• رابعًا: الخُطبتان:
قال تعالى: ï´؟ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ï´¾ [الجمعة: 9].
• قال سعيد بن المسيَّب: ï´؟ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [الجمعة: 9]: موعظة الإمام؛ (زاد المسير جـ 8 صـ 265).
• قال القرطبي: قوله تعالى: ï´؟ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ï´¾ [الجمعة: 9]؛ أي: الصلاة، وقيل: الخطبة والموعظة؛ قاله سعيد بن جبير.
قال ابن العربي: والصحيح أنه واجب في الجميع، وأوله الخطبة؛ (القرطبي جـ 18 صـ 1، 4).
روى الشيخان عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطُبُ خُطبتين يقعد بينهما؛ (البخاري حديث 928 / مسلم حديث 862).
• مكان الخطبة:
يستحبُّ أن يصعد الإمام على منبر ليسمع الناس؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الناس على منبره، وليس صعود المنبر واجبًا، فلو خطب الإمام على الأرض، أو مكان مرتفع، أو على وسادة، أو على راحلته، أو غير ذلك - جاز؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يُصنَعَ له المنبر كان يقوم على الأرض.
روى البخاري عن عبدالله بن عمر قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر، فقال: ((مَن جاء إلى الجمعة، فليغتسل))؛ (البخاري حديث 919).
• فائدة هامة:
يستحب أن يكون المنبر ثلاث درجات، كما كان منبر النبي صلى الله عليه وسلم.
• أركان الخطبة:
إن للخطبة أركانًا يجب على الخطيب مراعاتها، وهي كما يلي:
1- حمد الله تعالى.
2- الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
3- قراءة شيءٍ من القرآن.
4- الوصية بتقوى الله تعالى.
5- الدعاء في آخر الخطبة؛ (الأم للشافعي جـ 1 صـ 2).
• الإنصات لخطبة الجمعة:
يجب على الناس الإنصات إلى ما يقوله الخطيب، ولا يجوز لهم أن يتحدثوا مع بعضهم البعض، أو مع غيرهم أثناء الخطبة إلا لعذر، مثل: تحذير ضرير يخشى وقوعه، أو تحذير الناس من ثعبان أو عقرب، أو ما شابه ذلك.
روى الشيخانِ عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قلتَ لصاحبك يوم الجمعة: أنصِتْ، والإمام يخطب، فقد لغَوْتَ))؛ (البخاري حديث 934/ مسلم حديث 583).
• قال ابن حجَر العسقلاني (في تعليقه على هذا الحديث): قال العلماء: لا جمعةَ له كاملة؛ للإجماع على إسقاط فرض الوقت عنه.
وقال رحمه الله أيضًا: وقالوا: وإذا أراد الأمرَ بالمعروف، فليجعَلْه بالإشارة؛ (فتح الباري لابن حجر العسقلاني جـ 2 صـ 481).
• قال ابن أبي شيبة: حدثنا ابن نمير قال: حدثنا عبيدالله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه رأى رجلًا يتكلم والإمام يخطب يوم الجمعة، فرماه بحصًى، فلما نظَر إليه، وضَع يده على فيه؛ (حديث صحيح؛ مصنف ابن أبي شيبة جـ 2 صـ 26).
• تسليم الإمام على الناس إذا صعِد المنبر:
إذا صعِد الإمام على المنبر، استقبل المصلين بوجهه، وسلَّم عليهم، ثم يجلس حتى ينتهي المؤذن من الأذان، وعلى المصلين ردُّ السلام على الإمام.
• روى ابن ماجه، عن جابر بن عبدالله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صعِد المنبر سلَّم؛ (حديث حسن؛ صحيح ابن ماجه حديث 91).
• قِصَرُ الخطبة وإطالة الصلاة:
يجب أن تعلم السنة: قِصر خطبة الجمعة، وإطالة الصلاة.
• روى مسلم عن عمار بن ياسر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن طول صلاة الرجلِ، وقِصَرَ خطبته: مَئِنَّةٌ من فقهه؛ فأطيلوا الصلاة، واقصروا الخطبة، وإن من البيان سحرًا))؛ (مسلم حديث 896).
• وروى مسلم عن جابر بن سمرة قال: كنتُ أصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم الصلواتِ، فكانت صلاته قصدًا، وخطبتُه قصدًا؛ (مسلم حديث 866).
• روى أبو داود عن عمار بن ياسرٍ قال: أمَرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقصار الخُطب؛ (حديث صحيح؛ صحيح أبي داود للألباني حديث 978).
• وروى أبو داود عن جابر بن سمرة السوائي، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُطيل الموعظة يوم الجمعة، إنما هنَّ كلماتٌ يسيراتٌ؛ (حديث حسن؛ صحيح أبي داود للألباني، حديث 979).
وإنما كان قِصَرُ الخطبة علامةً على فقه الرجل؛ لأن الفقيه هو المطلع على حقائق المعاني، وجوامع الألفاظ، فيتمكَّن من التعبير بالعبارة الجزلة المفيدة.
رفع الصوت عند الخطبة:
من السنَّة أن يرفع الخطيب صوتَه ليسمع الناس.
روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب، احمَرَّتْ عيناه، وعلا صوته، واشتد غضبُه، حتى كأنه منذرُ جيشٍ يقول: صبَّحكم ومسَّاكم؛ (مسلم حديث 867).
كلام الإمام مع المصلِّين:
يجوز أن يتكلَّمَ الإمامُ مع المصلين، وكذلك يجوز للمصلِّين أن يستفسروا مِن الإمام عما يريدون، ولا حرج في ذلك.
روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: جاء سُليكٌ الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطُبُ، فجلَس، فقال له: ((يا سُليكُ، قم فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما))، ثم قال: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركَعْ ركعتين، وليتجوَّزْ فيهما))؛ (مسلم - كتاب الجمعة حديث 59).
روى الشيخان عن أنس بن مالك قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ قام رجلٌ فقال: يا رسول الله، هلك الكراع، وهلك الشَّاء، فادعُ الله أن يسقينا، فمد يديه ودعا؛ (البخاري حديث 932 / مسلم حديث 612).
ويتضح من هذا الحديث: أن كلام المصلي مع الخطيب لو كان حرامًا لأنكره النبي صلى الله عليه وسلم.
روى الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر بن الخطاب بينما هو قائمٌ في الخطبة يوم الجمعة إذ دخل رجلٌ من المهاجرين الأوَّلين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فناداه عمر: أية ساعةٍ هذه؟ قال: إني شغلتُ فلم أنقلب إلى أهلي حتى سمعت التأذين، فلم أزِدْ أن توضأتُ، فقال: والوضوء أيضًا وقد علمتَ أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يأمرُ بالغسل؟! (البخاري حديث 878 / مسلم حديث 845).
قال ابن قدامة:
ولا يحرم الكلام على الخطيب، ولا على مَن سأله الخطيب، ثم ذكر حديث سُلَيك الغطفاني، وعمر بن الخطاب مع الصحابي الذي دخل إلى المسجد وقد توضأ فقط، ثم قال: ولأن تحريم الكلام عِلَّته الاشتغالُ به عن الإنصات الواجب، وسماع الخطبة، ولا يحصل ها هنا، وكذلك مَن كلَّم الإمام لحاجةٍ، أو سأله عن مسألةٍ، بدليل الخبر الذي تقدم ذكره؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 197: صـ 198).
رد السلام وتشميت العاطس:
ينبغي لمن دخل المسجد يوم الجمعة والإمام يخطب أن يصلِّيَ ركعتين تحية المسجد، وليتجوز فيهما، ثم يجلس وينصت للإمام، ولا يلقي السلام على أحد من المصلين أثناء الخطبة، وإذا عطس حَمِد الله في سرِّه، وإذا ألقى عليه أحدٌ السلامَ لا يردُّ عليه بالقول، ولكن يشيرُ بيده، وإذا عطس أحدٌ فلا يشمِّته.
قال ابن قدامة: قال أبو داود: قلت لأحمد: يرد السلام والإمام يخطب، ويشمِّت العاطس؟ فقال: إذا كان ليس يسمع الخطبة فيرد، وإذا كان يسمع فلا؛ لقول الله تعالى: ï´؟ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا ï´¾ [الأعراف: 204]، وقيل لأحمد: الرجلُ يسمع نغمة الإمام بالخطبة، ولا يدري ما يقول، يرد السلام؟ قال: لا، إذا سمع شيئًا، ورُوي نحو ذلك عن عطاءٍ؛ وذلك لأن الإنصات واجبٌ، فلم يجز الكلام المانع منه من غير ضرورةٍ، كالأمر بالإنصات، بخلاف من لم يسمع، وقال القاضي: لا يرد ولا يشمت.
وروي نحو ذلك عن ابن عمر، وهو قول مالكٍ، والأوزاعي، وأصحاب الرأي، واختلف فيه الشافعي؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 198: صـ 199)، (فتاوى اللجنة الدائمة جـ 8 صـ 242: صـ 246).
الكلام بين الخطبتين:
قال ابن قدامة: الكلام في الجلسة بين الخطبتين، يحتمل أن يكون جائزًا؛ لأن الإمام غير خاطبٍ ولا متكلمٍ، فأشبه ما قبلها وبعدها، وهذا قول الحسن، ويحتمل أن يمنع منه، وهو قول مالكٍ، والشافعي، والأوزاعي، وإسحاق؛ لأنه سكوتٌ يسيرٌ في أثناء الخطبتين، أشبه السكوت للتنفس، (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 200).
تحية المسجد أثناء الخطبة:
يسنُّ أداء ركعتين تحية المسجد لكل من دخل المسجد، حتى ولو كان الإمام يخطب، ولا يسن للإمام تحية المسجد إذا دخل لصعود المنبر للخطبة، وأما من دخل عند الأذان فإنه يردده ثم يصلي تحية المسجد، وإذا دخل وجلس ثم تذكر أنه لم يصلِّ، فإنه يقوم ليصلي تحية المسجد، ودليل ذلك ما يلي:
1 - روى مسلم عن جابر بن عبدالله قال: جاء سليكٌ الغطفاني يوم الجمعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فجلس، فقال له: ((يا سُلَيك، قُمْ فاركع ركعتين، وتجوَّز فيهما))، ثم قال: ((إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب، فليركع ركعتين، وليتجوَّز فيهما))؛ (مسلم - كتاب الجمعة حديث 59).
جمع الصدقات أثناء الخطبة:
لا يجوز جمع الصدقات أثناء الخطبة؛ لأن ذلك مما يَشغَلُ المصلِّين عن الخُطبة.
قال ابن قدامة:
قال أحمد: لا تتصدَّق على السُّؤَّالِ والإمام يخطب؛ وذلك لأنهم فعلوا ما لا يجوز؛ فلا يُعِينهم عليه.
قال أحمد: وإن حصَبه كان أعجبَ إليَّ؛ لأن ابن عمر رأى سائلًا يسأل، والإمام يخطب يوم الجمعة، فحصبه، وقيل لأحمد: فإن تصدق عليه إنسانٌ فناوله والإمام يخطب؟ قال: لا يأخذ منه، قيل: فإن سأل قبل خطبة الإمام، ثم جلس، فأعطاني رجلٌ صدقةً أناولها إياه؟ قال: نعم، هذا لم يسأل والإمام يخطب؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 201).
موقف من لا يسمع الخطبة:
قال ابن قدامة: وللبعيد أن يذكر الله، ويقرأ القرآن، ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرفع صوته، قال أحمد: لا بأس أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فيما بينه وبين نفسه، رخَّص له في القراءة والذكر عطاءٌ وسعيد بن جبير والنخَعي والشافعي، وليس له أن يرفع صوته، ولا يذاكر في الفقه، ولا يصلي، ولا يجلس في حلقة، وذكر ابن عقيل أنله المذاكرة في الفقه، وصلاة النافلة.
ثم قال في موضع آخر: وإذا ذكَر الله فيما بينه وبين نفسه مِن غير أن يُسمِعَ أحدًا فلا بأس، وهل ذلك أفضل أو الإنصات؟ يحتمل وجهين.
أحدهما: الإنصات أفضل.
1 - روى أبو داود عن عبدالله بن عمرٍو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يحضُرُ الجمعةَ ثلاثة نفرٍ؛ رجلٌ حضرها يلغو، وهو حظه منها، ورجلٌ حضرها يدعو، فهو رجلٌ دعا الله عز وجل، إن شاء أعطاه، وإن شاء منعه، ورجلٌ حضرها بإنصاتٍ وسكوتٍ، ولم يتخطَّ رقبة مسلمٍ، ولم يؤذِ أحدًا؛ فهي كفارةٌ إلى الجمعة التي تليها، وزيادة ثلاثة أيامٍ؛ وذلك بأن الله عز وجل يقول: ï´؟ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ï´¾ [الأنعام: 160]؛ (حديث حسن؛ صحيح أبي داود، حديث 984).
2 - لقول عثمانَ بن عفان: مَن كان قريبًا يَسمَع ويُنصِت، ومن كان بعيدًا يُنصت؛ فإن للمُنصِت الذي لا يسمَع مِن الحظ ما للسامعِ؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 196: صـ 197).
والثاني: الذِّكر أفضل:
لأنه يحصل له ثوابه من غير ضرر؛ فكان أفضلَ كما كان قبل الخطبة.
قال الإمام الشافعي: إذا كان لا يسمع مِن الخطبة شيئًا، فلا أكرَهُ أن يقرأَ في نفسه، ويذكُرَ الله تبارك اسمُه، ولا يكلم الآدميين؛ (الأم للشافعي جـ 1 صـ 204).
القراءة في صلاة الجمعة:
من السنَّة للإمام: أن يقرأ في الركعة الأولى من صلاة الجمعة بعد الفاتحة بسورة الأعلى، وفي الركعة الثانية بسورة الغاشية، أو يقرأ في الركعة الأولى بسورة الجمعة، وفي الثانية بسورة المنافقون.
روى مسلمٌ عن النعمان بن بشيرٍ قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين وفي الجمعة بـ: ï´؟ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى ï´¾ [الأعلى: 1]، وï´؟ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ï´¾ [الغاشية: 1]؛ (مسلم حديث 878).
وروى مسلم عن ابن عباسٍ: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تنزيل السجدة، وï´؟ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ ï´¾ [الإنسان: 1]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة سورة الجمعة والمنافقين؛ (مسلم حديث 879).
إدراك صلاة الجمعة:
مَن أدرك ركعة من الجمعة مع الإمام، فهو مدرِكٌ لها، يضيف إليها ركعة أخرى، ويكون بذلك قد أدرك صلاة الجمعة؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 183: صـ 186).
روى ابن ماجه عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مَن أدرك من الجمعة ركعةً، فليُصلِّ إليها أخرى))؛ (حديث صحيح؛ صحيح ابن ماجه للألباني حديث 920).
ومفهوم هذا الحديث: أن من أدرك أقلَّ من ركعة لم يكن مدركًا لصلاة الجمعة.
وروى الشيخان عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من أدرك ركعةً من الصلاة، فقد أدرك الصلاة))؛ (البخاري حديث 580/ مسلم حديث 607).
روى عبدالرزَّاق عن معمَرٍ عن أيوب عن نافع: أن ابن عمر قال: إذا أدرك الرجلُ يوم الجمعة ركعة، صلَّى إليها ركعة أخرى، فإن وجدهم جلوسًا صلَّى أربعًا؛ (حديث صحيح؛ مصنف عبدالرزاق جـ 3 صـ 234 رقم 5471).
الصلاة بعد أداء الجمعة:
يستحب للمسلم أن يصلِّي بعد الجمعة ركعتين أو أربعًا.
روى مسلمٌ عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا صلَّى أحدُكم الجمعة، فليُصلِّ بعدها أربعًا))؛ (مسلم حديث 881).
روى الشيخان عن عبدالله بن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلِّي قبل الظُّهر ركعتين، وبعدها ركعتين، وبعد المغرب ركعتين في بيته، وبعد العِشاء ركعتين، وكان لا يصلِّي بعد الجمعة حتى ينصرفَ، فيصلي ركعتين؛ (البخاري حديث 937 / مسلم حديث 882).
إقامة الجمعة مع أهل البِدَع.
قال ابن قدامة: وتجب الجمعة والسعي إليها، سواءٌ كان مَن يقيمها سنِّيًّا، أو مبتدِعًا، أو عدلًا، أو فاسقًا.
نص عليه أحمد، وروي عن العباس بن عبدالعظيم: أنه سأل أبا عبدالله عن الصلاة خلفهم - يعني المعتزلة - يوم الجمعة؟ قال: أما الجمعة فينبغي شهودُها، فإن كان الذي يصلي منهم، أعاد، وإن كان لا يدري أنه منهم، فلا يُعيد.
قلت: فإن كان يقال: إنه قد قال بقولهم؟ قال: حتى يستيقنَ.
ولا أعلَمُ في هذا بين أهل العلم خلافًا، والأصل في هذا عمومُ قول الله تعالى: ï´؟ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ï´¾ [الجمعة: 9]، وإجماعُ الصحابة رضي الله عنهم؛ فإن عبدالله بن عمر وغيرَه مِن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يشهدونها مع الحَجَّاجِ ونظرائه، ولم يُسمَع من أحدٍ منهم التخلُّف عنها.
وقال عبدالله بن أبي الهذيل: تذاكرنا الجمعة أيام المختار، فأجمع رأيهم على أن يأتوه، فإنما عليه كذبُه.
ولأن الجمعة مِن أعلام الدِّين الظاهرة، ويتولاها الأئمةُ ومَن ولَّوْه، فتركُها خلفَ مَن هذه صفتُه: يؤدِّي إلى سقوطها؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 170:169).
تعدُّد المساجد التي تقام فيها الجمعة:
من المعلوم أن الغرضَ من صلاة الجمعة هو أن يجتمع الناس في مكان واحد خاشعين لربهم، فتوثَّق بينهم روابط الألفة، وتَقْوى صلات المحبة، وتحيا في أنفسهم عاطفة الرحمة والرفق، وتموت عوامل البغضاء والحقد، وكل منهم ينظر إلى الآخر نظرة المودة والإخاء، فيُعين قويُّهم ضعيفَهم، ويساعد غنيُّهم فقيرَهم، ويرحم كبيرُهم صغيرَهم، ويوقِّر صغيرُهم كبيرَهم، ويشعرون جميعًا بأنهم عبيدُ الله وحده، وأنه هو الغني الحميد، ذو السلطان القاهر، والعظمة التي لا حدَّ لها، ذلك بعض أغراض الشريعة الإسلامية من حثِّ الناس على الاجتماع في العبادة، ومما لا ريب فيه أن تعدد المساجد لغير حاجة يذهب بهذه المعاني السامية؛ لأن المسلمين يتفرقون في المساجد، فلا يشعرون بفائدة الاجتماع، ولا تتأثر أنفسهم بعظمة الخالق الذي يجتمعون لعبادته خاضعين متذلِّلين، فمن ذلك قال بعض الأئمة: إذا تعدَّدت المساجد لغير الحاجة، فإن الجمعة لا تصحُّ إلا لِمن سبق بها في هذه المساجد، فمن سبق بيقينٍ، كانت الجمعةُ له، وأما غيره فإنه يصليها ظهرًا؛ (الأم للشافعي جـ 1 صـ 192)، (الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري جـ 1 صـ 310).
قال الخرقي - رحمه الله -: إذا كان البلد كبيرًا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزةٌ.
وقال ابن قدامة - رحمه الله - تعليقًا على قول الخرقي: إن البلدَ متى كان كبيرًا، يشقُّ على أهله الاجتماع في مسجدٍ واحدٍ، ويتعذَّر ذلك؛ لتباعد أقطاره، أو ضيق مسجده عن أهله، كبغداد وأصبهان ونحوهما من الأمصار الكبار - جازت إقامةُ الجماعة فيما يحتاج إليه من جوامعها، ثم قال رحمه الله: فأما مع عدم الحاجة فلا يجوزُ في أكثرَ مِن واحدٍ، وإن حصل الغِنى باثنتين لم تجُزِ الثالثة، وكذلك ما زاد؛ (المغني لابن قدامة جـ 3 صـ 212: صـ 215).
اجتماع الجمعة مع العيد:
إذا اجتمع العيد والجمعة في يوم واحد، سقط حضورُ الجمعة عمَّن صلَّى العيد، ويستحب للإمام أن يقيم الجمعة؛ ليشهدها مَن شاء شهدوها، ومَن لم يصلِّ العيدَ؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 24 صـ 211)، (زاد المعاد لابن القيم جـ 1 صـ 448).
روى أبو داود عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قد اجتمع في يومكم هذا عيدانِ، فمَن شاء أجزأه مِن الجمعة، وإنا مُجمِّعون))؛ (حديث صحيح؛ صحيح أبي داود للألباني حديث 948).
روى أبو داود عن إياس بن أبي رملة الشامي قال: شهدتُ معاوية بن أبي سفيان وهو يسأل زيد بن أرقم قال: أشهدتَ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيدينِ اجتمعا في يومٍ؟ قال: نعم، قال: فكيف صنَع؟ قال: صلَّى العيدَ، ثم رخَّص في الجمعة، فقال: ((مَن شاء أن يصلِّيَ، فليُصلِّ))؛ (حديث صحيح؛ صحيح أبي داود للألباني حديث 945).
روى أبو داود عن عطاء بن أبي رباحٍ قال: صلى بنا ابنُ الزبير في يوم عيدٍ في يوم جمعةٍ أول النهار، ثم رُحْنا إلى الجمعة، فلم يخرج إلينا، فصلَّيْنا وُحدانًا، وكان ابن عباسٍ بالطائف، فلما قدِم ذكرنا ذلك له، فقال: أصاب السنَّةَ؛ (حديث صحيح؛ صحيح أبي داود للألباني حديث 946).
قال الإمام الشوكاني:
ويدل على عدم الوجوب وأن الترخيص عامٌّ لكل أحد: تركُ ابن الزبير للجمعة وهو الإمام إذ ذاك، وقول ابن عباس: أصاب السنَّة، وعدم الإنكار عليه من أحد من الصحابة، وأيضًا لو كانت الجمعة واجبةً على البعض، لكانت فرضَ كفاية، وهو خلاف الرخصة؛ (نيل الأوطار للشوكاني جـ 3 صـ 392).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
الصحيح: أن مَن شهد العيد، سقطت عنه الجمعةُ، ولكن على الإمام أن يقيمَ الجمعة؛ ليشهَدها من شاء شهودها، ومَن لم يشهد العيد، وهذا هو المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه؛ كعمرَ، وعثمان، وابن مسعود، وابن عباس، وابن الزبير، وغيرهم، ولا يُعرَف عن الصحابة في ذلك خلاف؛ (مجموع فتاوى ابن تيمية جـ 24 صـ 211).
وآخر دعوانا أن الحمدُ لله رب العالمين.
وصلَّى الله وسلَّم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.