14- ألا يقرأ القرآن في أقل من ثلاثة أيام: لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يفقه من قرأ القرآن في أقل من ثلاث))، لكن قد يبحث الإنسان عن دليل معين، فيستعرض القرآن في ذهنه استعراضاً كما فعل الشافعي - رحمه الله - فقد استعرض القرآن كله في ليلة، يبحث عن دليل الإجماع، فهذا لا يسمى تلاوة، وبالتالي نطبق عليه أحكام التلاوة، وآداب التلاوة، فنقول: لا بد من الترتيل ونحو ذلك.
15- البكاء عند تلاوة القرآن الكريم: لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً)[الإسراء:107-109]؛ ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر ابن مسعود - رضي الله عنه - أن يقرأ عليه؛ التفت إليه ابن مسعود فإذا عيناه تذرفان - عليه الصلاة والسلام -، والبكاء الصادق عند قراءة القرآن دليل الخشوع.
البكاء على أنواع:
1- منه ما يكون بكاء رحمة ورقة.
2- ومنه ما يكون بكاء خوف وخشية.
3- ومنه ما يكون بكاء محبة وشوق.
4- ومنه ما يكون بكاء فرح وسرور.
5- ومنه ما يكون بكاء حزن وجزع.
البكاء المطلوب عند تلاوة القرآن هو بكاء الخشوع وليس بكاء النفاق، وليس البكاء المستعار، أما التباكي فهو تكلف البكاء، وقد جاء في حديثٍ: ((إن لم تبكوا فتباكوا))، ولكن الحديث ضعفه الشيخ ناصر، وذكر الشيخ عبد العزيز بن باز - رحمه الله - في بعض فتاويه أنه لا يعرف صحته، والحديث رواه أحمد وغيره.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من أحسن الناس صوتاً بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله)).
التباكي نوعان:
أما بالنسبة للتباكي فإنه ينقسم إلى: تباكٍ محمود، وتباكٍ مذموم:
أما التباكي المحمود: فهو الذي يستجلب رقة القلب، وخشية الله، وليس تباكي الرياء والسمعة مثلما قال عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد رآه يبكي هو وأبو بكر - رضي الله عنه - في شأن أسرى بدرٍ: «أخبرني ما يبكيك يا رسول الله، فإن وجدت بكاءً بكيت، وإن لم أجد تباكيت لبكائكما»، ولم ينكر عليه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعض السلف: «ابكوا من خشية الله، فإن لم تبكوا فتباكوا».
أما التباكي المذموم: فهو الذي يجلب ويستجلب به حمد الخلق، وثناءهم عليه، فيتظاهر بالبكاء أمام الناس، فهذا تباكي النفاق، وكان - صلى الله عليه وسلم - يبكي عند تلاوة القرآن، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ القرآن وهو يصلي، «ولجوفه أزيزٌ كأزيز المرجل».
وقصة أبي بكر - رضي الله عنه - معلومة في مرض وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -، قالت عائشة - رضي الله عنها -: «إنه رجلٌ رقيق، إذا قرأ غلبه البكاء»، وفي رواية: «إن أبا بكر رجلٌ أسيف، إذا قام مقامك لم يستطع أن يصلي بالناس»، وعائشة - رضي الله عنها - مرَّ عليها القاسم وهي تقرأ: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ)[الطور:27]، ترددها، وتبكي، وتدعو.
16- التلاوة بين الجهر والإسرار: أما قضية الجهر بالقرآن فقد ورد فيها أحاديث مثل قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: ((ما أذن الله لشيء ما أذن لنبيٍ حسن الصوت يتغنى بالقرآن يجهر به))، ومن الجهة الأخرى ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة، والمسر بالقرآن كالمسر بالصدقة)).
17- القراءة من المصحف إذا لم يشغل عن التدبر: حيث جاء مدح القراءة من المصحف في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من سرَّه أن يحب الله ورسوله فليقرأ في المصحف)) وصححه الشيخ ناصر، وهذا يدل على فضل القراءة في المصحف، ولكن اختلف أهل العلم إن كانت القراءة من المصحف أفضل أو على ظهر قلب؟ على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن القراءة من المصحف أفضل؛ لأن النظر فيه عبادة، فيجتمع القراءة والنظر، وأن استعمال الحاسة - حاسة العين - زيادة على اللسان، وإخراج الصوت، هذا الاستعمال لهذه الحاسة فيه أجر زائد عن عدم استخدام هذه الحاسة.
القول الثاني: أن القراءة عن ظهر قلب أفضل، وهو اختيار أبي محمد العز بن عبد السلام - رحمه الله -.
القول الثالث: وهو اختيار النووي - رحمه الله -: إن كان القارئ من حفظه يحصل له من التدبر والتفكر وجمع القلب أكثر مما يحصل له من القراءة في المصحف؛ فالقراءة من الحفظ أفضل، وإن استويا فمن المصحف أفضل، قال: وهو مراد السلف.
فوائد القراءة في المصحف:
1- إشغال جارحة العين عن النظر إلى غير المصحف، لأنه ربما إذا لم ينظر في المصحف نظر إلى غير المصحف.
2- إن لمس المصحف فيه داعٍ إلى الوضوء، بخلاف إذا قرأ من حفظه فإنه لا يحتاج أصلاً إلى المصحف حتى يمسه.
3- إنه آمنُ من الغلط والتحريف؛ لأنه إذا قرأ من حفظه فيمكن أن يغلط فيه كآية حفظها خطاً، ولكن إذا قرأ من المصحف بالتأكيد تكون القراءة مضبوطة، لأنه يقرأ من شيءٍ مكتوب، بخلاف الذاكرة التي يعتريها ما يعتريها.
4- إن فيه تكفيراً للنظر المحرم التي ارتكبته العين.
18- التوقف عن التلاوة إذا خرج منه ريح أو تثاءب: والأفضل أن يتوضأ لمواصلة القراءة، وإن كان لا يمسك المصحف فقرأ وواصل القراءة بغير وضوء فلا بأس، لكن الأفضل أن يكون على طهارة فإن ابن عيينة روى عن زر قال: قلتُ لـ عطاء: أقرأ القرآن فيخرج مني ريح، قال: تمسك عن القراءة حتى تنقضي الريح.
وكذلك لو عرض له تثاؤب: فإنه يُمسك عن القراءة؛ لأجل التثاؤب، حتى لا يتغير الصوت، وتخرج كلمات غير كلمات القرآن.
19- السجود في موضع التلاوة: فإذا مرَّ بسجدة للتلاوة سجد، وقال أبو حنيفة بالوجوب، وأن الكفار يندمون على عدم السجود، وأنه لا يُندم إلا على ترك واجب، وقول الجمهور هو القول الراجح - إن شاء الله -، وهو قول عمر - رضي الله عنه - أن سجود التلاوة مستحبٌ وليس بواجب، ولذلك ذكر - رضي الله عنه - على المنبر أنه من أراد أن يسجد فليسجد، ومن أراد ألا يسجد فلا يسجد، وأنه ليس عليه حرجٌ من ذلك، لكن ماذا يفعل إذا أراد أن يسجد؟ يكبر ويسجد.
20- استقبال القبلة: واستدلوا بحديث: ((خير المجالس ما استقبل به القبلة)) لكن هذا الحديث ضعيف، إنما إذا استقبل القبلة يكون أحسن.
21- التزام هيئة الأدب والتذلل: فينبغي لقارئ القرآن أن يكون في حال القراءة على هيئة الأدب ما أمكنه، نعم! يجوز له أن يقرأ القرآن قاعداً وقائماً، وماشياً ومضطجعاً؛ كل ذلك جائز، لأن الله - سبحانه وتعالى - قال: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ)[آل عمران:191]، لكن لو جلس متخشعاً أحسن من أن يجلس مثلاً على جنبه متكئاً، فمن ناحية الجواز لا بأس أن يقرأ القرآن متكئاً، لكن من ناحية الأفضل إذا جلس جلسة المتخشع فإنه أفضل.
22- عدم إطالة العهد بالختمة: فلا يُطيل العهد بالقرآن سنوات لا يختم مثلاً، وإنما لا يُنقص عن ثلاثة أي: لا يقرأ في أقل من ثلاث، لكن لا يطول به العهد، وقد جاءت عدة أحاديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لشخص: ((اقرأ القرآن في أربعين))، وقال: ((اقرأ القرآن في خمسة عشر يوماً))، وقال: ((اقرأ القرآن في ثلاث إن استطعت))، وقال: ((اقرأ القرآن في كل شهرٍ، اقرأه في عشرين ليلة، اقرأه في عشرٍ، اقرأه في سبعٍ، ولا تزد عن ذلك)).
هذه الروايات المختلفة تدل على أن الناس طاقات أشغالهم مختلفة، وجودة وسرعة تلاوتهم، وتمكنهم يختلف.
23- الوقوف عند رءوس الآيات: فيقف عند رءوس الآيات وإن تعلقت في المعنى بما بعدها؛ لأنه قد ورد في الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أنه كان يقطع قراءته آيةً آية»، يقرأ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ)، ثم يقف، (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) ثم يقف.
24- التدبر عند تلاوته: وهذا يكاد يكون أهم آداب التلاوة على الإطلاق، والتدبر هو الثمرة الحقيقية لتلاوة القرآن الكريم، والتدبر يتضمن عدة أشياء:
1- التفكر في عظمة الله - سبحانه وتعالى -: فيُفكر القارئ في عظمة الله - سبحانه وتعالى - وعلوه، وفضله ولطفه بخلقه، عندما أنزل علينا هذا الكتاب، وجعله لنا مفهوماً، فإن القرآن عظيم، لأنه كلام الله، والله - عز وجل - عظيم، ومع ذلك فقد جعل كلامه مفهوماً لنا نحن البشر، وإلا هو فوق طاقتنا، ولكن جعل كلامه - عز وجل - مفهوماً: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآَنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ)[القمر:17،22،32،40]، ولولا أنه جعله مُيسراً ما استطعنا تلاوته، ولا حفظه، ولا فهمه؛ لأنه فوق عقولنا، لكن الله - سبحانه وتعالى - سهَّله وقرَّبه لنا، وجعله بلغة العرب وهي أكمل لغات العالم.
2- استحضار عظمة الله - سبحانه وتعالى -: وكذلك فإن من التدبر أن يُحضر الإنسان في قلبه عظمة المتكلم، وهو الله - سبحانه وتعالى -؛ وكان بعض السلف وهو عكرمة بن أبي جهل - رضي الله عنه - إذا نشر المصحف غُشي عليه، ويقول: «كلام ربي، كلام ربي»، فالله - سبحانه وتعالى - الذي تكلم بالقرآن حقيقةً، وينبغي لتالي القرآن أن يستشعر عند قراءته أنه يقرأ كلام الخالق القادر الرازق، الذي جميع الكون في قبضته، وتحت مشيئته وهيمنته، وأن الخلق مترددون بين فضله ورحمته، ونقمته وسطوته، إن أنعم فبفضله، وإن عاقب فبعدله، وهو الذي يقول: «هؤلاء للجنة ولا أبالي، وهؤلاء للنار ولا أبالي».
3- استحضار القلب عند القراءة: فيحضر قلبه، ويترك حديث النفس، قال الله - سبحانه وتعالى -: (خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ)[مريم:12]، أي: بجدٍ واجتهاد، وإنما يؤخذ القرآن بالقوة بالتجرد عند قراءته، وصرف الهمة إليه، وقيل لبعض السلف: إذا قرأت القرآن تحدث نفسك بشيء؟ فقال: «أو شيءٌ أحب إليّ من القرآن حتى أحدث به نفسي!».
4- النظر في خلق الله - سبحانه وتعالى -: ويدخل في التدبر كذلك أن ينظر في أفعال الله - عز وجل - من خلق السماوات والأرض، وخلق العرش، وأن كل شيءٍ هالكٌ إلا وجهه، وإذا قرأ: (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ)[الواقعة:58]، (أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ)[الواقعة:63]، (أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ)[الواقعة:68]، (أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ)[الواقعة:71] فإنه لا شك يتأمل في ذلك، وكذلك في الآيات المشابهة.
5- التأمل في موقف الغافلين عن القرآن: كذلك يتأمل ما في هذا القرآن من الختم والطبع على قلوب الذين لا يفقهون ولا يعقلون، ويدعو الله ألا يكون منهم؛ لأن الذين طبع الله على قلوبهم غير موفقين، ولا مؤهلين لتدبر القرآن، ويندرج تحت التدبر التخلي عن موانع الفهم التي تمنع الفهم، فإن أكثر الناس منعوا عن فهم معاني القرآن بأسباب، وحجب من الشيطان؛ فعميت عليهم عجائب القرآن، فصاروا لا يفهمون، ولا يفقهون منه شيئاً، كأنه بالنسبة لهم طلاسم.
6- أن يقرأ تفسيراً للقرآن: فكيف يتدبر وهو لا يعرف ما قاله أهل العلم في الآية هل يتدبر من تلقاء نفسه؟ كما حصل لبعضهم عندما مرّ بآية (رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ)[آل عمران:117] قال: فهمت الصراصير الليل، والصِر: هو البرد، فقد يفهم الإنسان أشياء كثيرة خطأ؛ بسبب جهله باللغة، وبأسباب النزول ونحو ذلك.
إذن لا يمكن أن يأتي التدبر إلا بعد قراءة التفسير كقراءة ما جاء عن مجاهد - رحمه الله - عن ابن عباس - رضي الله عنهما - فإن مجاهد عرض القرآن على ابن عباس ثلاث مرات، يستوقفه عند كل آيةٍ يسأله عنها.
7- يقرأ على أنه المقصود بالخطاب: وهو التخصيص: أي: يظن ويعتقد أنه المقصود بالخطاب، وأنه خاصٌّ به، موجهٌ إليه، ليس إلى غيره.
فإذا سمع قصص الأولين والأنبياء علم أنه ليس المقصود التسلي بالأحداث، والسمر بها، أو الأخذ بروعة القصة وأحداثها دون أن يكون معنياً بما فيها من العبر، وتثبيت الفؤاد، لأن الله قال: (وَكُلاً نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ)[هود:120]، فيتأمل في أحوال الأنبياء، وصبرهم على الإيذاء، وثباتهم في الدين، وكيف نصرهم الله - سبحانه وتعالى -.
فهذا القرآن رسائل أتتنا من قبل الله - عز وجل -، نتدبرها في الصلوات، ونقف عليها، وننفذها، وكان مالك بن دينار يقول: «ما زرع القرآن في قلوبكم يا أهل القرآن، إن القرآن ربيع المؤمن كما أن الغيث ربيع الأرض»، وقال قتادة: «لم يجالس أحدٌ هذا القرآن إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان»، قال - تعالى -: (وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً)[الإسراء:82].
8- التفاعل مع آيات الوعد والوعيد: أنه إذا مرَّ بآية رحمة ووعد سأل، وإذا مر بآية وعيد وعذاب استعاذ، فإذا مرَّ بقول الله - عز وجل -: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى)[طه:82] أرعى سمعه لها فتاب، وحقق الإيمان، واهتم بالصالحات، وإذا قال الله - سبحانه وتعالى -: (وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ)[العصر:1-2] ألقى سمعه خائفاً أن يكون من المعنيين بذلك، مشرئباً أن ينضم مع من يستثنيهم الله - عز وجل - من هذا الخسران بقوله - سبحانه وتعالى -: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ)[العصر:3].
25- التلقي عن أهل العلم: فيتلقاه عن أهل العلم المجيدين فيه، المجودين له، ولذلك أوصى النبي - صلى الله عليه وسلم - بأخذ القرآن عن أشخاصٍ معينين فقال - صلى الله عليه وسلم -: ((خذوا القرآن من أربعة: من ابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وسالم مولى أبي حذيفة)).
وكان هناك في الصحابة من حفظ القرآن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - كما جاء في حديث أنس في الصحيحين قال: «جمع القرآن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعة كلهم من الأنصار: أبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد، وأبو زيد، فقلت: ومن أبو زيد؟ فقال: أحد عمومتي»، وجاء في الحديث: ((استقرءوا القرآن من أربعة: من عبد الله بن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب)).
ولنعلم أن المسألة ليست بالحفظ فقط، فالذين حفظوا القرآن من الصحابة معروفة أسماؤهم، وكان أكثرهم يحفظ السورة والسورتين، وكان الذي يحفظ البقرة والأنعام من علمائهم، لأنهم كانوا لا يتجاوزون الآيات إلا بعد العمل بها، يعملون ثم يأخذون أخرى وهكذا.
كم سنة مكث ابن عمر في تعلم البقرة؟
ثمان سنوات يتعلم سورة البقرة، لأنهم كانوا يسعون إلى الاستفادة.
26- التجويد: وقد عرَّفه العلماء بأنه: إقامة الحروف، ومعرفة الوقوف، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لما وصفت قراءته جاء في الحديث عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها تنعت قراءته مفسرةً حرفاً حرفاً، فالقراءة ليست فيها أكل للحروف، ولا تغيير حرف بحرف، فإذا صار الإنسان يغير صفات الحروف تغيرت الكلمة بالكلية.
والتجويد ينبغي الاعتناء به حتى يخرج القرآن منه جميلاً في أدائه إياه، وينبغي أن ينتبه بالذات من قضية اللحن الجلي الذي يغير المعنى مثل: تغير الحركات، أو تغير الحروف، لو ضم التاء من «أنعمت»: (صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)[الفاتحة:7]، صار المنعم هو المتكلم، بينما المنعم هو الله.
27- عدم قطع الآية: فلا يقطع القارئ الآية لكلام الناس، بل إذا أراد أن يكلم أحداً يُنهي الآية، أو ينهي السورة، ثم يتكلم، نعم، قد يحتاج إلى كلامٍ للحاجة، فعلى الأقل ينهي الآية، فلا يرد على أحد أو يتكلم وهو في وسط الآية، بل ينتظر حتى يكمل الآية، فإذا تكلم بكلام الدنيا رجع فاستعاذ وشرع في القراءة مرةً أخرى، و«كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه».
28- عدم القراءة بالقراءات الشاذة: فإن هناك قراءات شاذة فيها زيادة، أو نقصان، وشروط القراءة الصحيحة معروفة:
أولاً: أن تكون نقلت بطريق التواتر.
ثانياً: أن تكون موافقة لرسم المصحف العثماني.
ثالثاً: أن تكون مطابقة لوجهٍ من وجوه اللغة الصحيحة.
29- عدم الجدال في القرآن بالباطل: ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: ((اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم، فإذا اختلفتم فيه فقوموا))، لأن البقاء يؤدي إلى التنازع، والعبث بآيات الله، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((أما إنه لم تهلك الأمم قبلكم حتى وقع في مثل هذا، يضربون القرآن بعضه ببعض)).
كما جاء رجل من الخوارج إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - ققال: مرة يقول: لا ينطقون، ومرة يقول: لا يتكلمون كيف؟ فبين له ابن عباس أن يوم القيامة طويل، وهو خمسون ألف سنة في مراحل، مرحلة يتكلمون، ومرحلة يُختم على أفواههم فلا ينطقون، فلا يوجد تعارض في القرآن.
وقد حذَّر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجدال في القرآن بالباطل، فقال: ((جدال في القرآن كفرٌ))، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((المراء في القرآن كفرٌ))، ونهى عن الجدال في القرآن، وقال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تجادلوا في القرآن فإن جدالاً فيه كفرٌ)).
تنبيهات مهمة تتعلق بتلاوة القرآن:
وفيما يلي تنبيهات تتعلق بتلاوة القرآن الكريم لضمان سلامتها من الخلل، والنقصان؛ ظاهراً وباطناً:
أولاً: أشياء تتعلق بالمصحف لا علاقة لها بالتلاوة مثل: احترام المصحف، وأن لا يوضع فوقه أي شيء، ولا يُتوسد، ولا يُنام عليه، ولا يُسافر به إلى أرض العدو.
ثانياً: جواز تضمين القرآن في الكلام إذا قصدَ مصلحةً شرعية: فلا يجوز استعمال القرآن في غير ما أنزل فيه، كالذي يقول إذا أراد الطعام: «آتنا غدائنا» ونحو ذلك، وإذا قصد بها هذا فهي بدعة، أو أنه لا يتكلم إلا بالقرآن هذه بدعة قال ابن عقيل: «لا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً من الكلام» أي: كلما أراد أن يتكلم بكلمة أتى بشيء من القرآن.
فلو قال أحد: ما حكم أن تجعل آية شطر بيت، أو أن يجعلها في خطبة؟ يضمنها ويستشهد مثلاً أي: لو أن أحداً تكلم عن التبرج والسفور ونحو ذلك، وذكر مفاسده، ثم ذكر كثرة الواقعين فيه، وذكر قلة الغيرة، وذكر الآيات، ثم قال: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً)[النساء:78]، هذا اقتباس من القرآن، فإذا لم يأتِ به على سبيل العبث فلا بأس به.
ثالثاً: افتتاح الحفلات بقراءة القرآن: وهو أمرٌ مشهورٌ متعارف عليه وشائع، ولكنه ليس من طريقة السلف، فلم يؤثر أنهم إذا اجتمعوا بأمور مهمة كإنفاذ جيش، أو اختيار خليفة ونحو ذلك كانوا يأمرون واحداً أن يقرأ القرآن في بداية الاجتماع، لكن إن فُعلت أحياناً من باب تذكير الحاضرين مثلاً دون المواظبة عليها، وليس كل حفلة نفتتحها بالقرآن فلا بأس بذلك، وكذلك إذا كان المجتمع ليس من المجتمعات التي فيها خلط اللهو بالجد، والحق بالباطل، فيكون القرآن كنوع من التلبيس والتغطية لما يدور بعد ذلك من منكرات.
التحذير من قراءة القرآن دون العمل به:
عن زياد بن لبيد - رضي الله عنه - قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فقال: ((ذلك عند أوانِ ذهاب العِلمِ))، قلت: يا رسول الله! كيف يذهب العلم، ونحن نقرأ القرآن، ونقرئه أبناءنا، ويقرئه أبناؤنا أبناءهم إلى يوم القيامة؟ قال: ((ثكِلتك أمك يا زياد! إِن كنت لأراك من أفقهِ رجلٍ في المدينة، أو ليس هذهِ اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل لا يعملون بِشيء مما فيهما؟)).
جميل أن نقرأ القرآن، وأن نحفظه، وأجمل من هذا تفهمه وتدبر معانيه، وتعلمه وتعليمه، ولكن الأجمل من هذا كله العمل بما فيه، فهذا من أعظم حقوق كتاب الله علينا، وينبغي الاعتصام به، والتحاكم إليه في كل ما نأتي ونذر، فإن الله لم ينزله إلا ليكون دستوراً للحياة البشرية عقيدة، وعبادة، وسلوكاً، وقد كان أسلافنا - رضوان الله عليهم - يقرؤون اليسير، ويقفون عنده حتى يعملوا به، وبذلك توارثوا القرآن علماً وعملاً، تلاوة وترتيلاً، وفهماً وتفسيراً وتدبراً، فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي - صلى الله عليه وسلم - عشر آيات لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: «فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً».
فمن المؤسف جداً أن القرآن الكريم أصبح في كثير من ديار الإسلام لا وظيفة له ولا مهمة سوى أن يملأ فراغاً من وقت الإذاعة، أو يرتله القراء في المآتم، أو يستجدون به على أضرحة الموتى، أو يعلقونه تمائم ورقى إلى غير ذلك من البدع المنكرة التي ينهى عنها القرآن.
فاتقوا الله عباد الله، وقوموا بحق كتاب الله عليكم، واحذروا أن يكون حجة عليكم لا لكم، ولا تكونوا ممن لا يعرف للقرآن قدره إلا عبر المذياع، أو يستفتحون به المحافل والمهرجانات وما شابه ذلك، فالقرآن إنما أنزل للعمل به، وتحكيم شريعته؛ والله - سبحانه وتعالى - يقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[آل عمران:85].
منقول