عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 10-07-2020, 02:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,565
الدولة : Egypt
افتراضي رد: سبل علاج النفس وتهذيبها



14- أحْسِن الظنَّ بالله، ولا تيئس من رحمته أبدًا.

15- جاهِدْ نفسك على ترك الشَّهوات وإتيان المكاره.

16- لا تقترب من مواضع الفِتَن حتَّى لا تقع فيها.

17- الْتَزم بمنهج أهل السُّنة والجماعة؛ لأنَّها الفرقة الناجية.

وحتَّى لا يَطول بنا البيان في شَرْح كلِّ هذه السُّبل؛ أكتفي هنا ببيان الثَّلاثة الأولى منها، وأترك الباقي لفِطْنة واجتهاد القارئ في معرفة تفاصيلها وبيانها.

وأُوصيه بالبحث والتأمُّل في هذه الكتب الثلاثة النَّفيسة للعلاَّمة ابن القيِّم تلميذ شيخ الإسلام ابن تيميَّة - رحمهما الله تعالى - وفيها ما يَكْفي ويشفي، والله المستعان:
1- "إغاثة اللَّهفان من مصائد الشيطان".
2- "الجواب الكافي لمن سأل عن الدَّواء الشَّافي".
3- "روضة المُحِبِّين ونزهة المشتاقين".

ولْنَشرع في بيان السُّبل الثَّلاثة الأولى بلا تطويل مُملٍّ أو تقصير مُخِل، والله المستعان.

1 - لا تفتر عن ذكر الله تعالى:
قال - تعالى -: ï´؟ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي ï´¾ [البقرة: 152]، وقال - تعالى -: ï´؟ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ï´¾ [الأعراف: 205].

وقال النبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مثَلُ الذي يَذْكر ربَّه والذي لا يذكر ربَّه، مثَلُ الحيِّ والميِّت))[8].

واعلم - أخي القارئ - أنَّ الذَّاكر لله تعالى قريبٌ من ربِّه، وفي جَناب رَحْمته وكرَمِه، تَستغفر له ملائكتُه، وينبغي أن يَلْتَزم بآداب الذِّكر وشروطِه؛ ليكون مقبولاً عند الله تعالى، وتَسْمُو نفْسُه بِقُربِها من الله تعالى.

قال النوويُّ في كتابه "الأذكار" (1/ ص 10) ما مُختصَره:
"الذِّكر يكون بالقلب، ويكون باللِّسان، والأفضل منه ما كان بالقَلْب واللِّسان جميعًا، فإنِ اقتصر على أحدِهِما فالقلب أفضل، ثُمَّ لا ينبغي أن يَتْرك الذِّكر باللِّسان مع القلب؛ خوفًا من أن يُظَنَّ به الرِّياء، بل يَذْكر بهما جميعًا، ويقصد به وَجْه الله تعالى".

ثم قال - رحمه الله تعالى -:
"اعلم أنَّ فضيلة الذِّكر غير مُنْحَصِرة في التَّسبيح والتهليل، والتحميد والتَّكبير ونَحْوِها، بل كلُّ عاملٍ لله تعالى بطاعة فهو ذاكِرٌ لله تعالى، كذا قاله سعيد بن جُبَير - رضي الله عنه - وغيره من العلماء.

وقال عطاء - رحمه الله -: مَجالس الذِّكر هي مَجالس الحلال والحرام؛ كيف تَشْتري وتبيع؟ وتصلي وتصوم؟ وتنكح وتطلِّق؟ وتحجُّ؟ وأشباه هذا"؛ اهـ.

والنفس تطمئنُّ إلى ما يطمئِنُّ إليه القلب، والقلب يطمئن بذِكْر الله؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ï´¾ [الرعد: 28].

ومِن ثَمَّ، لا مندوحة من كَثْرة الذِّكر؛ لِمَا له من الفوائد العظيمة في صَلاح النَّفس والقلب معًا.

وقال ابن القيِّم - رحمه الله تعالى - في "الوابل الصَّيِّب من الكَلِم الطيِّب"، (1/ ص56) عن فوائد الذِّكر ما مُختصَرُه:
"ولا ريب أنَّ القلب يَصْدأ كما يصدأ النُّحاس والفِضَّة وغيرهما، وجِلاؤه بالذِّكر، فإنه يَجْلوه حتى يَدَعَه كالمِرْآة البيضاء، فإذا ترك صَدِئ، فإذا ذكَر جلاه.

وصدَأُ القلب بأَمْرين؛ بالغفلة، والذَّنب، وجِلاؤه بشيئين؛ بالاستغفار، والذِّكر.

فمَن كانت الغفلةُ أغلبَ أوقاته كان الصَّدأ مُتَراكبًا على قلبه، وصدَؤُه بحسب غفلته، وإذا صَدِئ القلب لم تَنْطبع فيه صُوَر المعلومات على ما هي عليه، فيرى الباطل في صورة الحقِّ، والحقَّ في صورة الباطل؛ لأنَّه لَمَّا تراكَم عليه الصَّدَأ أظْلَمَ فلم تَظْهر فيه صورة الحقائق كما هي عليه، فإذا تراكم عليه الصدأ واسودَّ ورَكِبه الرَّان، فسَد تصَوُّره وإدراكه، فلا يَقْبل حقًّا ولا يُنْكِر باطلاً، وهذا أعظم عقوبات القلب.

وأصل ذلك من الغفلة واتِّباع الْهَوى؛ فإنهما يَطْمِسان نور القلب ويعْمِيان بصَره؛ قال - تعالى -: ï´؟ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ï´¾ [الكهف: 28].

فإذا أراد العبد أن يَفْتدي برجل فَلْينظر: هل هو من أهل الذِّكر أو من الغافلين؟ وهل الحاكِمُ عليه الهوى أو الوحي؟


فإن كان الحاكم عليه هو الْهَوى وهو من أهل الغَفْلة، كان أمره فرُطًا، ومعنى الفرُطِ قد فُسِّر بالتضييع؛ أيْ: أمْرُه الذي يجب أن يَلْزَمَه ويقوم به، وبِه رشْدُه وفلاحه ضائع قد فرط فيه، وفُسِّر بالإسراف؛ أيْ: قد أفرط، وفُسِّر بالإهلاك، وفُسِّر بالخلاف للحقِّ، وكلها أقوال متقارِبَة، والمقصود أنَّ الله - سبحانه وتعالى - نَهى عن طاعة مَن جَمَع هذه الصِّفات.

فينبغي للرَّجل أن ينظر في شيخه وقُدْوته ومَتْبوعه، فإنْ وجَده كذلك فلْيبْعد منه، وإنْ وجَدَه ممن غلب عليه ذِكْر الله - عزَّ وجلَّ - واتِّباع السُّنة، وأمره غير مَفْروط عليه، بل هو حازم في أمره - فلْيَستمسك بِغَرْزِه، ولا فرق بين الحيِّ والميت إلاَّ بالذِّكر، فمَثَل الذي يَذْكر رَبَّه والذي لا يذكر ربَّه كمثَل الحيِّ والميت.

ثم ذكر - رَحِمَه الله تعالى - عشرات من فوائد ذِكْر الله تعالى، والتي فيها صلاحُ القلوب والنُّفوس، نَذْكر بعضها هنا، والله المستعان:
1- أنَّه يَطْرد الشَّيطان ويقمعه ويكسره.

2- أنه يُرْضي الرحمن - عزَّ وجلَّ.

3- أنه يزيل الهم والغم عن القلب.

4- أنه يَجْلب الرِّزق.

5- أنه يكسو الذَّاكر المهابة والحلاوة والنضرة.

6- أنه يورثه المَحبَّة التي هي رُوح الإسلام وقُطْب رحَى الدِّين، ومدار السعادة والنَّجاة، وقد جعل الله لكلِّ شيء سببًا، وجعل سبب المَحبَّة دوام الذِّكر، فمن أراد أن يَنال مَحبَّة الله - عزَّ وجلَّ - فلْيَلْهَج بذِكْره؛ فإنه الدَّرس والمذاكرة كما أنه باب العلم، فالذِّكْر باب المَحبَّة وشارعها الأعظم وصِرَاطها الأقوم.

7- أنَّه يورثه المراقبة حتى يُدْخِله في باب الإحسان، فيَعْبد الله كأنَّه يراه، ولا سبيل للغافل عن الذِّكر إلى مقام الإحسان، كما لا سبيل للقاعد إلى الوصول إلى البيت.

8- أنه يورثه الإِنَابة، وهي الرُّجوع إلى الله - عزَّ وجلَّ - فمتَى أكثر الرُّجوع إليه بِذِكْره أورَثَه ذلك رجوعَه بقلبه إليه في كلِّ أحواله، فيَبْقى الله - عزَّ وجلَّ - مَفْزَعَه وملجَأَه، ومَلاذَه ومَعاذَه، وقِبْلةَ قلْبِه، ومَهْرَبه عند النوازل والبلايا.

9- أنَّه يورثه الهيبة لربِّه - عزَّ وجلَّ - وإجلالَه؛ لشدَّة استيلائه على قلبه، وحضوره مع الله تعالى، بخلاف الغافل، فإنَّ حجاب الهيبة رقيقٌ في قلبه.

10- أنَّه يورثه ذِكْرَ الله تعالى له؛ كما قال - تعالى -: ï´؟ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ ï´¾ [البقرة: 152]، ولو لم يكن في الذِّكر إلاَّ هذه وحدها لكَفى بها فضلاً وشرفًا، وقال - صلَّى الله عليه وسلم - فيما يَرْوِي عن رَبِّه - تبارك وتعالى -: ((مَن ذكَرَني في نفْسِه ذكرتُه في نفسي، ومن ذكَرني في مَلأٍ ذكَرْتُه في ملأٍ خير منهم)).

11- أنه يحطُّ الخطايا ويُذْهِبها؛ فإنَّه من أعظم الحسنات، والحسنات يُذْهِبن السيِّئات.

12- أنه سبب اشتغال اللِّسان عن الغيبة والنَّميمة، والكذب والفُحْش والباطل، فإنَّ العبد لا بُدَّ له من أن يتكلَّم، فإن لم يتكلَّم بِذِكْر الله تعالى وذِكْر أوامره تكلَّم بهذه المُحَرَّمات أو بعضها، ولا سبيل إلى السَّلامة منها ألبتَّة إلاَّ بذِكْر الله تعالى.

والمشاهدة والتجربة شاهدان بذلك، فمَن عوَّد لِسانه ذِكْرَ الله صان لسانه عن الباطل واللَّغو، ومن يبس لسانه عَن ذِكْر الله تعالى ترَطَّب بكلِّ باطل ولَغْو وفُحْش، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله.


2- أتْبِعِ السيِّئة الحسنة تَمْحُها، وحافِظْ على حسناتك:
فلو نطَق لِسانُك بكلمة لا يَرْضاها الله تعالى كغِيبة أو نَميمة أو كذبة فهذه سيِّئة، وللمحافظة على رُجْحان كفَّة حسناتك، أتْبِع السيِّئة الحسنة، وهذا ما أوصانا به الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((اتَّقِ الله حيثُما كنتَ، وأتبِعِ السيِّئةَ الحسنة تَمْحُها، وخالِقِ الناسَ بِخُلُق حسن))[9].

فعليك بذِكْر الله، ولك بكلِّ تسبيحة صدقَة، وكلِّ تهليلة صدقة، وكلِّ تكبيرة صدقة، أو قل بعدها: "أستغفر الله العظيم، وأتوب إليه"، وإيَّاك والإصرارَ على الخطأ في الكلام، فرُبَّما كانت كلمة تُخْرِجك من المِلَّة؛ لحديث البخاريِّ عن أبي هريرة، عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم – قال: ((إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من رِضْوان الله لا يُلْقِي لَها بالاً، يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخط الله لا يُلْقِي لها بالاً يهوي بها في جهنَّم))[10].

ومن رحمة الله أنَّه يُجازي السيِّئة بالسيِّئة، والحسنة بِعَشر؛ لِحَديثِ مُسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((قال الله - عزَّ وجلَّ -: إذا هَمَّ عبدي بسيِّئة فلا تَكْتبوها عليه، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها سيِّئة، وإذا هَمَّ بحسنة فلم يَعْمَلها فاكتبوها حسَنة، فإنْ عَمِلَها فاكتبوها عشرًا))[11].

فالمقصود: إنْ عَمِلْت عملاً لا يَرْضاه الله حرَّضك عليه شيطانُك؛ لِغَضب أو كِبْر، فعليك بِعَمَل يمحو العمل السيِّئ؛ لأنَّ الحسنات تُذْهِبْن السيِّئات.

وهذا الأمر يَسْتلزم من العبد أن يكون مُراقِبًا ومُحاسبًا لِنَفْسِه، وإلاَّ هلك بتراكُم السيِّئات، وقِلَّة الحسنات يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلاَّ مَن أتى الله تعالى بِقَلب سليم.

ويَجِب على مَن تستحلُّ نَفْسُه المعصية أيًّا كانت أن يُبادر إلى تقويمها وترويضها، ولا يتركها على هواها، فتُفْسِد عليه دينَه ودنياه، ولا يكتفي بإصلاح خُطاها بالحسنات الماحية، بل لا بُدَّ من تغييرها للأفضل ولو بالتدرُّج؛ وذلك عن طريق المجاهدة.

قال العلاَّمة ابن القيِّم في "الفوائد" (1/60) ما نَصُّه:
"قال - تعالى -: ï´؟ وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ï´¾ [العنكبوت: 69] علَّق سبحانه الهداية بالجهاد، فأكمَلُ الناس هداية أعظَمُهم جِهادًا، وأفرض الجهاد جهاد النَّفْس، وجهاد الْهَوى، وجهاد الشيطان، وجهاد الدُّنيا، فمَن جاهَدَ هذه الأربعة في الله هداه الله سبُلَ رِضاه المُوصلة إلى جَنَّتِه، ومن ترك الجهاد فاته مِن الْهُدى بحسب ما عطَّل من الجهاد، قال الْجُنَيْد: والذين جاهدوا أهواءَهم فينا بالتَّوبة لَنهدِيَنَّهم سبُلَ الإخلاص، ولا يتمكَّن من جهاد عدوِّه في الظاهر إلاَّ مَن جاهد هذه الأعداء باطِنًا، فمن نُصِر عليها نُصر على عدوِّه، ومن نُصِرَتْ عليه نُصِر عليه عدوُّه"؛ اهـ.


3- تفَقَّه في الدِّين؛ لِتَعبد الله على بصيرة مِن أمرك:
أغْلَب عيوب وآفات النَّفس تأتي من الجهل بالحلال والحرام، ولو تفقَّه العبد في دينه لاسْتَطاع ترويض نفسه وتقويمها على طاعة الله تعالى، وفي القرآن والسُّنة من الحَثّ على العلم والتعلُّم نصوص كثيرة، أذكر منها:
قوله - تعالى -: ï´؟ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا ï´¾ [طه: 114].

وقوله - تعالى -: ï´؟ يَرْفَعِ اللَّهُ الَذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ والَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ï´¾ [المجادلة: 11].

ومن السُّنة قوله - صلى الله عليه وسلَّم -: ((لا حسَدَ إلاَّ في اثنتَيْن: رجُلٍ آتاه الله مالاً، فسُلِّط على هلَكَتِه في الحقِّ، وآخر آتاه الله حكمة فهو يَقْضي بها ويُعَلِّمها))[12].

وقوله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((مَن سلَك طريقًا يَلْتمس فيه عِلمًا سهَّل الله له طريقًا إلى الجنَّة))[13].


والوسيلة للتفقُّه تأتي من عدَّة طُرُق، منها:
1- أن يُحضِّر درسًا أسبوعيًّا على الأقلِّ، في المسجد أو عن طريق الاستماع أو المشاهدة، ولْيُكثِر من الاطِّلاع والقراءة لِكُتُب العلماء الثِّقات من أهل السُّنة والجماعة.

2- أن يَسأل أهل الذِّكر ويَسْتفسر حتَّى يستوثق من الصَّواب عندما تستشكل عليه بعضُ المسائل؛ لتوضيح ما لم يَفْهمه، ولْيَحْذر من تفسيرها على هواه، فيفهم غير مرادها، فيقع في معاصٍ لم يكن يَرْتَكِبها، ولْتَكن أسئلته في المُهِمِّ، وليس في إشكالات وتفاهات، وإنَّما ما ينفع دينه ودُنياه.

3- أن يعمل بما يَعْلم، ولا يكون التزامه أجوف؛ لأن العمل بدون عِلْم لا يكون، والعلم بدون عمل جنون.

يقول ابن القيِّم في كتابه "طريق الهجرتين"، (1/ 278) ما نصُّه:
"فمِن الناس مَن يكون له القُوَّة العلميَّة الكاشفة عن الطريق، ومنازِلِها وأعلامها، وعوارضها ومَعاثرها، وتكون هذه القُوَّة أغلب القُوَّتَيْن عليه، ويكون ضعيفًا في القوَّة العمليَّة، يبصر الحقائق ولا يعمل بِمُوجبِها، ويرى الْمَتالف والْمَخاوف والْمَعاطب، ولا يتوقَّاها، فهو فقيه ما لم يحضر العمل، وإذا حضر العمل شارك الجُهَّال في التخلُّف، وفارقَهم في العلم، وهذا هو الغالِب على أكثر النُّفوس المشتَغِلَة بالعلم، والمعصومُ مَن عصَمَه الله، ولا قُوَّة إلاَّ بالله.

ومن النَّاس مَن تكون له القُوَّة العمَليَّة الإراديَّة، وتكون أغلب القُوَّتين عليه، وتقتضي هذه القوَّة السَّيْر والسُّلوك، والزُّهد في الدُّنيا، والرَّغبة في الآخرة، والجِدَّ والتَّشمير في العمل، ويكون أعمى البصَر عند وُرود الشُّبهات في العقائد، والاِنْحرافات في الأعمال والأقوال والْمَقامات كما كان الأوَّل ضعيف العقل عند وُرود الشَّهوات، فَداءُ هذا مِن جهله، وداء الأوَّل من فَساد إرادته وضَعْف عقله.

وهذا حال أكثر أرباب الفَقْر والتصوُّف السَّالكين على غَيْر طريق العِلْم، بل على طريق الذَّوْق والوجد والعادة، يرى أحدهم أعمى عن مَطْلوبه لا يَدْري مَن يَعْبد ولا بِمَاذا يعبده؟ فتارةً يَعْبده بِذَوقه ووجده، وتارة يعبده بعادة قومه وأصحابه، مِن لبْس معيَّن، أو كشف رأس، أو حَلْق لِحْية ونحوها، وتارة يَعْبُده بالأوضاع التي وضَعَها بعضُ المُتَحذْلِقين، وليس له أصْلٌ في الدِّين، وتارة يعبده بما تُحبُّه نفسه وتهواه، كائنًا ما كان، وهُنا طرُق ومَتاهات لا يُحْصِيها إلاَّ ربُّ العِباد.

فهؤلاء كلُّهم عمي عن ربِّهم وعن شريعته ودينه، لا يعرفون شريعته ودينه الذي بَعَث به رسُلَه، وأنزل به كتُبَه، ولا يَقبل مِن أحدٍ دِينًا سواه، كما أنَّهم لا يَعْرفون صفات ربِّهم التي تعرَّف بها إلى عِباده على ألْسِنَة رسُلِه، ودعاهم إلى معرفته ومَحبَّتِه مِن طريقها، فلا معرفة بالرَّبِّ، ولا عبادة له، ومن كانت له هاتان القُوَّتان استقام له سَيْره إلى الله، ورُجِيَ له النُّفوذ، وقَوِيَ على ردِّ القواطع والموانع بِحَول الله وقُوَّته، فإنَّ القواطع كثيرة، شأنها شديدٌ، لا يَخْلص مِن حبائلها إلاَّ الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطَّريق معمورة بالسالكين، ولو شاء الله لأزالها، وذهب بها، ولكنَّ الله يَفْعل ما يريد.

والوقت - كما قيل - سيفٌ، فإنْ قطَعْتَه، وإلاَّ قطَعَك، فإذا كان السَّير ضعيفًا، والهِمَّة ضعيفة، والعلم بالطريق ضعيفًا، والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة، فإنَّه جَهْد البلاء، ودَرَكُ الشَّقاء وشَماتة الأعداء، إلاَّ أن يتدارَكَه الله برحْمَة منه مِن حيثُ لا يَحْتسب، فيأخذ بِيَدِه، ويخلصه من أيدي القواطع، والله ولِيُّ التوفيق؛ اهـ.

ونكتفي بما ذكَرْنا من شَرْح وبيانٍ لسُبُلِ علاج النَّفْس وتهذيبها، والله من وراء القصْد، وهو يهدي السبيل.


[1] أخرجه البخاري في الجنائز ح/ 237، ومسلم في الإيمان ح/ 94.

[2] أخرجه مسلم في الإيمان ح/ 30، والبخاري في الجهاد ح/ 2856.

[3] أخرجه أبي داود في الأدب، وصحَّح الألبانِيُّ إسناده في "سنن أبي داود"، ح/ 4986.

[4] "تفسير القرآن العظيم"، لابن كثير، (3/ 125).

[5] أخرجه أحمد، والبيهقيُّ في "شُعَب الإيمان"، وصحَّح الألبانِيُّ إسناده في "المشكاة"، ح/ 578.

[6] أخرجه مسلم في الإيمان ح82، وأبو داود في السُّنة ح/ 4678.

[7] قال الألباني: "صحيح"؛ انظر حديث رقم: 3512 في "صحيح الجامع".

[8] أخرجه البخاري في الدَّعوات ح/ 6407.

[9] أخرجه التِّرمذي في "البِرِّ والصِّلة"، وصحَّح الألباني إسناده في "الجامع"، ح/ 97.

[10] أخرجه البخاري في الرِّقاق ح/ 6478.

[11] أخرجه مسلم في الإيمان ح/ 128.

[12] أخرجه البخاري في العلم ح/ 73، ومسلم في صلاة المسافرين ح/ 816.

[13] وإسناده صحيح، انظر حديث رقم: 6298 في "صحيح الجامع"، للألباني.




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.30 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.68 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]