
06-07-2020, 01:50 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,943
الدولة :
|
|
رد: المنهج في التعامل مع المنتكسين
قال الإمام النووي - رحمه الله -: وفي هذا سترُ زلَّة المسلم والمراد به هنا الستر على ذوي الهيئات ونحوهم ممَّن ليس هو معروفًا بالأَذَى والفَساد، فأمَّا المعروف بذلك فيستحب ألا يستر عليه، بل ترفع قضيَّته إلى ولي الأمر إن لم يخف مِن ذلك مفسدةً؛ لأنَّ الستر على هذا يطمعه في الإيذاء والفساد، وانتِهاك الحرمات، وجسارة غيره على مثل فعله، هذا كلُّه في ستر معصية وقعت وانقضَتْ، أمَّا معصية رآه عليها وهو بعدُ متلبِّس بها، فتَجِبُ المبادَرَة بإنكارها عليه، ومنعه منها على مَن قدر على ذلك ولا يحلُّ تأخيرها، فإنْ عجز لزمه رفعها إلى وليِّ الأمر إذا لم تترتَّب على ذلك مفسدة[21].
3 - وفي روايةٍ عند مسلم زادَ فيها: ((ومَن ستَر مسلمًا، ستَرَه الله في الدنيا والآخِرَة))[22].
وقال الحافظ ابن حجر: ((ومَن ستَر مسلمًا))؛ أي: رآه على قبيحٍ فلم يُظهِرْه (أي: للناس)، وليس في هذا ما يقتَضِي ترك الإنكار عليه فيما بينه وبينه، ويحمل الأمر في جواز الشهادة عليه بذلك على ما إذا أنكر عليه ونصَحَه، فلم يفت عن قبيح فعله ثم جاهَر به، كما أنَّه مأمورٌ بأنْ يستَتِر إذا وقَع منه شيء، فلو توجَّه إلى الحاكم وأقرَّ لَم يمتنع ذلك، والذي يظهَر أنَّ الستر محله في معصية قد انقضَتْ، والإنكار في معصيةٍ قد حصل التلبُّس بها، فيجب الإنكار عليه وإلا رفَعَه إلى الحاكم، وليس من الغيبة المحرَّمة بل من النصيحة الواجبة، وفيه إشارة إلى ترك الغيبة؛ لأنَّ من أظهر مساوئ أخيه لم يستره[23].
قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن ستَر على مؤمنٍ عورةً، فكأنما أحيَا موْءُودة))[24].
وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّك إن اتَّبعت عَوْرات الناس أفسدتهم أو كدتَ أن تُفسِدهم))، وقال أبو الدَّرداء كلمةً سمعها معاوية من رسول الله نفعه الله بها[25].
بل انظر إلى موقفه - صلَّى الله عليه وسلَّم - من صحابي لم يستر على أخٍ له؛ حيث أخرج أحمد في "المسند" وغيرُه عن نُعَيم بن هزَّال: أنَّ هزَّالاً كان قد استأجَر ماعِزَ بن مالك وكانت له جارية يُقال لها: فاطمة، قد أملكت، وكانت ترعى غنَمًا لهم، وأنَّ ماعزًا وقَع عليها، فأخبر هزَّالاً فخدَعَه، فقال: انطَلِق إلى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فأخبره، عسى أن يَنزِل فيك قرآن، فأمَر به النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فرُجِم، فقال النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ويلك يا هزَّال، لو كنتَ سترتَه بثَوبِك كان خيرًا لك))[26]، ولم يقل: "خيرًا له"؛ لأنَّ الأجر العظيم سيكون للساتر على أخيه المسلم.
وفي روايةٍ: ((يا هزَّال، أمَا لو كنت سترته بثوبك، لكان خيرًا ممَّا صنعتَ به))[27].
وعن ابن هزَّال عن أبيه، أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال له: ((ويحك يا هزال، لو سترته - يعني ماعزًا - بثوبك، كان خيرًا لك))[28].
وفي روايةٍ عند البغوي: ((يا هزَّال، لو سترتَه بردائك لكانَ خيرًا لك))[29].
فانظر إلى هذا الحديث العظيم، وكيف قال له الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو سترتَه لكان خيرًا لك))، ولم يقل له.
فالأجر العظيم لِمَن ستَر على مسلم، فينبَغِي لِمَن عرفه ألا يفرِّط فيه.
ولقد طبَّق الصحابة هذا المنهج بالبُعْدِ عن البحث عن مواطن عورات الناس، طالما أنهم ليسوا أهل سلطة ورجال حسبة.
نعم، هذا كان منهج صحْب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - مراعاة أصحاب الذنوب، وعدم سبِّهم والشماتة بهم، وسؤال الله السلامةَ والسترَ عليهم، وانظر إلى هذا الأمر وتأمَّل ذلك، وهو أنَّ أبا الدرداء - رضِي الله عنْه - مرَّ على رجلٍ قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مُستَخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمَدُوا الله الذي عافاكُم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغض عمله، فإذا تركه فهو أخي[30].
وهذا ابن مسعود يُؤكِّد هذا المعنى العظيم فقال: "إذا رأيتم أخاكم قارَف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه تقولون: اللهم أخزِه، اللهم العَنْه، ولكن سَلُوا الله العافية، فإنَّا أصحاب محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - كُنَّا لا نقول في أحدٍ شيئًا حتى نعلَم علامَ يموت؟ فإنْ خُتِمَ له بخيرٍ علمنا أنَّه قد أصاب خيرًا، وإنْ خُتِم له بشرٍّ خفنا عليه عمله"[31].
قال أبو بكرٍ - رضِي الله عنْه - لو أخذت سارقًا لأحببت أنْ يستره الله، ولو أخذت شاربًا لأحببت أنْ يستره الله - عزَّ وجلَّ[32].
عن أبي هريرة - رضِي الله عنْه - عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((لا يستر عبدٌ عبدًا في الدنيا إلا ستَرَه الله يوم القيامة))[33].
وقال الحسن البصري: "مَن كان بينه وبين أخيه سترٌ فلا يكشفه"[34].
وقال العلاء: "لا يعذب الله قومًا يسترون الذنوب"[35].
قال عوف الأحمسي: "مَن سمع بفاحشةٍ فأفشاها كان فيها كمَن بدأها"[36].
قيل لابن مسعود - رضِي الله عنْه -: "هذا فلان تقطر لحيَته خمرًا، فقال: إنَّا قد نُهِينا عن التجسُّس، ولكن إنْ يظهر لنا شيء نأخذ به"[37].
وانظر إلى هذا الخبر الذي جسد به عمر معنى الستر؛ إذ جاءت امرأةٌ إلى عمر فقالت: يا أمير المؤمنين، إنِّي وجدتُ صبيًّا ووجدت معه قبطيَّة فيها مائة دينار فأخذته واستأجرت له ظئرًا[38]، وإنَّ أربع نسوة يأتينه ويُقبِّلنه لا أدري أيتهن أمه، فقال لها: إذا هنَّ أتينَكِ فأعلِمِيني، ففعلت، فقال لامرأةٍ منهن: أيَّتكن أم هذا الصبي؟ فقالت: والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر؛ تعمد إلى امرأة ستَر الله عليها فتريد أن تهتك سترها؟! قال: صدقتِ، ثم قال للمرأة: إذا أتينَكِ فلا تسأليهنَّ عن شيء، وأحسِني إلى صبيهنَّ، ثم انصَرَف[39].
فانظر إلى عمر كيف أخَذ برأي المرأة التي ابتَغَت الستر على مَن أخطأت وأقرَّها على ذلك، وما فعل ذلك عمر إلا لما ثبَت عنه عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - عندما قال لهزَّال بن ذئاب بن زيد - رضِي الله عنْه - الذي أشار على ماعز أن يقرَّ بذنبه؛ فقال له النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((لو سترتَه كان خيرًا لك))، وفي رواية: ((ويلك يا هزَّال، لو كنتَ سترتَه بثوبك كان خيرًا لك))، وفي رواية: ((يا هزَّال، أمَا لو كنت سترتَه بثوبك لكان خيرًا ممَّا صنعتَ به))[40].
والذي أُرِيدُ أن أخلُص إليه: أنَّ على المسلم أن يحرص على ستْر أخيه عندَما يذهب لمناصحته، لا أنْ يكون غرضُه التجسُّس واستِقصاء الأخبار لينشرَها بين الناس، ورَحِمَ الله أبا العباس المرهبي حيث أنشد قائلاً:
لاَ تَهْتِكَنْ مِنْ مَسَاوِي النَّاسِ مَا سُتِرَا 
فَيَهْتِكَ اللهُ سَتْرًا عَنْ مَسَاوِيكَا 
وَاذْكُرْ مَحَاسِنَ مَا فِيهِمْ إِذَا ذُكِرُوا 
وَلاَ تَعِبْ أَحَدًا مِنْهُمْ بِمَا فِيكَا[41]
فعليك عندما تَذهَب أن تُخلِص النيَّة لله، وأن يكون همُّك إصلاحه وهدايته ما استَطعتَ إلى ذلك سبيلاً، حتى لو وجدتَه بأسوأ ممَّا تصوَّرت فاستر عليه، ولا تظهر الشماتة أو التشهير به.
ثالثًا: عدم الشماتة به:
أخي الحبيب، عليك أن تحمَد الله على أنْ مَنَّ عليك بالثَّبات على الهداية، وحماك وحفظك، فلا تشمت به؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((مَن رأى مُبتلًى فقال: الحمد لله الذي عافاني ممَّا ابتلاك به، وفضَّلني على كثيرٍ ممَّن خلَق تفضيلاً - لم يصبه ذلك البلاء))[42].
قال النووي - رحمه الله -: "يقول بعض أهل العلم: إنَّه ينبغي أنْ يقول هنا الذكر سِرًّا، بحيث يُسمِع نفسه ولا يَسمَعه المبتلى؛ لئلاَّ يتألَّم قلبه بذلك، إلاَّ أنْ تكون بليَّته معصية فلا بأس أن يسمعه ذلك إنْ لم يخف من ذلك مفسدة"[43].
فهناك مع الأسَف مَن يقوم بالشماتة والسخرِيَة بأخيه المنتَكِس، ويقوم بتتبُّع عورته ونشر زلَّته بين الناس.
كتب سعيد بن جبير إلى أبي السوار العدوي: "أمَّا بعد، يا أخي فاحذَر الناس واكفِهم نفسك، والزَمْ بيتَك، وابكِ على خطيئتك، وإذا رأيت عاثرًا فاحمد الله الذي عافاك، ولا تَأمَن الشيطان أنْ يفتنك ما بقيت"[44].
بل انظر إلى منهج الصحابة في مثْل هذا التعامُل؛ فهذا ابن مسعودٍ - رضِي الله عنْه - يقول: "إذا رأيتُم أخاكم قارَف ذنبًا فلا تكونوا أعوانًا للشيطان عليه، تقولوا: اللهم أخزِه، اللهم العَنْه، ولكن سَلُوا الله العافية، فإنَّا أصحاب محمد كُنَّا لا نقول في أحدٍ شيئًا حتى نعلم على ما يموت؛ فإنْ خُتِم له بخيرٍ علمنا أنَّه قد أصاب خيرًا، وإن خُتِم له بشرٍّ خِفنا عليه عملَه"[45].
وهذا أبو الدرداء - رضِي الله عنْه - يُؤكِّد لنا هذا المنهج بما أخرجه عبدالرزاق في "المصنف": "أنَّ أبا الدرداء مَرَّ على رجل قد أصاب ذنبًا فكانوا يسبُّونه، فقال: أرأيتُم لو وجدتموه في قليب ألم تكونوا مُستخرِجيه؟ قالوا: بلى، قال: فلا تسبُّوا أخاكم، واحمدوا الله الذي عافاكم، قالوا: أفلا تبغضه؟ قال: إنما أبغَض عملَه، فإذا ترَكَه فهو أخي، وقال أبو الدرداء: ادعُ الله في يوم سرَّائك؛ لعلَّه أنْ يستجيب في يوم ضرَّائك"[46].
قال حمدون القصَّار: "إذا زَلَّ أخٌ من إخوانكم فاطلُبوا له سبعين عذرًا، فإنْ لم تقبله قلوبكم، فاعلَمُوا أنَّ المعيب أنفسكم؛ حيث ظهَر لمسلمٍ سبعون عذرًا فلم يقبله"[47].
رابعًا: المبادرة بالعِلاج:
عندما نقول: على الشباب ألاَّ يسارعوا بالاتِّصال بالمنتَكِس، لا يعني هذا بعد فترةٍ زمنيَّة طويلة، من أسبوعٍ إلى عشرة أيام على سبيل المثال كحدٍّ أقصى، فالمبادرة بالعلاج قد تَحمِي الشابَّ من الانخِراط في بيئةٍ أخرى قد تكون سيِّئة، والتأخُّر الزائد بحجَّة: دعه يرجع بنفسه من خِلال إعطائه فرصةً للتفكير - أمرٌ في غاية الخطورة؛ لما يُخشَى من ترتُّب آثار عليه كشرب الدخان وتأخُّره عن أداء الصلاة، بل قد يَقُوده التأخُّر إلى مراحل أخرى؛ كتعاطي المخدرات وترك الصلاة بالكليَّة.
لذا فالمبادرة بالمناصَحة أمرٌ في غاية الأهميَّة.
خامسًا: الدعاء له بظهْر الغيْب، وألا يكون عونًا للشيطان عليه:
إنَّ على الأخ الذي سيذهب لِمُناصَحة أخيه المنتَكِس أنْ يدعو له بظهْر الغيب من قلبٍ صادِق ونيَّة خالِصَة بأنْ يهديه الله إلى الحق؛ قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما من عبدٍ مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب، إلا قال الملك: ولك بمثل))[48].
لقد كان منهج الصحابة - رِضوان الله عليهم - التعامُل مع أحداث الانتِكاس بطرق طيِّبة؛ فهذا عمر - رضِي الله عنْه - "الذي اشتَهَر بالقوَّة، يستَخدِم الرقَّة في مَوطِنها؛ وذلك بأنَّ رجلاً كان ذا بأسٍ وكان يَفِدُ إلى عمر، وكان من أهل الشام، وإنَّ عمر فقَدَه، فسأل عنه، فقيل له: تَتابع في هذا الشراب، فدعا كاتِبَه فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان، سلامٌ عليك، فإنِّي أحمَدُ الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابِل التوب، شديد العقاب ذا الطَّوْلِ لا إله إلا هو إليه المصير، ثم دعا وأمَّن مَن عنده، ودعا له أنْ يُقبِل على الله بقلبه وأنْ يتوب عليه، فلمَّا أَتَتْ صحيفة الرجل جعَل يقرؤها ويقول: غافر الذنب قد وعدني الله أنْ يغفر لي، وقابِل التوب شديد العقاب قد حَذَّرني الله عقابَه، ذي الطول - والطولُ الخيرُ الكثير - لا إله إلا هو إليه المصير.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|