقالا: والله لو بعثنا هذين الغلامين – يعني عبد المطلب بن ربيعة، والفضل بن العباس رضي الله عنهما – قالا لي وللفضل بن عباس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فأمرهما على هذه الصدقات فأديا ما يؤدي الناس وأصابا مما يصيب الناس... وفيه "ثم تكلم أحدنا فقال: يا رسول الله، أنت أبر الناس وأوصل الناس وقد بلغنا النكاح فجئنا لتؤمرنا على بعض هذه الصدقات فنؤدي إليك كما يؤدي الناس ونصيب كما يصيبون... الحديث"(23).
ووجه الاستشهاد من الحديث قول الفضل بن العباس – رضي الله عنهما – "فنؤدي إليك كما يؤدي الناس، ونصيب كما يصيبون" وفيه دلالة واضحة على بعث النبي صلى الله عليه وسلم عُمَّاله لقبض الصدقات وتحصيلها وهي ديون لله تعالى، وكان صلى الله عليه وسلم يجعل له عُمالة، وهو المال المأخوذ على العمل(24).
الفصل الأول: التوصيف الفقهي لصور تحصيل الديون
توطئة:
عند التتبع لصور المعاوضة على تحصيل الديون الشائعة نجد أنها لا تخرج عن إحدى صورتين:
الصورة الأولى: أن يكون عوض التحصيل مبلغاً مقطوعاً:
وهذه الصورة تتنوع إلى ثلاثة أنواع تبعاً لكيفية تقدير المنفعة وهو التحصيل:
النوع الأول: التحصيل المقدر بالزمن، أي أنه مقدر بزمن ينتهي فيه، وبانتهاء المدة ينتهي عقد التحصيل، ويستحق المحصل العوض المتفق عليه بغض النظر عما تم إنجازه وتحصيله من ديون.
النوع الثاني: التحصيل المقدر بالعمل، أي أنه غير مقدر بزمن معين، وإنما مقدر بإنجاز وتحصيل المحصل للديون المتفق عليها، وبتحصيل المحصل للدين ينتهي عقد التحصيل، ويستحق المحصل العوض المقطوع المتفق عليه.
النوع الثالث: التحصيل المقدر بالزمن والعمل معاً، وهو جمع بين النوع الأول والثاني، بأن يكون القصد هو تحصيل الديون في زمن محدد.
الصورة الثانية: أن يكون عوض التحصيل نسبة شائعة من الدين الذي يتم تحصيله. وسوف نتناول كلاً منهما تباعاً في المبحث الأول والثاني.
المبحث الأول: التوصيف الفقهي للمعاوضة على التحصيل إن جعل العوض مبلغاً مقطوعاً:
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: التوصيف الفقهي للمعاوضة على التحصيل المقدر بالزمن.
صورة المسألة: أن يتعاقد المصرف مع شخص على تحصيل ديون له مقابل عوض شهري قدره ألف ريال لمدة سنة كاملة.
ويمكن توصيف هذه الصورة على أنها من باب عقد الإجارة أو الجعالة، وبيان ذلك في ثلاثة فروع:
الفرع الأول: وجه توصيفها على أنها عقد إجارة(25).
توصف هذه الصورة على أنها عقد إجارة، لعدة أمور:
1 – أن عقد تحصيل الديون، وعقد إجارة الأعمال عقدا معاوضة، محلهما القيام بالعمل، معلوم بالزمن، مقابل بعوض معلوم.
وقد عرف الحنفية الإجارة بأنها "بيع منفعة معلومة بأجر معلوم"(26)، وعرفها المالكية بقولهم: هي تمليك منافع شيء مباحة مدة معلومة بعوض(27).
وعرفها الشافعية بقولهم: هي عقد على منفعة مباحة مقصودة معلومة، قابلة للبذل والإباحة، بعوض معلوم(28).
وعرفها الحنابلة بقولهم: هي عقد على منفعة مباحة معلومة، في مدة معلومة، من عين معينة، أو موصوفة في الذمة، أو على عمل شيء معلوم بعوض معلوم(29).
وتحصيل الديون في هذه الصورة: عقد على عمل شيء معلوم، في مدة معلومة، بعوض معلوم، وهذا ما ينطبق على عقد الإجارة.
كما أن المحصل والأجير يشتركان في بذلهما للعمل، وغايتهما الحصول على عوض عملهما.
2 – أنهما عقدان مؤقتان، غير مؤبدين، إما بمدة وإما بعمل معين أو بهما جميعاً(30).
وبما أن تحصيل الديون بمبلغ مقطوع في مدة زمنية يمكن توصيفه على عقد الإجارة، فإن المحصل في هذه الحالة يأخذ حكم الأجير الخاص، وهو من قدر نفعه بالزمن، كاستئجار رجل للعمل في بناء أو خياطة أو رعاية يوماً أو شهراً، وسمي خاصّاً لاختصاص المستأجر بنفعه في تلك المدة دون سائر الناس، وقد يسمى بالأجير المنفرد؛ لانفراد المستأجر بمنفعته في المدة(31).
ووجه إلحاق هذه الصورة من عقد تحصيل الديون بعقد إجارة الأجير الخاص للأسباب التالية:
1 – أنهما عقدان مؤقتان بمدة، لا بعمل، جاء في بدائع الصنائع "العَقْد على المُدة يقتضي وجوب الأجر من غير عمل؛ لأنه يكون أجيراً خالصاً".
2 – المعقود عليه في العقدين هو منفعة العامل(32).
3 – أن منافع – عمل – الأجير الخاص والمحصل صارتا مستحقتين لمن استأجرهما في مدة العقد التي تم التعاقد عليها(33).
4 – أن منفعة – عمل – الأجير الخاص والمحصل مضمونتان بتسليم كل منهم نفسه في مدة العقد، وإن لم يعملا بشرط ألا يمتنعا عما يطلب منها من عمل، فإن امتنعا بغير حق فلا يستحقان الأجر بغير خلاف(34)، وسواء تم تحصيل جميع الدين أو بعضه أو لم يتم تحصيل شيء.
الفرع الثاني: توصيفها على أنها جعالة(35).
يمكن توصيف هذه الصورة أيضاً على أنها جعالة بناء على ما ذكره الفقهاء في حكم الجمع بين المدة والعمل في عقد الجعالة، وقد اختلفوا في ذلك على قولين:
القول الأول: جواز الجمع بين المدة والعمل في عقد الجعالة، وهذا قول الحنابلة في الصحيح عندهم(36).
جاء في الإنصاف "ويجوز في الجعالة الجمع بين تقدير المدة والعمل على الصحيح من المذهب"(37).
وجاء في شرح المنتهى "فيصح مجهولا... أو لمن يعمل له مدة ولو مجهولة، كمن حرس زرعي، أو أذن في هذا المسجد فله في كل شهر كذا، وكمن رد لقطتي، أو بنى لي هذا الحائط، أو من أقرضني زيد بجاهه ألفاً، أو أذن بهذا المسجد شهراً فله كذا، أو من فعله من مديني أي ممن لي عليه دين فهو بريء من كذا"(38).
واستدلوا على ذلك بأنه إذا جازت الجعالة مجهولة المدة، فمع التقدير أولى(39).
القول الثاني: لا يجوز الجمع بين المدة والعمل، وهذا قول الشافعية(40)، وقولٌ عند الحنابلة(41).
جاء في مغني المحتاج "ويشترط في الصيغة عدم التأقيت كالقراض، فلو قال من رد آبقي اليوم فله كذا لم يصح؛ لأنه ربما لا يظفر به في ذلك اليوم"(42).
وجاء في الإنصاف "ويجوز في الجعالة الجمع بين تقدير المدة والعمل على الصحيح من المذهب، وقيل: لا؛ كالإجارة"(43).
القول الثالث: لا يجوز الجمع بين المدة والعمل إلا أن يشترط العامل أن له ترك العمل متى شاء فيجوز، وهذا قول المالكية(44).
قال ابن رشد: "ومن شروط صحة المجاعلة أن يكون الجعل معلوماً، وأن لا ينقد، وأن يكون لا منفعة فيه للجاعل إلا بتمامه، وأن لا يضرب للعمل المجعول فيه أجلاً، فإن ضرب له أجلاً ولم يشترط أن يتركه متى شاء لم يجز"(45).
واستدل على ذلك بأن تقدير المدة في الجعالة فيها زيادة غرر في العقد؛ ويلزم منه تفويت عمل العامل؛ لأن العامل لا يستحق الجعل إلا بتمام العمل، وفي هذه الحالة قد تنقضي المدة قبل إتمام العمل، فيذهب عمل العامل باطلاً(46).
ونوقش بأمرين:
1 – أن عقد الجعالة من أصله عقد يحتمل فيه الغرر إذ علق استحقاق عوضه على تمام العمل، فيصح تعليقه بالمدة كذلك.
2 – أن مراعاة الجاعل ليس بأولى من مراعاة العامل في غرض التقييد بالمدة.
الترجيح: الذي يظهر لي – والله أعلم – رجحان القول بجواز تقدير المدة في الجعالة؛ لأنه كما يكون غرض الجاعل من الجعالة إتمام الجاعل، فقد لا يكون له منفعة في العمل إلا بإتمامه في المدة المضروبة التي حددها، وإلا زالت حاجته إليه(47).
الآثار المترتبة:
1 – بناء على مذهب الحنابلة إن أتم العامل العمل في المدة أو قبلها فإنه يستحق الجعل المعاوض عليه، ولم يلزمه العمل في بقيتها(48)، وإن انتهت المدة قبل انتهاء العمل فلا يخلو من حالين:
الأول: إمضاء العقد، فحينئذ يطالب العامل بالعمل فقط؛ قياساً على المُسلم إذا اختار الصبر على المسلم إليه عند تعذر المسلم فيه.
الثاني: فسخ العقد، وهو لا يخلو إما أن يكون قبل العمل أو بعده:
أ – فإن كان قبل العمل: فيسقط حينئذ الأجر والعمل.
ب – وإن كان بعد الشروع وعمل البعض: فإن كان الفسخ من الجاعل فيكون للعامل أجرة مثله، وإن كان من العامل فلا شيء له(49).
2 – وبناء على قول المالكية في حال اشتراط العامل ترك العمل متى شاء، فإنه لا أثر له؛ لأن العقد بالشرط يعود جائزاً، فكأن المدة لم تذكر، ولم يقيد بها العمل، قال الدردير المالكي: "إلا أن يشترط العامل أن له ترك العمل متى شاء فيجوز حينئذ؛ لأنه رجع حينئذ لأصله وسنته من كون الزمان ملغى"(50).
الفرع الثالث: الفرق بين الإجارة والجعالة:
مما سبق يتبين أنه لا يمكن توصيف المعاوضة على تحصيل الديون المقدر بالمدة عند جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية إلا على أنه عقد أجير خاص، أما الحنفية فلعدم مشروعية الجعالة عندهم، وأما المالكية والشافعية فلأنهم لا يجيزون تقدير المدة في الجعالة، ويبقى الحنابلة هم من يجيز تقدير المدة في الجعالة، ومن ثم فإنه يمكن توصيفه عندهم إما على أنه عقد إجارة أو عقد جعالة مقدرة المدة، وقبل ذكر كيفية التمييز بينهما يجدر بنا لزاماً أن نستعرض أوجه التشابه والاختلاف بين العقدين، وذلك فيما يلي:
أولاً: أوجه الشبه:
1- الجعالة نوع من أنواع الإجارة، جاء في القوانين الفقهية "في الجعل: وهو الإجارة على منفعة يضمن حصولها"(51)، وجاء في مغني المحتاج "وكذا كل عمل معلوم يقابل بأجرة كالخياطة والبناء تصح الجعالة عليه في الأصح لأنه إذا جاز مع الجهالة فمع العلم أولى، والثاني: المنع استغناء بالإجارة"(52)، وقال ابن تيمية "الإجارة التي هي جعالة، وهو أن يكون النفع غير معلوم.."(53)، وجاء في شرح المنتهى "والجعالة نوع إجارة لوقوع العوض في نظير النفع"(54).
2- يشترك كل منهما بأنه عقد يبذل فيه عمل منفعة مقابل عوض مالي(55).
3- يشترط في العوض المالي في الإجارة والجعالة أن يكون معلوماً، فكل ما صح عوضاً في الإجارة صح أن يكون عوضاً في الجعالة، وما لا فلا(56).
أوجه الفرق:
1- الإجارة عقد لازم، أما الجعالة فهي عقد جائز، ولا تلزم إلا بالشروع في العمل عند المالكية(57).
2- لا تنعقد الإجارة إلا بطرفين معلومين، بينما الجعالة التزام من جانب واحد، فتنعقد بالإرادة المنفردة من طرف واحد، ويترتب على ذلك أمران: الأول: أنه لا يشترط في العامل أن يكون معلوماً، فتصح الجعالة لمعين ولغير معين(58). الثاني: أنه لا يشترط قبول العامل، أما في غير المعين فلاستحالة طلب جوابه، وأما في المعين فلما فيه من التضييق في محل الحاجة(59).
3- يستحق العوض في الإجارة مقابل ما قدمه الأجير من عمل، أما في الجعالة، فلا يستحق إلا بإتمام العمل وتسليمه(60).
4-يجوز شرط تقديم الأجرة في عقد الإجارة، أما في الجعالة فلا يجوز اشتراط تقديم الجعل، وإن اشترطه بطل العقد(61).
5- يشترط في الإجارة أن يكون مقدار العمل معلوماً، وأما الجعالة فلا يشترط ذلك فيه، فقد يكون معلوماً، وقد يكون مجهولاً(62).
6- الإجارة قد تكون على منافع الأعيان، كالدور والدواب، أو على منافع الإنسان أي على عمله كاستئجار عامل للحراسة، أما الجعالة فلا تكون إلا على منافع الإنسان وعمله(63).
7- أن إجارة الأجير الخاص تتعلق بعينه، فلا يستنيب غيره(64)، أما في الجعالة فيصح أن يستنيب العامل غيره في العمل، كأن يسمع بجعل لمن يأتي بضالة، فيجعل هو جعلاً أقل لمن يأتيه بها، ليأخذ فارق الزيادة من الجاعل الأصلي، جاء في مغني المحتاج "ويجوز للعامل أن يستعين بغيره إذا لم يكن معيناً،وإن لم يعجز؛ لأن الجعالة خفف فيها. وإن كان معيناً فهو كالوكيل، فيجوز أن يستعين به فيما يعجز عنه أو لا يليق به كما يوكل فيه"(65).
8- لا يصح الجمع بين العلم بالمدة والعلم بالعمل في عقد الإجارة(66)، ويصح ذلك في عقد الجعالة عند الحنابلة، جاء في كشاف القناع "ويصح الجمع بين تقدير المدة والعمل... بخلاف الإجارة، فالجعالة وإن كانت نوع إجارة، لكن تخالفها في أشياء، منها هذه المسألة"(67).
التمييز في توصيف المعاوضة على تحصيل الديون من كونه إجارة أو جعالة:
بناء على ما تقدم فإنه يمكن التمييز في توصيف المعاوضة على تحصيل الديون من كونه عقد إجارة أو جعالة اشترطت فيه مدة محددة بما يلي:
1- صيغة العقد: فإن نص على أنه إجارة، كأن يقول: استأجرتك على استيفاء ديني من فلان ولك كذا، فهو إجارة، وإن نص على أنها جعالة كانت جعالة.
2- دلالة القرينة:
أ. فإن نص على أن العقد لازم بينهما فهو إجارة، وإن نص على أنه غير لازم كانت جعالة.
ب. إن عين المحصِّل في صلب العقد أو اشترط قبوله كان ذلك إجارة، وإن لم يعين أو لم يشترط قبوله كان ذلك جعالة(68)، وعلى ذلك فيمكن أن يكون التعاقد مع شركة لتحصيل الديون قرينة على أن العقد جعالة، بخلاف ما إذا كان التعاقد مع شخص بعينه.
ج. لو شرط تعجيل العوض أو جزء منه كان إجارة؛ لأن الجعالة لا يصح شرط تعجيل العوض فيه، ولو شرط تعجيله أو بعضه فسد العقد.
3- الدلالة العرفية: بأن يدل العرف السائد على أن المعاوضة على تحصيل الديون يحمل على الإجارة أو الجعالة أو أنه لازم أو جائز، أو أنه لا يستحق العوض فيه إلا بتمام العمل.
المطلب الثاني: توصيف عقد التحصيل المقدر بالعمل.
صورة المسألة: أن يتعاقد المصرف مع شخص على تحصيل ديون له مقدارها مائة ألف ريال في ذمة مدين واحد، أو في عدة ذمم مقابل عوض مقطوع قدره ألف ريال.
ويمكن توصيف هذه الصورة على أنها من باب عقد الإجارة أو الجعالة، وبيان ذلك في المسائل التالية:
الفرع الأول: توصيفها على أنها من إجارة الأجير المشترك.
الأجير المشترك هو الذي يقدر نفعه بالعمل، كخياطة ثوب، وبناء حائط، وسمي مشتركاً؛ لأنه يتقبل أعمالاً لاثنين وثلاثة وأكثر في وقت واحد، فيشتركون في منفعته واستحقاقها(69).
ووجه إلحاق هذه الصورة من عقد تحصيل الديون بعقد إجارة الأجير المشترك أن جمهور الفقهاء من الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة قد اتفقوا على صحة الإجارة في كل عمل مباح معلوم بالعمل، ومقابل بعوض معلوم، وهذا ما ينطبق على عقد تحصيل الديون في هذه الصورة: فهو عقد على عمل شيء معلوم – وهو إتمام عمل معين موصوف في الذمة(70) – بعوض معلوم فيكون داخلاً في عقد إجارة الأجير المشترك.
كما أن العقدين يشتركان في الأحكام التالية:
1 – أنهما عقدان مؤقتان بعمل لا بمدة، جاء في بدائع الصنائع "والعقد على العمل يقتضي وجوب الأجر بالعمل؛ لأنه يصير أجيراً مشتَرَكاً"(71).
2 – المعقود عليه في العقدين هو منفعة العامل.
3 – المعقود عليه في العقدين هو تسليم العمل الذي التزمه في ذمته(72).
4 – أن المحصِّل المقدر عقده بالعمل لا يستحق العوض إلا بتحصيل الدين، وتسليمه لصاحبه، وهذا ما ينطبق على الأجير المشترك، جاء في كشاف القناع "(ولا يستحق الأجرة إلا بتسليم عمله) دون تسليم نفسه"(73).
5 – أن المحصل والأجير يشتركان في بذلهما للعمل، وغايتهما الحصول على عوض عملهما(74).
هذا من جهة الإجمال، وأما من جهة التفصيل فسنبينه من خلال استعراض نصوص الفقهاء الدالة على صحة إجارة الأعمال في تحصيل الديون نصاً، وذلك فيما يلي:
أولاً: الحنفية: رغم أنهم لم ينصوا على حكم المعاوضة على اقتضاء الدين إلا أن أصولهم لا تمنع توصيفه على إجارة الأجير المشترك؛ لأنه عقد عمل معلوم مقابل بعوض معلوم، جاء في البحر الرائق: "(ولو افترقا وفي المال ديونٌ وربح أُجبِر على اقتضاء الديون) لأنه كالأجير، والربح كالأجرة، وطلب الدين من تمام تكملة العمل فيجبَر عليه"(75).
وجاء في الدر المختار "(بخلاف أحد الشريكين إذا فسخ الشركة وما لها أمتعة) صح (افترقا وفي المال ديون وربح يجبر المضارب على اقتضاء الديون) إذ حينئذ يعمل بالأجرة"(76).
وجاء في درر الحكام شرح مجلة الأحكام "فإذا كان في المضاربة ربح ولو كان قليلاً فالمضارب مجبور على تحصيل تلك الديون؛ لأن المضارب في هذه الصورة أجير يعمل الأجرة، وحصته في الربح هي كالأجرة، وتحصيل الديون من تكميل العمل"(77).
ثانياً: المالكية: حيث صرحوا بأن اقتضاء الديون يمكن أن يكون إجارة، ويمكن أن يكون جعالة، قال ابن رشد: "والأعمال تنقسم على ثلاثة: منها ما يصح فيه الجعل، وتصح فيه الإجارة، فأما ما يصح فيه الجعل والإجارة فكثير، من ذلك بيع الثوب والثوبين، وشراء الثياب القليلة والكثيرة، وحفر الآبار، واقتضاء الديون"(78).
ثالثاً: الشافعية: يفهم من كلام الشافعية(79) من خلال إيرادهم لحكم المعاوضة على تحصيل الديون في باب الإجارة أنها من باب الإجارات، ووجه جعلها إجارة؛ أنها عقد على عمل معلوم بعوض معلوم، جاء في مغني المحتاج "(ولا) يصح أيضاً استئجار سلاخ (ليسلخ) الشاة (بالجلد) الذي عليها (ولا) طحان على أن (يطحن) البر مثلاً (ببعض الدقيق) منه كربعه... والضابط في هذا أن تجعل الأجرة شيئاً يحصل بعمل الأجير. قال السبكي: ومنه ما يقطع في هذه الأزمان من جعل أجرة الجابي العشر مما يستخرجه(80). ويفهم من ذلك أن أجرة الجابي – وهو محصل ديون – إن كانت مقطوعة صحت، وكانت إجارة صحيحة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|