القراءة الحداثية للنصّ القرآني : دراسة نظرية حول المفهوم والنشأة والسمات والأهداف
د. فاطمة الزهراء الناصري *
2- سمات القراءة الحداثية للنصّ القرآني:
أ- سيادة العقل في العملية التأويلية:
تعتمد القراءة الحداثية أساسًا على العقل في التعامل مع الآيات القرآنية، بل والرأي المجرد عن الدليل حتى فيما يتعلّق بالحقائق الغيبية والقضايا التي وردت فيها أحاديث صحيحة وقطعية الدلالة، وهو الشيء الذي لا يتوافق مع أصول وقواعد تفسير القرآن؛ ولهذا فهم يستبعدون السُّنة تمامًا في العملية التفسيرية، ولا يلتفتون مطلقًا إلى الآثار الواردة في التفسير.
قال ابن النقيب في معنى حديث تفسير القرآن بالرأي: «جملة ما تحصَّل في معنى حديث التفسير بالرأي[47] خمسة أقوال: أحدها: التفسير من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير. الثاني: تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. والثالث: التفسير المقرِّر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تابعًا فيردُّ إليه بأيّ طريق أمكن وإن كان ضعيفًا. الرابع: التفسير على أن مراد الله كذا على القطع من غير دليل. والخامس: التفسير بالاستحسان والهوى»[48]، وإذا تأملنا القراءة الحداثية للآيات القرآنية نجد أن بها جُلَّ هذه الخصائص؛ لأن الحداثيين يتعرّضون للقرآن من غير حصول العلوم التي يجوز معها التفسير، بل إن جُلَّهُم غير متخصص في العلوم الشرعية والقرآنية بالخصوص[49]، وأكثر من ذلك هناك من لا يُحسِن حتى الكتابة باللغة العربية[50] فما بالك بتفسير القرآن! ورحم اللهُ الإمامَ الشاطبي الذي اشترط في المجتهد بلوغ درجة الاجتهاد في اللغة العربية[51]؛ حرصًا منه على عدم إساءة تفسير النصوص الشرعية، وإن كان هذا الرأي مبالغًا فيه إلا أنه ينمُّ عن مدى خطورة اللغة في فهم النصوص؛ ولتغطية النقص في الآليات المعرفية اللازمة للتفسير يسمِّي الحداثيون تعاطيهم مع القرآن الكريم: (قراءة).
أما الخاصية الثانية للتفسير بالرأي المذموم التي هي تفسير المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، فكثير كذلك في الكتابات الحداثية التي لا تعرف أن لون ابتلاء العقل بالتكليف -كما ابتلي السمع والبصر وغيرها من الجوارح- هو توقيفه عند المتشابهات، ومن هذا ما أتى به أبو القاسم حاج حمد فيما يخص الآيات المتعلقة بـ(يأجوج ومأجوج)[52] التي هي من علم الغيب ومن أشراط الساعة[53].
أما الخاصية الثالثة للتفسير بالرأي المذموم التي هي التفسير المقرر للمذهب الفاسد، بأن يجعل المذهب أصلًا والتفسير تابعًا، فهذا هو صلب القراءة الحداثية للآيات القرآنية؛ تنطلق من الفلسفات الغربية كمذهب أصل، وتجعل التفسير -أو القراءة بالمصطلح الحداثي- تابعًا، وهو بالذات ما يحصل عندما تُقرأ الآيات بخلفية علمانية أو تاريخية أو داروينية، بل إنّ بعض الحداثيين قد حاولوا التأصيل للحداثة مصطلحًا ومفهومًا من خلال القرآن نفسه[54]! كما أن هناك الكثير من الدعاوى العارية عن الدليل، والتي لا تستند إلا إلى الاستحسان والهوَى.
ب- الغموض والتضارب المنهجي:
يجمع بين القراءة الحداثية قاسم مشترك هو الغموض؛ إذ يعتبر الغموض الفكري والمنهجي والمصطلحي ظاهرة بارزة في هذا الخطاب، حيث اتخذ الإغراب والتعقيد تعويضًا عن الضحالة الفكرية والتضارب المنهجي الغالب على هذه الكتابات، وقد يبلغ هذا الغموض درجة «الإرهاب المصطلحي» عند بعض الحداثيين في تعاملهم مع القرآن الكريم كمحمد شحرور، بحيث لا يتردد القارئ في البداية باتهام نفسه بقصور الفهم والاستيعاب، فيصرف كلّ جهده لفكّ رموز ومغاليـق «الكتاب والقرآن»، لكنه لا يلبث طويلًا حتى يكتشف ضحالة المعاني والدلالات، فيكون قد كرّس قُواه ولهث وراء السراب: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا}[النور: 39]؛ لأن غموض التعبير هو حتمًا نتيجة لغموض التفكير، وكلّ استعلاء فكري إنما هو تغطية عن قِلَّة الزاد المعرفي، وهو ما عبَّر عنه محمد أركون نفسه فعاب على غيره الغموض والإبهام قائلًا: «يستخدمون الرطانة الفلسفية ويتلاعبون بها، أقصد الكلام الغامض المبهم الذي يقول كلّ شيء ولا يقول شيئًا يُذكر، أقصد العبارات الملتوية المعقّدة التي توهم أنها تحتوي على ألغاز الكون وأسراره وهي فارغة من المعنى»[55]!
ثم إنّ القراءة الحداثية للآيات القرآنية لا تفترض منهجًا علميًّا محددًا في التعامل مع النصّ القرآني، بل تتبنَّى عدة مناهج مختلفة أو حتى متناقضة في الآن نفسه، فتجد الواحد منهم مثلًا يتبنَّى الماركسية والبنيوية ونظرية التلقي في الوقت نفسه رغم أن بعضها قام على أنقاض بعض؛ مما يجعل هذا الخطاب بعيدًا مطلقًا عن الانسجام الفكري أو متَّسمًا باللامنهج، وهذا مزية للبحث العلمي بالنسبة لمحمد أركون، ويسمِّيه بالمنهج متعدد الاختصاصات[56]، وقال في كتابه: (القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني): «إنّ وجهة النظر هذه تتخذ أهمية حاسمة…؛ لأنها هي وحدها التي تجبرنا على الربط بين مختلف أنواع المنهجيات التحليلية»[57]، فهو من خلال المزج بين العديد من المناهج، ينتظر ولادة فكر تأويلي جديد للظاهرة الدينية، ويغطي على ذلك بما يسميه بـ(الإسلاميات التطبيقية) التي يدَّعي أنها تحتاج إلى مناهج متعددة في نفس الآن.
والحقيقة أنّ هذا اللامنهج الذي ينهجه إنما رمَى بفكره في العبثية، وقد سبقه إلى ذلك الفيلسوف (فيراباند بول)، وهو من فلاسفة ما بعد الحداثة الذين دَعَوا إلى نظرية الفوضى، ألَّف كتابًا بعنوان: «ضدّ المنهج»، ودعا إلى إعادة الاعتبار إلى التنجيم والكهانة والأساطير، بعد أزمة العقل الغربي الذي كانت الحداثة قد رفعته إلى مستوى التقديس، وألَّف كذلك كتاب: «وداعًا للعقل» حارب فيه العقل والموضوعية، وادَّعى بأن العلم ليس أدقَّ ولا أنفَذ من الأسطورة؛ ولهذا نجد اهتمامًا بالغًا من محمد أركون بالأسطورة والفكر الخرافي، قال: «ينبغي القيام بتحليل بنيوي لتبيين كيف أنّ القرآن ينجز أو يبلور (بنفس طريقة الفكر الأسطوري الذي يشتغل على أساطير قديمة متبعثرة) شكلًا ومعنًى جديدًا…؛ لأنه من المهم أن نعرف مدى تشظِّي الأساطير المعاد استخدامها إذا ما أردنا أن نطلق حكمًا دقيقًا على الروابط بين الأسطورة والتاريخ وبين العجيب المدهش وبين الوقائع الحقيقية وذلك فيما يخصّ القرآن»[58]، وفي هذا الكلام تقليد سافر لــ(فيراباند بول) وأمثاله من الفلاسفة، فهل على تفسير القرآن الكريم أن يتجرّع الأخلاط الفكرية المُرَّة التي تُسفِر عنها الحرب بين النظريات الفلسفية الغربية؟!
وعلى العكس من هذا نجد أنّ في التراث الإسلامي عمومًا مجموعة من الأنساق الفكرية المنسجمة، حتى وإن كانت تمثّل انحرافًا عقديًّا أو غلوًّا فكريًّا كما هو الأمر بالنسبة إلى فِرَق الشيعة والخوارج والمعتزلة، وقد كان هذا الأمر وراء ظهور الآراء الشاذة عندما يحاول المجتهد الوفاء لمنهجه الفكري [59].
3- من أهداف القراءة الحداثية للنصّ القرآني:
أ- إعادة قراءة النصّ القرآني:
إنَّ هَمَّ الحداثيين اليوم هو إعادة قراءة القرآن، ومحاولة الشرعنة لذلك من خلال القرآن الكريم نفسه، وهنا يلحُّ التساؤل عن مصير القراءة الأُولى[60] التي تقوم على منهج نعرفه، ينبع من القرآن نفسه، رغم وجود بعض الانحرافات -كما في الاتجاه الباطني والمعتزلي مثلًا- إلا أن الطابع العام لهذا المنهج هو الانطلاق من داخل النصّ، لكن القراءة الحداثية لا تجد أيّ غضاضة في استنساخ وإسقاط فلسفات غربية متنوعة على النصّ القرآني! والشرعنة لنفسها من فلسفات الحداثة وما بعدها!
وقد حاول محمد الطالبي التأصيل للقراءة الحداثية من خلال القرآن، وجعل الخلفية التاريخية منهجًا قرآنيًّا فقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُم بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ}[البقرة: 54، 55]، ويتبع ذلك أنّ كلامه حيٌّ أبدًا بيننا، فينبغي أن أصغي إليه إذن في الحين والآن الذي أنا فيه؛ ما يقول لي الله في هذه اللحظة وفي هذا المكان؟ ولا أستطيع أن أستفهم النصّ هذا الاستفهام -أي: من صلب الحداثة- إلَّا إذا وضعته أوَّلًا في أبعاده التاريخية والزمنية»[61].
ويعتبر حاج حمد إعادة القراءة هي الحلّ لكلّ الصعوبات التي تواجهنا في فهـم القرآن الكريم في الوقت الراهن: «كلّ الآيات التي تبدو من سياقها الجبرية المتناقضة مع الإطلاق، يجب أن تعاد قراءتها في إطار الإطلاق وضمن توسطات جدليَّة، كالآية: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}[يس: 81]، فالتوسطات الجدلية تشتمل هنا على ثلاثية تبدأ بالأمر وتتشكّل في صيرورتها عَبْر الإرادة لتنتهي إلى التشيُّؤ، فهناك صيرورة وليس مِن خَلْق فُجائيّ»[62]، فيجب إذن أن تنبـِني إعادة القراءة على أساس مفهوم الصيرورة في أصل الخلق ونَفْي الخلق الفجائي، وقد يستعمل أحيانًا مصطلح (الاسترجاع) بدل (إعادة القراءة)، قال: «استرجاعنا للنصّ القرآني هو استرجاع ألْسنِيّ رياضيّ؛ لنتكشَّف ما تعطيه المفردة القرآنية من عائد معرفي محدد»[63]، وأكّد هذا بأن ما يقوم به: «إنما هو تجديد يتجه إلى استرجاع النصّ القرآني وفق دلالة معرفية ألْسنيَّة للمفردة القرآنية العربية»[64]، وقد بيَّن للقارئ مسبقًا اختلاف العملية التي يقوم بها اتجاه القرآن الكريم عمّا هو موجود في التراث القرآني فقال: «هنا ستجدون اختلافًا كبيرًا وكثيرًا بين الخلاصات والنتائج التي توصَّلْنا إليها باسترجاعنا للنصّ القرآني عَبْر هذه المداخل وما يكاد يجمع عليه علماء أُمَّتنا»[65].
لقد عَلَّمَنا التاريخ أنّ كلّ مشروع لهدم بناءٍ حضاريٍّ ما، يبدأ من إعدام النصّ المؤسس وإبادة معالمه الدلالية؛ لذلك فالحداثيون المتذرعون بالتجديد لإعادة قراءة النصّ القرآني على أسس المنهجيات الفلسفية واللغوية الغربية الحديثة بعد القطع مع التراث التفسيري والبدء من الصفر! إنما يكررون نفس عمل المستشرقين الذين وجَّهوا سهامهم إلى النصّ القرآني بشكل مباشر أو غير مباشر بإثارة كلّ أنواع الشبهات حوله، ويكرِّسون نفس المحاولة لإبادة المعالم الدلالية للنصّ المؤسس.
ب- القطيعة المعرفية بالتراث القرآني وتضخيم الآراء الشاذة:
من الحداثيين الذين سفَّهوا التراث التفسيري ودعَوا إلى التعامل المباشر مع القرآن الكريم، جمال البنا وعبد المجيد الشرفي؛ قال الأول: «المسلمون فهموا القرآن عبر التفاسير فَضَلُّوا… لا بدَّ أن نستبعد الالتزام بالتفاسير؛ إذ لا فائدة فيها، ونقرأ القرآن مباشرة»[66]، وقال الثاني: «لو أبعدنا -وهذا مجرد افتراض- هذه النصوص الثواني[67]، وهذه السُّنة التأويلية، فإننا إذ ذاك نتعامل مباشرة مع النصّ القرآني بطريقة مختلفة عن هذه التأويلات التاريخية، فما نقوله بالنسبة للنص المقدس، وتعامل المسلمين معه، لا يختلف اختلافًا نوعيًّا مع حكم التقليد في المسيحية (La tradition)؛ ففي المسيحية الكاثوليكية، نرى أنّ هذا التقليد له أولوية بالنسبة إلى النصّ…؛ ولهذا السبب فإنّ الإصلاح البروتستانتي كان بمثابة ردِّ فعل على هذه الوساطة، وقد رفع البروتستان شعار «الكتاب وحده»[68].
هذه هي وجهة نظر الحداثيين النهضوية: «الكتاب وحده»[69]! فما أشبهها مِن دعوة بصنيع الخوارج عندما أَشْهَروا المصاحف داعِين إلى تحكيم القرآن وحده! وهل يحكِّم القرآن غير الرجال؟! وهل يمكن فهم النصّ وتفعيله خارج أيّ منهج من المناهج! إنها إيديولوجية قديمة يعيدها التاريخ!
ثم إنّ هناك مجالات لا يمكن أن يضاهي فيها المتأخرون الأوائلَ من المفسِّرين، سواء الصحابة الذين عاصروا نزول القرآن أم التابعين الذين أخذوا عنهم؛ ومن ذلك كلّ ما يتعلق باللغة والبلاغة، وهذا أمر بديهي أكّده -أحد كبار المنظرين للهرمينوطيقا- (شليرماخر) قائلًا: «كلما تقدم النصّ في الزمن صار غامضًا بالنسبة إلينا، وصرنا -مِن ثَم- أقرب إلى سوء الفهم لا إلى الفهم، وعلى ذلك لا بد من قيام (علم) أو (فنّ) يعصمنا من سوء الفهم، ويجعلنا أقرب إلى الفهم»[70].
ومن المقتضيات المنهجية في علم أصول التفسير الأخذ بقول الصحابي ثم التابعي فيما يتعلق بالأمور النقلية واللغوية، وتقديم آرائهما في هذا المجال على رأي المجتهد، وليس في هذا أيّة دعوة لتذويب الذّات في (التراث)، وإنكار القدرة على الإتيان بمثل جهود الأقدمِين في التفسير؛ إذ لم يدَّعِ أحد أنّ في الإسلام نصوصًا مقدسة غير القرآن الكريم والسُّنة النبوية، فالمطلوب إذن إنما هو استلهام أدوات الفهم ومناهج البحث والدرس مع فهم يكفل لنا الإضافة وإتمام البناء.
وكثيرًا ما حاول الحداثيون الاستدراك على علوم القرآن فظهر أنهم لم يستوعبوها أصلًا! فأين هم من الاستدراك؟ ومن الأمثلة على ذلك رفض استخدام كلمة: (سبب) فيما يتعلق بأسباب نزول القرآن، والدعوة إلى ضرورة استبدالها بعبارة: «تاريخية نزول التشريع»، قال سامر إسلامبولي: «لا يصحُّ استخدام كلمة: (سبب) على نزول التشريع الإلهي؛ لأن السبب هو: (ما يَلزَم مِن وجودهِ الوجود، ومن عدَمهِ العدم)، وهذا غير منطبق على التشريع؛ لأنه سوف ينزل -لا محالة- كونه تشريعًا إنسانيًّا عالميًّا وليس قوميًّا عينيًّا، والأصح إطلاق تاريخية نزول التشريع التي تفيد دلالة الوقت والحدث المناسب الذي تم اختياره من قِبَل الخالق لينزل النصّ التشريعي بصياغة مناسبة فورًا؛ لأن النصّ التشريعي ليس للتلاوة وإنما هو تشريع للواقع الاجتماعي، ومن هذا الوجه ارتبطت أحداث معيَّنة بنزول النصّ التشريعي، ليس كسبب نزول له، وإنما كظرف مناسب لإنزال النصّ الإلهي إلى حيِّز التطبيق العملي»[71]، ينمُّ هذا الكلام -رغم أنه مليء بالنّفَس الاستدراكي- على عدم استيعاب صاحبه لمبحث أسباب النزول كما سطره العلماء، فبنَى زعمه بتصحيح خطأ السابقين على خطأ منهجي آخر؛ وذلك بإسقاط المفهوم الفلسفي للسبب[72] على مفهومه في علوم القرآن، مع العلم باختلاف دلالات المصطلحات باختلاف الحقول المعرفية! فاستعمال مصطلح السبب في مبحث أسباب النزول في علوم القرآن، إنما هو على أصله اللغوي، أي: (الوسيلة)، و«كلّ شيء يتوصل به إلى غيره»[73] كما في قوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ}[الحج: 15].
ومن منطلق الاعتقاد بالإرادة الإلهية المطلقة لا يلزم من حصول الوسيلة وجود النتيجة، وأن النتيجة غير متوقفة حتمًا على حصول الوسيلة؛ لهذا كان تعبير علماء القرآن بـ(أسباب النزول) صحيحًا؛ لأنهم يقصدون الأحداث والوقائع التي قدَّرها اللهُ لتكون وسيلة ومَدْعاة لنزول الوحي، ولم يستعملوا السبب بمفهومه الفلسفي، إذ الأصل في الكلام حمله على أصله اللغوي حتى يثبت أنه اصطلاح.
ويكتسب (السبب) دلالة أخرى عند الأصوليين -غير الدلالة اللغوية والمنطقية- إذ هو «ما يكون طريقًا إلى الحكم من غير تأثير ولا توقُّف للحكم عليه»[74]، وقد فصَّل الإمام الشاطبي القول في مبحث (السبب) بما يسمح بملاحظة الفروق الكبيرة بين كلٍّ من مفهومه الأصولي والمنطقي، فقال: «مشروعية الأسباب لا تستلزم مشروعية المسبَّبات وإن صح التلازم بينهما عادةً، ومعنى ذلك أن الأسباب إذا تعلق بها حكم شرعي من إباحة أو ندب أو منع أو غيرها من أحكام التكليف، فلا يلزم أن تتعلق تلك الأحكام بمسبَّباتها، فإذا أَمَر بالسبب لم يلزم الأمر بالمسبَّب، وإذا نَهَى عنه لم يلزم النهي عن المسبَّب…»[75]، فالشاطبي بتركيزه على مسألة عدم التلازم بين الأسباب والمسبَّبات، إنما قصَد استبعاد المفهوم المنطقي للسبب عن مفهومه الأصولي؛ لهذا يجب التنبّه إلى أن ما يدعوه الحداثيون بالدراسة النقدية للتراث القرآني، يقوم على الكثير من الخلط المنهجي، مما يجعله على هامش الأعمال العلميّة الرصينة.
وقد حرص الحداثيون على التلويح بالآراء الشاذّة في التراث، مع أن ضرورة الترجيح غير مقتصرة على الأحكام، بل تشمل كلّ خلاف في أيّ مجال من المجالات الفكرية، وهذا لا يتنافى مع قبول التعدّد والاختلاف، ولكنه ضد الفوضى والعبثية، والحدُّ الفاصل بينهما هو الدليل؛ فكلُّ قول لا يستند إلى دليلٍ وجودُهُ كعدمهِ، ولا يعتبر مجرد وجوده دلالة على صحة المعارضة به، فليست كلّ الخلافات حقيقية ومعتبَرة بحجة وجودها في التراث، وبالتالي كلّ مَن جاء بقول له سلَف في التراث يكون له الحقّ في المعارضة به والطعن في الحقائق الثابتة الراجحة، ويكون بالتالي قوله أصيلًا لانتمائه إلى التراث! إنما يريد الحداثيون بهذا الأسلوب إغلاق أفواه من يسمُّونهم بـ(التراثيِّين)، فيُشْهِرون في وجوههم تأويلات منسوبة إلى التراث أو موجودة فيه فعلًا!
فالحاصل أنّ القراءة الحداثية للآيات القرآنية ليست منهجًا علميًّا للتعامل مع الآيات القرآنية يتميز بالحياد ويستند إلى أصول وقواعد، وإنما هي خليط من الفلسفات والإيديولوجيات اتُّخِذَت كمنطلقات للتعاطي مع الآيات القرآنية؛ لهذا اصطبغَتْ بمجموعة من السّمات جعلَتْها قراءة موجَّهة مسطَّرة الأهداف مسبقًا، بعيدة عن الموضوعية والمنهج العلمي، ولا أدلَّ على ذلك مِن جمعِها بين مناهج متناقضة كالبنيوية والتفكيكية وغيرها.
يتبع