عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 18-07-2020, 04:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الرجوع في الهبة في الفقه الإسلامي



ج - الاستدلال بالإجماع استدلال غير صحيح؛ لأنَّ الإجماع لا يكون في معارضة الأدلة الصحيحة والثابتة والمعتبرة شرعًا، كما أن الإجماع قد ثبت وجود من خالفه، فقد ثبت في السنة الصحيحة أنَّ عبدالله بن عمر وابن عباس، قالا بخلافه[26]، والإجماع لا ينعقِد مع وجود المخالف، فثبَت أن القول بالإجماع قولٌ ينقصه الدليل، فلا يصحُّ الاحتِجاج به شرعًا.

د - الاستدلال بالمعقول - وهو تعدد المقاصد - استدلال غير صَحيح؛ لأن المقصد الشرعي من تشريع الهبة محدَّد ثابت شرعًا ولا يلتفت لمَقصد المكلَّف غير الشرعي، ويجب أن يتفق مقصد المكلَّف مع مقصد الشارع، حتى تتحقَّق حكمة التشريع.

يقول الشاطبي: "قصد الشارع من المكلَّف، أن يكون قصده في العمل موافقًا لقصد الله في التشريع"، ويقول أيضًا: "كل مَن ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شُرعت له فقد ناقَضَ الشريعة، وكلُّ مَن ناقَضها فعملُه في المناقَضة باطل"[27].

ويقول القرافيُّ: "والقاعِدة الشرعية المَشهورة في أبواب العقود الشرعية، أنَّا لا نُبطِل عقدًا مِن العقود، إلا بما يُنافي مقصود ذلك العقد، دون ما لا يُنافي مقصوده"[28].

ويقول ابن تيمية: "الأصْل في العقود الرضا، ونتيجتُها هو ما أوجباه على أنفسهما بالتعاقُد"[29].

ويقول ابن قيم الجوزية: "والأصْل في العقود كلها إنما هو العدل الذي بُعثتْ به الرسل وأُنزلت به الكتب"[30].

هذه أقوال الأئمَّة المُحقِّقين، تفيد أنَّ المعاملة شُرعت لتحقيق مقصد شرعي، ويجب أن يتفق قصد المكلف مع قصد الشارع؛ لأنَّ القصد غير الشرعي هادم للقصد الشرعيِّ؛ ولهذا لا تترك المعاملات والأحكام لمقاصد الأفراد؛ لما في ذلك من العبث، والشرع منَزَّه عن العبَث.

2 - مناقشة أدلة القائلين بلزوم الهبة، وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية، ويردُّ على استدلالهم بما يلي:
إنَّ الاستدلال بقوله تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ï´¾ استدلال غير صحيح؛ لأن الآية الكريمة تتحدَّث عن وجوب الوفاء بالعقود الملزمة للجانبين، وهذا أمر متَّفق عليه، وعقد الهبة عقد غير لازم؛ لأنه من عقود التبرعات المالية، وهو مندوب إليه باتفاق العلماء، وليس واجبًا، ولهذا لا تشمل الآية بحكمها عقد الهبة، إلا إذا كان لازمًا كالهِبة بعوض، وبهذا يظهر أن الآية خارج محلِّ النِّزاع، فلا يصحُّ الاستدلال بها على لزوم عقد الهِبَة ووجوب تنفيذه وعدم الرجوع فيه.

ب - الاستدلال بقوله تعالى: ï´؟ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ ï´¾ استدلال غير صحيح؛ لأن الآية الكريمة تُحرِّم إبطال الأعمال اللازمة والواجِبة، وهذا أمر متَّفق عليه، وخارج محل النزاع، أما الأُمور المندوبة كالهِبة، فيَجوز إبطالها والرجوع فيها مع الكَراهة، والآية الكريمة لا تشمل بعمومها المندوبات؛ ولهذا تكون خارج محل النزاع، ولا يجوز الاستدلال بها على لزوم الهبة والرجوع فيها؛ لأنَّ عقد الهبة باتفاق العلماء أمر مندوب إليه.

جـ - أما بالنسبة لحديث ابن عباس وحديث عمرو بن شعيب، فهي أحاديث يتطرَّق إليها الاحتمال والتأويل، وفيما يلي بيان ذلك[31]:
1 - حمل الأحاديث على الرجوع بغير قضاء ولا رضاء، وذلك لا يجوز عندنا إلا فيما وهب الوالد لولده، فإنه يحلُّ له أخذه مِن غير رضا الولد ولا قضاء القاضي، إذا احتاج إليه للإنفاق على نفسه، كما، أنه محمول على نفي الحل من حيث المروءة لا من حيث الحكم، والتشبيه من حيث ظاهر القبح مروءة وطبيعة لا شريعة؛ لأن فعل الكلب لا يوصف بالحرمة الشرعية؛ لكنه يُوصَف بالقُبح الطبيعي.

2 - وقوله فيما يهبه الوالد لولده محمول على أخذ مال ابنه عند الحاجة إليه، وخرج بصورة الرجوع مجازًا، وإن لم يكن رجوعًا حقيقةً؛ لأن الولد وماله لأبيه.

د - الاستدلال بالمعقول استدلال صحيح، لكنه لا يُفيد لزوم الهِبَة وعدم جواز الرجوع فيها، ولكنَّه يُفيد القبح والكراهية، وهو ما نقول به.

التَّرجيح:
يترجَّح لدينا رأي جماهير العلماء، والذي يَرى لزوم الهبة، وعدم جواز الرجوع فيها، شريطة القبض في المنقول كالمَكيل والموزون، وكذلك التسجيل في الدوائر الرسمية بالنسبة للعقار، وللأسباب التالية:
أ - قوة الأدلة الواردة في ذلك سندًا ومتنًا.

ب - الاحتمالات التي أوردها الحنفية، لا تستند إلى دليل مقبول؛ ولهذا تسقط في الاعتبار الشرعي.

جـ - من أجل تحقيق المقصد الشرعي من الهبة، والذي يتمثَّل بالأجر والثواب والمحبة بين الناس، والرجوع يؤدِّي إلى الخصومة والتنازع والعَداوة، وهذه أمور محرَّمة وباطِلة، فما يؤدي إليها وهو الرجوع في الهبة يكون باطلاً بالبَداهة.

د - من أجل الحفاظ على مبدأ استقرار المعاملات بين الناس، وهو مبدأ أصيل ومهمٌّ في التعامُل بين الناس، وإناطة أَمرِ الهِبة بقَصد الإنسان ونيَّته المُتغيِّرة، يؤدِّي إلى عدم استقرار التعامُل بين الناس؛ ولهذا يجب ربط الهِبَة بمَقصدها الشرعي الثابت؛ لأنَّه يمثِّل حكمة تشريع الهِبة.

هـ - ولارتباط الهبة بمَحاسن الأخلاق وحسْن العادات، والأخلاق الحسَنة تتَّسم بالديمومة والثبات.


[1] البخاري: صحيح البخاري (2 / 175)، ومسلم: صحيح مسلم (2 / 756)، وابن العربي: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (3 / 157).

[2] البيهقي: السنن الكبرى (6 / 169).

[3] السرخسي: المبسوط (12 / 47) وما بعدها، وابن حزم: المحلى (9 / 12) وما بعدها، والنووي: المجموع (15 / 370) وما بعدها، وابن قدامة: المغني (8 / 329) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 174) وما بعدها، وابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 241) وما بعدها.

[4] السرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 205)، وأحمد بن قودر: تكملة فتح القدير (9 / 49)، وجمعية الحقوقيين: قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة (مادة 650، 651) (ص: 146، 147)، وهذا هو رأي الحنفية، وبه أخذ القانون المدني الأردني والإماراتي، وخالف القانون بذلك رأي جماهير العلماء، والذي يَرى عدم جواز الرجوع في الهِبة، إلا في حالات خاصَّة، استِثناءً، وهم المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية.

[5] الإمام مالك: الموطأ (2 / 754).

[6] الأجنبي: من لم يكن ذا رحم محرَّم من الواهب، يخرج بذلك من كان ذا رحم وليس بمحرَم كبني الأعمام والأخوال، ومن كان مَحرمًا، ليس بذي رحم؛ كالأخ الرضاعي، والرحم المحرم كالأخ والأخت، والعم والخال.

[7] انظر: السرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها، وأحمد بن قودر: تكملة فتح القدير (9 / 38)، وابن قدامة: المغني (8 / 278) وما بعدها، وابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 127)، وابن حزم: المحلى (9 / 120) وما بعدها، جمعية الحقوقيين: قانون المعاملات الإماراتي (ص: 146)، ونقابة المحامين: المذكرة الإيضاحية للقانون المدني الأردني (2 / 529).

[8] وبرأي الحنفية أخذت معظم القوانين العربية، ومنها المدني المصري والسُّوري والأردني والإماراتي، انظر: الكاساني: البدائع (6 / 128)، والمَوصلي الاختيار (3 / 51)، والشاشي القفال: حلية العلماء (6 / 54) وما بعدها، ومحمد قدري باشا: الأحكام الشرعية في الأحوال الشخصية، المواد 515 إلى 529، مطبوع مع قانون الأحوال الشخصية السوري (ص: 83، 84).

[9] الكاساني: البدائع (6 / 128)، وابن العربي: أحكام القرآن (1 / 465، 466).

[10] يُثب: أي يعوض.

[11] ابن ماجه: سنن ابن ماجه (2 / 798).

[12] الكاساني: البدائع (6 / 128).

[13] الكاساني: البدائع (6 / 128)، وابن حزم: المحلى (9 / 128، 129)، والسيوطي: تنوير الحوالك شرح على موطأ مالك (2 / 224).

[14] الكاساني: البدائع (6 / 128)، والسرخسي: المبسوط (12 / 49) وما بعدها.

[15] ابن رشد: بداية المجتهد (2 / 332)، والشربيني: مغني المحتاج (2 / 402)، والشافعي: الأم (4 / 63)، والشاشي القفال: حلية العلماء (6 / 54)، وابن قدامة: الكافي (2 / 469)، وابن حزم: المحلى (9 / 127) وما بعدها، وابن جزي: القوانين القفهية (ص: 241) وما بعدها، والنووي: المجموع (15 / 370).

[16] ابن حجر العسقلاني: فتح الباري شرح صحيح البخاري (7 / 35)، والنووي: صحيح مسلم بشرح النووي (6 / 71)، وابن العربي: عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (8 / 293).

[17] الشوكاني: نَيل الأوطار (6 / 114).

[18] ابن العربي، عارضة الأحوذي بشرح صحيح الترمذي (8 / 294).

[19] الكاساني، البدائع (6 / 128).

[20] ابن رشد: بداية المجتهد (2 / 333).

[21] ابن قدامة: المغني (8 / 277).

[22] جمعية الحقوقيين: قانون المعاملات المدنية لدولة الإمارات العربية المتحدة، قانون اتحادي رقم (5) لسنة 1985م المعدل بالقانون الاتحادي رقم (1) لسنة 1987 (ص: 145) وما بعدها، ونقابة المحامين: المذكِّرات الإيضاحية للقانون المدني الأردني (2 / 529) وما بعدها، ومحمد قدري باشا: مرشد الحيران (ص: 29، 30).

[23] ابن جزي: القوانين الفقهية (ص: 241) وما بعدها، ومحمد عليش: منح الجليل شرح مختصر سيدي خليل (8 / 226) وما بعدها، وابن رشد: بداية المجتهد (2 / 232، 233).

[24] ابن ماجه: سنن ابن ماجه (2 / 798).

[25] ابن قدامة: المغني (8 / 278).

[26] ورد الحديث في أدلة الجمهور السابقة؛ انظر: ابن قدامة: المغني (8 / 277) وما بعدها، وابن حزم: المحلى (9 / 130) وما بعدها.

[27] الشاطبي: الموافقات (2 / 331، 332).

[28] القرافي: الفروق (3 / 12).

[29] ابن تيمية: الفتاوى (3 / 485).

[30] ابن قيم الجوزية: إعلام الموقِّعين (2 / 7).

[31] الكاساني: البدائع (6 / 128).




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 29.60 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.98 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.12%)]