إن الهلاكَ العام، عذابًا بالزلازل أو العواصف والصواعق وغيرها، إذا نزل في الدنيا بالمشركين مقدِّمة لهلاكهم في الآخرة حقًّا، ولكنه قد يصيب معهم بعضَ مَن يساكنهم من المؤمنين؛ لأن مِن سنن لله تعالى في إنزال العقوبات العامة في الدنيا إذا ما الفساد شاع وطغى، أن تعُمَّ بعض مُساكنيهم من الصالحين، الذين انخذلوا عن الهجرة ضعفًا أو عجزًا أو اضطرارًا، وفي الحديث الصحيح قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل: يا رسول الله أنَهلِكُ وفينا الصالحون؟ فقال: ((نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخبَثُ))، وقال فيما رُوِي عن جابر رضي الله عنه: ((أوحى الله عز وجل إلى جبريل عليه السلام: أن اقلِبْ مدينةَ كذا وكذا بأهلها، قال: يا رب، إن فيهم عبدك فلانًا لم يَعْصِك طرفةَ عين، فقال: اقلبها عليه وعليهم؛ فإن وجهَه لم يَتمَعَّرْ[5] فِيَّ ساعةً قط)، ثم يبعث الحق سبحانه كل من هلَك على نيته، ويحاسبه بها، إن مشركًا فمشرك، أو مؤمنًا فمؤمن، لا يغفر للمشرك؛ لقوله عز وجل: ï´؟ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ ï´¾ [النساء: 48]، ولا يُضِيعُ أجرَ المؤمنين؛ لقوله تعالى: ï´؟ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ï´¾ [محمد: 35]، وقوله: ï´؟ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ï´¾ [آل عمران: 171]، وقوله عز وجل: ï´؟ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [الحجرات: 14]، وقوله صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه عائشة رضي الله عنها: ((يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببيداءَ مِن الأرض يُخسَفُ بأوَّلهم وآخِرهم))، فقلت: يا رسول الله، وكيف يُخسَفُ بأولهم وآخرِهم وفيهم أسواقُهم ومَن ليس منهم؟ قال: ((يُخسَفُ بأولهم وآخرِهم ثم يُبعَثون على نيَّاتهم)).
لقد وردت كل هذه التنبيهات الإلهية للمشركين في هذه الحلقة من سورة الأنعام بثلاثِ صِيَغٍ للاستفهام: ï´؟ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ.. ï´¾ وï´؟ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ.. ï´¾ وï´؟ قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً... ï´¾، تحذيرًا من الكفر والشرك، وإيجابًا للإيمان والتوحيد؛ ليكون جوابهم الطبيعي إقرارًا بفساد معتقداتهم، واعترافًا بوحدانية الله تعالى وقدرته؛ لأن الاعترافَ سيدُ الحُجج، وأثبَت الأدلة؛ ولذلك عقَّب عز وجل إتمامًا للحجة عليهم ببيانِ حكمته في بعث الرسل بالبِشارة والنِّذارة، والتذكير بسالف سنَّته في الإحسان لِمَن استجاب، والإهلاك لمن خالَف وأعرَض فقال:
ï´؟ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ ï´¾؛ أي: إن مهمة الأنبياء والرسل عليهم السلام هي البِشارة والنِّذارة، والبِشارة في مصطلح أهل الإيمان والإحسان نبأٌ سارٌّ بقَبول ربِّ العزةِ الأعمالَ، والورود في الآخرة على خير مآل، أما النِّذارة فهي التحذيرُ الشديد من العاقبة، ومَن وُجِّهت إليه فهو على خطر عظيم، متأرجح بين ضرورة الأوبة إلى ربه، أو الارتكاس في ذنبه، وقد أوجزت هذه الآيةُ ذلك بأفصحِ بيان، بِشارة بفوز الآخرة، ونِذارة من عذابها؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا * وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 45 - 47]، وقال: ï´؟ وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا ï´¾ [الكهف: 56]، وكان صلى الله عليه وسلم إذا بعث بعضَ أصحابه للدعوة قال لهم: ((بَشِّروا ولا تُنَفِّروا، ويَسِّروا ولا تُعَسِّروا))، والناس في تلقِّي البِشارة والنِّذارةِ بين أمرينِ، إقبالٍ أو إعراضٍ:
ï´؟ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ï´¾ فمَن أقبل على دعوة الله، وآمَن بما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، وأثمر إيمانه عبادة صحيحة وعملًا صالًحا - عصَمه تعالى من الخوف والحزن يوم القيامة، وأسكَنه دارَ المُقامة من فضله.
ï´؟ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ï´¾ ومَن أعرض عنها، وكذَّب بما بلغه مِن الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسَق عن أمرِ ربِّه - فمآلُه عذابُ الجحيم.
إنه العدل المطلَق مِن الله تعالى، لا ظلم ولا محاباة، ولكن إحقاق للحق، ورحمة للعالمين؛ كما في حديث مسلمٍ عن أبي ذر الغفاري، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: ((يا عبادي، إني حرَّمت الظلم على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّمًا؛ فلا تَظَالَموا، يا عبادي، كلكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه؛ فاستَهْدوني أَهْدِكم، يا عبادي، كلكم جائع إلا من أطعمتُه؛ فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلكم عارٍ إلا مَن كسوتُه؛ فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفِر الذنوب جميعًا؛ فاستغفروني أغفِرْ لكم، يا عبادي، إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضرُّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي، لو أن أولَكم وآخرَكم، وإنسَكم وجِنَّكم، كانوا على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد ذلك في مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من مُلكي شيئًا، يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني، فأعطيتُ كل واحد مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخيطُ إذا أدخل البحر، يا عبادي، إنما هي أعمالُكم، أُحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجَد خيرًا فليحمَدِ الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسه))؛ رواه مسلم.
وإن هؤلاء الأنبياءَ والرسلَ مجردُ بشرٍ مثلكم، اصطفاهم الحق سبحانه لتبليغ رسالته إليكم، لا يقولون على الله إلا الحقَّ الذي أُمروا بتبليغه، وليس لهم من سلطان إلا ما أقدرهم الله به ï´؟ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ ï´¾ [إبراهيم: 11]، وما محمد صلى الله عليه وسلم الذي تُعرضون عن رسالته، وتجادلونه فيها، إلا بشرٌ مثلكم، أرسله الله إليكم؛ قال تعالى: ï´؟ وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ ï´¾ [آل عمران: 144]، وقال: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ï´¾ [الكهف: 110]، فلا تُمْعِنوا في إيذائه بمحاولة تعجيزه ومطالبته بما ليس من مهمته أو قدرته، أو قدرة الأنبياء قبله، وقد قلتم من قبل: ï´؟ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ï´¾ [الإسراء: 90 - 93]، وسألتم أن ينزل الله معه ملَكًا: ï´؟ وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ ï´¾ [الأنعام: 8]، ونزول ملَكٍ إليكم لا يكون إلا لدماركم، والانتقام منكم، وسألتم أن ينزل الله عليه آية، وقد أنزل عليه من الآيات، وأجرى على يديه من المعجزات أكثرَ مما سألتم، فلم تؤمنوا، ï´؟ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ï´¾ [الأنعام: 37].
لذلك أمَر الحقُّ سبحانه رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يوضِّحَ لهم ما التبس عليهم من أمر الرسالة والرسول؛ كي يَهلِكَ مَن هلَك عن بينة، ويَحْيَى مَن حَيِيَ عن بيِّنة، وقال له:
ï´؟ قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ ï´¾، والخزائن جمع خزانة، وهي المكان الذي يحرز فيه المال، عبر بها على سبيل الاستعارة عن واسع مُلك الله، وقدرتِه على خَلْق الأرزاق وربطها بأسبابها، وبالِغِ حكمتِه في تقديرها وتوزيعها وإعطائها؛ أي: قل يا محمد للمشركين في جوابك على اشتراطهم للإيمان بما أرسل به أن يوسِّعَ الله عليهم في الرزق، ويفيض عليهم خيرات الدنيا وأسباب السعادة: إن الأرض كلها والكون كله خزائنُ الله للأموال والأرزاق؛ قال تعالى: ï´؟ وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ * وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ * وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ï´¾ [الحجر: 19 - 21]، كل ذلك بيدِه تعالى وحده، وليس بيد نبي أو رسول، أو ملاك أو جن وإنس، يتصرف عز وجل فيه كما يشاء، هو وحده مالك الملك، يؤتي وينزع، ويعطي ويمنع، ويُعِزُّ ويُذِلُّ.
ï´؟ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ ï´¾ وقل لِمن يعلِّقون إيمانهم بما تكشفه لهم من غيبٍ يفيدهم في جلب المنافع ودفع المضار: إني لا أعلم الغيب؛ لأن الغيب لله، لا يُطْلِع عليه إلا مَن ارتضاه مِن رسله، وعلى قدر حاجتهم إليه في النِّذارة والبِشارة، وتبليغ الرسالة؛ قال تعالى: ï´؟ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ï´¾ [الجن: 26، 27].
لقد أمره ربُّه تعالى بأن يبيِّنَ للمشركين طبيعته البشرية، وينفي عن نفسه أيَّ صفة من صفات الألوهية، ويعترف بعبوديته وخضوعه لله عز وجل، ويُظهر العجز والضعف والافتقار إليه سبحانه، وأن ما يسألونه من الخوارق والمعجزات لا يكون إلا بإرادة الله وقدرته؛ كيلا يُفتَنوا به مِثلما فُتِن النصارى بعيسى عليه السلام، واليهود بعزير؛ إذ زعموه ابن الله - تعالى اللهُ عن ذلك علوًّا كبيرًا.
ثم أمره تعالى بأن يميز نفسه عن الملائكة، صرفًا للمشركين عن فتن الوساوس والتخيلات، وهلوسات الشياطين، بقوله عقب ذلك:
ï´؟ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ ï´¾ ولا أدعي صفة من صفات الملائكة؛ لأن الملائكة خلقٌ لله، متميِّز عن البشر؛ كلَّفهم ربُّهم بما يناسب طبيعتهم وما رُصِدوا له، ومن سنَّته تعالى أن يبعَثَ للبشر بشرًا مثلهم، يعيشون بينهم، فيطمئنُّون إلى بشريَّتهم، ويتخذونهم قدوة طيبة وأسوة حسنة في الاعتقاد والعبادة والمعاملة، وهذا ما بيَّنه جميع الرسل لأقوامهم على مدار التاريخ الرسالي: ï´؟ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ï´¾ [إبراهيم: 11]؛ من نوحٍ عليه السلام وقد قال لقومه: ï´؟ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ï´¾ [هود: 31] إلى محمد صلى الله عليه وسلم إذ أمره ربه تعالى بقوله: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ ï´¾ [فصلت: 6]، وقوله: ï´؟ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا ï´¾ [الإسراء: 93]، وقوله صلى الله عليه وسلم عن نفسِه: ((إنما أنا بشرٌ أنسى كما تنسَون، فإن نسِيتُ فذكِّروني))، وقال: ((إنما أنا بشرٌ أرضى كما يرضى البشرُ، وأغضَبُ كما يغضَبُ البشَرُ)).
إن مضمون هذه الآية كله في الرد على مَن سأل مِن المشركين نزولَ آية، أو نزولَ ملَكٍ مع الرسول صلى الله عليه وسلم، أو اشتَرَط جنَّةً أو كنزًا في الأرض، أو نحو ذلك؛ لذلك أُمِر الرسولُ صلى الله بأن يبين لهم حدود ما وكِّل به، وعلاقتَه بما يوحى إليه من القرآن الكريم وتشريعاته وأوامره ونواهيه بقوله عقب ذلك:
ï´؟ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ ï´¾؛ أي: قل لهم: إني لا أتبع إلا تعاليمَ الوحي من الله تعالى في القرآن؛ عقيدةً وشريعة، وعبادةً وسلوكًا، أعمل بها وأبلِّغها، وأكون فيها قدوةً حسنة وأسوة طيبة للمؤمنين، وليس لي أن أغيِّرَ بالزيادة أو النقص أو التحريف أو الكتمان، كما ليس لِمَن بلَغه الوحيُ إلا أن يتدبَّرَه بتبصُّر، ويتفكر فيه بقلب سليم؛ كي يهتديَ إلى الحق، فتسلَمَ له دنياه وأخراه، فمَن فعل واتَّبع مثلي كان مبصرًا للحق في جميع أمره، ومن لم يفعَلْ كان في الضلالة أعمى، والأعمى والبصير لا يستويان ï´؟ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ï´¾ هل يستوي في الرؤية الأعمى والمبصر؟، وهل يستوي الغافل المُصِرُّ على غباوته والذكي الفَطِن حديدُ العقل والفؤاد؟ وهل يستوي مَن ضلَّ وأشرَك واتبع الأهواء ومَن اهتدى واتبع الوحيَ من ربِّه؟
إن القرآن الكريم نورٌ من الله عز وجل، لا يراه إلا ذوو البصائر النافذة، والقلوب النيِّرة؛ قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ï´¾ [النساء: 174]، وقال: ï´؟ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ï´¾ [الشورى: 52]، فمَن أبصَر الحقَّ واتبَعه فاز، ومَن عَمِيَ عن الحق ضلَّ وخسِر؛ ولذلك جاء التحضيضُ على التفكُّر والتدبُّر عقب ذلك بقوله تعالى: ï´؟ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ ï´¾ هلَّا فكَّرتم في حال الأعمى والمبصر، وفهمتم ما جاءكم مِن ربِّكم فآمنتم؟!
وفي عموم هذه الآية الكريمة دليلٌ على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يحكُمُ برأيِه أبدًا، وإنما أقوالُه وأفعاله وتقريراته أمرٌ من ربه متبع، وسنَّة للمؤمنين به واجبة، بدليل قوله تعالى أيضًا: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الأعراف: 203]، وقوله عز وجل: ï´؟ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 2]، وقوله سبحانه: ï´؟ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ï´¾ [الحاقة: 44 - 47].
ثم اتَّجَه الوحيُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعلِّمه كيف يدعو، ومَن يدعو، ويُخبِرُه بصفات المؤهَّلين لقَبول النِّذارة والبِشارة، بقوله تعالى عقِب ذلك:
ï´؟ وَأَنْذِرْ بِهِ ï´¾ أنذِرْ بما أُنزل إليك من الوحيِ ï´؟ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ ï´¾ الذين يتفكَّرون فيما أُنزل عليهم من ربهم، ويخافون عاقبةَ أمرهم، ويعرِفون مآلهم في الآخرة؛ حشرًا وحسابًا وجزاءً بالحسنى أو السوءى، جنَّةً أو نارًا، ï´؟ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ ï´¾ لا يُشركون مع الله أحدًا، ولا يوالون معه أو مِن دونه ندًّا، ولا ينتظرون من مخلوق نفعًا ولا ضرًّا، ولا يستشفعون بغيره أبدًا؛ ï´؟ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ï´¾ كي يحذَروا العاقبةَ وسوء المصير، فيجتنبوا الشرك ظاهرًا وخفيًّا، ويحتاطوا لأنفسهم فيتقوا ربَّهم، ويفوزوا بخيريِ الدنيا والآخرة.
[1] لولا لها موضعان: أحدهما يمتنع بها الشيء لوجود غيره، ومن الامتناع قوله تعالى: ï´؟ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ ï´¾ [الحج: 40]، وثانيهما إذا لم يكن لها جواب، بمعنى: "هلَّا" للتحضيض؛ كما في قوله تعالى: ï´؟ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا ï´¾ [الأنعام: 43]، وقوله: ï´؟ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ ï´¾ [الأنعام: 8]، وقوله: ï´؟ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي ï´¾ [المنافقون: 10]، وقوله: ï´؟ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ ï´¾ [البقرة: 118].
[2] العُتُلُّ: الفظُّ غليظُ الطبع، شديد الخصومة، الجوَّاظ: الشديدُ الصوت في الشرِّ، والمتكبِّر المختال، والجَعْظَرِيُّ: بفتح الجيم والظاء بينهما عين ساكنة، والراء في الآخر مكسورة: هو الذي يتمدَّحُ بما ليس فيه، أو ما ليس عنده.
[3] كان صلى الله عليه وسلم إذا أتاه الأمرُ يسُرُّه، قال: ((الحمدُ لله الذي بنعمتِه تتمُّ الصالحاتُ))، وإذا أتاه الأمرُ يكرَهُه قال: ((الحمدُ لله على كلِّ حالٍ))؛ أخرجه ابن السني في "عمل اليوم والليلة"، والحاكم وصححه، وصححه الألبانيُّ في "صحيح الجامع".
[4] أصمَت الرجلُ فهو مصمَتٌ إذا أصيب بالصمتة وصار عاجزًا عن الكلام، والقُفْلٌ المُصمَتٌ: إذا أُبْهِمَ إغلاقُه، والبابٌ المُصمَتُ الذي لا يُفتَحُ.
[5] يتمعَّر: يتغيَّر غضبًا لله.