الأربعون الشخصية(2)
أ. محمد خير رمضان يوسف
أربعون حديثًا تحدَّثَ فيها رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّمَ عن شخصهِ الكريم
(2)
(11)
إنه رسول الله صلى الله عليه وسلم
عن أبي هريرةَ قال:
كنّا مع النبيِّ في مسير، قال: فنَفِدَتْ أزوادُ القوم، قال: حتى همَّ بنحرِ بعضِ حمائلهم، قال: فقال عمر:
يا رسولَ الله، لو جمعتَ ما بقيَ من أزوادِ القوم، فدعوتَ اللهَ عليها.
قال: ففعل، قال: فجاءَ ذو البُرِّ ببُرِّه، وذو التمرِ بتمره، قال: (وقال: مجاهد: وذو النَّواةِ بنَواه).
قلت: وما كانوا يصنعون بالنوَى؟
قال: كانوا يَمصُّونَهُ ويشربون عليه الماء.
قال: فدعا عليها، حتى ملأَ القومُ أزودتهم.
قال: فقالَ عندَ ذلك: " أشهدُ أنْ لا إله إلا الله، وأني رسولُ الله. لا يلقَى اللهَ بهما عبد، غيرَ شاكٍّ فيهما، إلا دخلَ الجنة".
صحيح البخاري (2352)، صحيح مسلم (27) واللفظُ للأخير.
الحمائل: جمعُ حَمولة، وهي الإبلُ التي تَحمِل.
قوله: "حتى ملأ القومُ أزودَتهم": قال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: الأزودةُ جمعُ زاد، وهي لا تُملأ، إنما تُملأُ بها أوعيتُها. قال: ووجههُ عندي أن يكونَ المراد: حتى ملأ القومُ أوعيةَ أزودتهم، فحُذِفَ المضاف، وأُقيمَ المضافُ إليه مقامه.
قال القاضي عياض: ويحتملُ أنه سمَّى الأوعيةَ أزوادًا باسمِ ما فيها، كما في نظائره. والله أعلم.
وفي هذا الذي همَّ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، بيانٌ لمراعاةِ المصالح، وتقديمُ الأهمِّ فالأهمّ، وارتكابُ أخفِّ الضررين لدفعِ أضرِّهما. والله أعلم.
قوله: "فقال عمرُ رضيَ الله عنه: يا رسولَ الله، لو جمعتَ ما بقيَ مِن أزوادِ القوم": هذا فيه بيانُ جوازِ عرضِ المفضولِ على الفاضلِ ما يراهُ مصلحةً ليَنظرَ الفاضلُ فيه، فإنْ ظهرتْ له مصلحةٌ فعله.
وفي الحديثِ علَمٌ من أعلامِ النبوَّةِ الظاهرة. وما أكثرَ نظائره، التي يزيدُ مجموعها على شرطِ التواتر، ويحصلُ العلمُ القطعيّ. وقد جمعها العلماء، وصنَّفوا فيها كتبًا مشهورة. والله أعلم[1].
(12)
النبيُّ الحقّ
عن أبي هريرةَ قال:
شهِدْنا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُنَينًا، فقالَ لرجلٍ ممن يُدْعَى بالإسلام: "هذا مِن أهلِ النار".
فلمّا حضَرْنا القتال، قاتَل الرجلُ قتالًا شديدًا، فأصابَتْه جراحة، فقيل: يا رسولَ الله، الرجلُ الذي قلتَ له آنفًا إنه مِن أهلِ النار، فإنه قاتلَ اليومَ قتالًا شديدًا، وقد مات.
فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: "إلى النار".
فكادَ بعضُ المسلمينَ أن يَرتاب. فبينما هم على ذلكَ إذ قيل: إنه لم يَمُتْ، ولكنَّ به جراحًا شديدًا.
فلمّا كان منَ الليلِ لم يَصبِرْ على الجراح، فقتلَ نفسَه.
فأُخبِرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بذلك، فقال: "اللهُ أكبر! أشهدُ أني عبدُ اللهِ ورسولُه".
ثم أمرَ بلالًا فنادَى في الناس: "إنه لا يَدخلُ الجنةَ إلا نفسٌ مسلمة، وإنَّ اللهَ يؤيِّدُ هذا الدينَ بالرجلِ الفاجر".
صحيح البخاري (2897)، صحيح مسلم (111) واللفظُ له.
قالَ الحافظُ ابنُ حجر: الذي يظهرُ أن المرادَ بالفاجرِ أعمُّ من أن يكونَ كافرًا أو فاسقًا. ولا يعارضهُ قولهُ صلَّى الله عليه و سلَّم: "إنّا لا نستعينُ بمشرك"؛ لأنه محمولٌ على من كان يُظهِرُ الكفر، أو هو منسوخ.
وفي الحديثِ إخبارهُ صلَّى الله عليه و سلَّمَ بالمغيبات، وذلكَ من معجزاتهِ الظاهرة.
وفيه جوازُ إعلامِ الرجلِ الصالحِ بفضيلةٍ تكونُ فيه، والجهرِ بها[2].
(13)
حبُّ الرسول عليه الصلاة والسلام
عن أنس بنِ مالك قال: قالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
"لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه من والدِهِ وولدهِ والنَّاسِ أجمعين".
صحيح البخاري (15) واللفظُ له، صحيح مسلم (44).
قال الإمام أبو سليمان الخطّابي: لم يُرِدْ به حبَّ الطبع، بل أرادَ به حبَّ الاختيار؛ لأن حبَّ الإنسانِ نفسَهُ طبع، ولا سبيلَ إلى قلبه. قال: فمعناه: لا تَصدقُ في حبِّي حتى تُفني في طاعتي نفسَك، وتُؤثِرَ رضايَ على هواك، وإن كان فيه هلاكُك.
وقال ابنُ بطّال رحمهُ الله: ومعنَى الحديث: أن من استكملَ الإيمان، علمَ أن حقَّ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ آكدُ عليه من حقِّ أبيهِ وابنهِ والناسِ أجمعين؛ لأن به صلَّى الله عليه و سلَّم استُنقذنا من النار، وهُدينا من الضلال[3].
(14)
حكمة في عطاء
عن سعد بن أبي وقّاص رضيَ الله عنه قال:
قَسَمَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ قَسْمًا، فقلتُ: يا رسولَ اللَّه، أعطِ فلانًا فإنَّهُ مؤمن.
فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّم: "أو مسلمٌ".
أقولُها ثلاثًا، ويردِّدُها علَيَّ ثلاثًا: "أو مسلمٌ".
ثمَّ قال: "إنِّي لأُعطي الرَّجلَ وغيرهُ أحبُّ إليَّ منهُ مخافةَ أن يَكُبَّهُ اللَّهُ في النَّار".
صحيح البخاري (27)، صحيح مسلم (150) واللفظُ له.
من الفوائدِ التي تُجنَى من هذا الحديثِ الشريف:
• التفرقةُ بين حقيقتي الإيمانِ والإسلام، وتركُ القطعِ بالإيمانِ الكاملِ لمن لم يُنَصَّ عليه.
• فيه الردُّ على غلاةِ المرجئةِ في اكتفائهم في الإيمانِ بنطقِ اللسان.
• جوازُ تصرُّفِ الإمامِ في مالِ المصالح، وتقديمُ الأهمِّ فالأهمّ، وإنْ خفيَ وجهُ ذلك على بعضِ الرعيَّة.
• وفيه جوازُ الشفاعةِ عند الإمامِ فيما يَعتقدُ الشافعُ جوازه.
• وتنبيهُ الصغيرِ للكبيرِ على ما يظنُّ أنه ذهلَ عنه.
• ومراجعةُ المشفوعِ إليه في الأمرِ إذا لم يؤدِّ إلى مفسدة.
• وأن الإسرارَ بالنصيحةِ أولَى من الإعلان[4].
(15)
الرسول العادل صلى الله عليه وسلم
عن جابر بنِ عبدالله قال:
أتَى رجلٌ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالجِعْرانَة، مُنصَرفَهُ من حُنَين، وفي ثوبِ بلالٍ فضَّة، ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقبضُ منها، يُعطي الناس، فقال: يا محمدُ اعدِلْ.
قال: "ويلَك! ومَن يعدِلُ إذا لم أكنْ أعدِل؟ لقد خِبتُ وخَسِرتُ إن لم أكنْ أعدِل".
فقالَ عمرُ بنُ الخطّابِ رضيَ اللهُ عنه: دعْني يا رسولَ اللهِ فأقتلَ هذا المنافق.
فقال: "معاذَ اللهِ أن يتحدَّثَ الناسُ أني أقتلُ أصحابي. إنَّ هذا وأصحابَهُ يقرؤون القرآنَ لا يُجاوزُ حناجِرَهم، يَمرقونَ منه كما يَمرُقُ السَّهمُ منَ الرمِيَّة".
صحيح البخاري (3414)، صحيح مسلم (1063)، واللفظُ له.
"يقرؤون القرآنَ لا يجاوزُ حناجرهم": قالَ القاضي [عياض]: فيه تأويلان:
أحدهما: معناهُ لا تفقههُ قلوبُهم، ولا ينتفعون بما تلَوا منه، ولا لهم حظٌّ سوَى تلاوةِ الفمِ والحنجرةِ والحلق، إذ بهما تقطيعُ الحروف.
والثاني: معناهُ لا يصعدُ لهم عملٌ ولا تلاوة، ولا يتقبَّل[5].
(16)
حدث في يوم أُحد
عن أنس:
أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كُسِرَتْ رَبَاعيَتُهُ يومَ أُحُد، وشُجَّ في رأسِه، فجعلَ يَسْلُتُ الدمَ عنه ويقول:
"كيف يُفلِحُ قومٌ شَجُّوا نبيَّهم، وكسَروا رَباعيَتَه، وهو يدعوهم إلى الله"؟
فأنزلَ اللهُ تعالى: ï´؟ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيءٌ ï´¾ [سورةُ آل عمران: 128].
صحيح البخاري (2754)، صحيح مسلم (1791) واللفظُ له.
سلتَ الدم: أماطه.
والمرادُ بكسرِ الرباعية، وهي السنُّ التي بين الثنيَّةِ والناب، أنها كُسرت، فذهبَ منها فلقة، ولم تُقلَعْ من أصلها[6].
(17)
الجهاد العظيم
عن أبي هريرةَ قال: قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم:
"لولا أن أشُقَّ علَى أُمَّتي ما تَخلَّفتُ عن سَريَّةٍ، ولكنْ لا أجدُ حُمولَة، ولا أجدُ ما أحمِلُهم عليه، ويشُقُّ عليَّ أنْ يتَخلَّفوا عنِّي، ولوَدِدْتُ أني قاتَلْتُ في سبيلِ اللَّهِ فقُتِلْتُ، ثم أُحْييتُ ثم قُتِلتُ، ثم أُحْييتُ".
صحيح البخاري (2810) واللفظُ له، صحيح مسلم (1876).
أرادَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ المبالغةَ في بيانِ فضلِ الجهاد، وتحريضِ المسلمين عليه.
وفي هذا الحديث:
• الحضُّ على حسنِ النية.
• وبيانُ شدَّةِ شفقةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم على أمتهِ ورأفتهِ بهم.
• واستحبابُ طلبِ القتلِ في سبيلِ الله.
• وجوازُ قول "وددتُ حصولَ كذا من الخير"، وإنْ علمَ أنه لا يحصل.
• وفيه تركُ بعضِ المصالحِ لمصلحةٍ راجحةٍ أو أرجح، أو لدفعِ مفسدة.
• وفيه جوازُ تمنِّي ما يمتنعُ في العادة.
• والسعيُ في إزالةِ المكروهِ عن المسلمين[7].
(18)
محاولة اغتيال
عن جابر بنِ عبدالله قال:
غزَونا مع رسولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّمَ غزوةَ نَجد، فلما أدركتْهُ القائلةُ وهو في وادٍ كثيرِ العِضَاه، فنزلَ تحتَ شجرةٍ واستظلَّ بها، وعلَّقَ سيفَه، فتَفرَّقَ الناسُ في الشجرِ يَستَظلُّون، وبينا نحن كذلكَ إذ دعانا رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، فجِئنا، فإذا أعرابيٌّ قاعدٌ بين يديه، فقال:
"إن هذا أتاني وأنا نائم، فاخترَطَ سيفي، فاستيقَظتُ وهو قائمٌ على رأسي مختَرِطٌ صَلْتًا، قال: مَن يَمنَعُكَ مني؟ قلت: اللهُ. فشامَه، ثم قَعَد، فهو هذا".
قال: ولم يُعاقِبْهُ رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم.
صحيح البخاري (3908) واللفظُ له، صحيح مسلم (843) من كتاب الفضائل.
القائلة: وسطُ النهارِ وشدَّةُ الحرّ.
العِضاه: كلُّ شجرٍ يَعظمُ له شوك.
صَلتًا: مجرَّدًا عن غمده.
فشامَه: المرادُ أغمده. والكلمةُ من الأضداد، فشامَ السيفَ إذا استلَّه، وشامَهُ إذا أغمده.
وفي الحديث:
• فرطُ شجاعةِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وقوةُ يقينهِ وصبرهِ على الأذَى.
• وحِلمهُ عن الجهّال.
• وفيه جوازُ تفرُّقِ العسكرِ في النزولِ ونومهم، وهذا محلُّهُ إذا لم يكنْ هناكَ ما يخافون منه[8].
(19)
خصائص نبوية كريمة
عن جابر بنِ عبدالله، أن النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّمَ قال:
"أُعطِيتُ خمسًا لم يُعطَهُنَّ أحدٌ قبلي: نُصِرتُ بالرُّعبِ مَسيرةَ شهر، وجُعِلَتْ ليَ الأرضُ مَسجِدًا وطَهورًا، فأيُّما رجلٍ من أُمَّتي أدرَكتْهُ الصلاةُ فلْيُصلِّ، وأُحِلَّتْ ليَ المغانمُ ولم تَحِلَّ لأحدٍ قَبلي، وأُعطِيتُ الشفاعة، وكان النبيُّ يُبعَثُ إلى قومِهِ خاصَّةً وبُعِثتُ إلى الناسِ عامَّة".
صحيح البخاري (328) واللفظُ له، صحيح مسلم (521).
قال العلّامةُ السندي في حاشيتهِ على سننِ النسائي: لم يُردِ الحصر، بل ذكرَ ما حضرَهُ في ذلك الوقت، مما منَّ الله تعالَى به عليه ذكره، واعترافًا بالنعمة، وأداءً لشكرها، وامتثالًا لأمر: ï´؟ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ ï´¾ [سورة الضحى: 11]، لا افتخارًا[9].
(20)
خصائص أخرى
عن أبي هريرةَ قال: قال رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم:
"بُعِثتُ بجوامعِ الكَلِم، ونُصِرتُ بالرُّعْب، وبَيْنا أنا نائمٌ أُتِيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرضِ فوُضِعَتْ في يدَيّ".
صحيح البخاري (6845) واللفظُ له، صحيح مسلم (523).
"بُعثتُ بجوامعِ الكلم": قالَ الهروي: يعني به القرآن، جمعَ الله تعالَى في الألفاظِ اليسيرةِ منه المعانيَ الكثيرة، وكلامهُ صلَّى الله عليه وسلَّمَ كان بالجوامع، قليلَ اللفظِ كثيرَ المعاني.
"أُتيتُ بمفاتيحِ خزائنِ الأرض": هذا من أعلامِ النبوَّة، فإنه إخبارٌ بفتحِ هذه البلادِ لأمَّته، ووقعَ كما أخبرَ صلَّى الله عليه وسلَّم، ولله الحمدُ والمنَّة[10].
[1] باختصار من شرح النووي على صحيح مسلم 1/ 224.
[2] فتح الباري 7/ 474.
[3] نقلت القولين من شرح النووي على صحيح مسلم 2/ 15.
[4] تنظر هذه الفوائد في فتح الباري1/ 81.
[5] شرح النووي على صحيح مسلم 7/ 159.
[6] فتح الباري 7/ 366.
[7] ينظر فتح الباري 6/ 17.
[8] فتح الباري 7/ 428.
[9] حاشية السندي 1/ 210، وينظر شرح الحديث في فتح الباري 1/ 463.
[10] باختصار من شرح النووي على صحيح مسلم 5/ 5.