كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة (2)
بكر البعداني
لقد كنا ذكرنا في مقال سبق هذا بعنوان: كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة (1) كلمة للإمام يحيى بن معين رحمه الله، وختمنا تلك الحلقة بكلمة للعَلَم الإمام، والعلَّامة الهُمام مالك رحمه الله.
وهي قوله رحمه الله: "لن يُصلِحَ آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَحَ أولَها"[1].
ولقد قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وما أحسنَ ما قال مالكٌ!"[2]، وكذا استحسن قولَه ابن القيم رحمه الله[3]، وقال محمد البشير الإبراهيمي رحمه الله في إحدى مقالاته: إنها "جملة إن لم تكن من كلام النبوة، فإن عليها مسحة من النبوة، ولمحة من روحها، ووَمْضة من إشراقها"[4]، ولقد نسبها بعضُهم لعمر[5]، فوَهِم، ولقد أحببت في هذه الحلقة الثانية من: "كلمة يسيرة وقاعدة عظيمة" أن يكون الحديثُ عنها.
وهذه الكلمة وضعها - كما علمنا - إمامٌ من أئمة أهل السنة؛ وهو مالك بن أنسرحمه الله، وقد رُوِيت عنه بلفظ: "لن يَصلُحَ آخرُ هذه الأمة إلا بما صَلَح به أولها؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا، لا يكون اليوم دينًا"[6].
وهذه الكلمة في الحقيقة، على قلة ألفاظها، واختصار كلماتها، فإنها قاعدةٌ متينة وعظيمة، ونافعة جدًّا في مقامات كثيرة، وفي خزائنها من الكنوز ما يَعجِزُ العقلُ عن تصوُّره، والفهم عن إدراكه.
ولذلك؛ فهي تُعدُّ - بحقٍّ - كلمةً جامعة من جوامع الكلم، وقاعدةً من أعظم قواعد الشرع؛ فإنه يَحصُل بها حمايةُ الشريعة من التحريف والتبديل؛ لأنها تنصُّ على أنه لن يصلح آخر هذه الأمة إلا إذا سلكوا منهجَ الأوائل من الصحابة، وإذا كان من المعلوم أن أولَها إنما صلَح بالكتاب والسنة، فلن يصلح آخرها إلا بالكتاب والسنة، كما أنه من المنصوص فيها ضمنًا - بما أن الأمر كذلك - أن فعل السلف واتباعهم سنةٌ، ومخالفتهم بدعة، كما قال الشاطبي في الاعتصام (1 / 274)؛ وعليه فإن اتِّباعهم هو دين يُدان الله عز وجل به؛ ولذلك نرى حذيفة رضي الله عنه يقول - فيما نقل عنه -: "كلُّ عبادة لم يتعبَّد بها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فلا تتعبَّدوا بها؛ فإن الأول لم يدع للآخر مقالًا، فاتقوا الله يا معشر القُرَّاء، خذوا طريق من كان قبلكم"[7].
وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "كلُّ من تكلَّم بكلام في الدين، أو في شيء من هذه الأهواء، ليس له فيه إمام متقدم من النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه - فقد أحدث في الإسلام حدثًا".
وقد دَنْدَنَ حولها جملة من العلماء، وجعلوها كأصل، يستدلون بها، وينزعون منها، ونكتفي هنا بذكر الإمام مالك رحمه الله؛ فقد نُقِل عنه أنه سئل عن القراءة في المسجد، فقال: "لم يكن بالأمر القديم، وإنما هو شيء أُحدث"، وقال: "ولن يأتي آخرُ هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، والقرآن حسن"، وقال أيضًا: "أترى الناس اليوم أرغبَ في الخير ممن مضى؟"؛ ذكره الشاطبي في الموافقات (3 / 213).
وهكذا ابن تيمية رحمه الله استدلَّ - في ضمن ما استدل - بها على عدم مشروعية قصده - صلى الله عليه وآله وسلم - دائمًا للصلاة والسلام، كما في اقتضاء الصراط المستقيم (ص: 367) وقال[8]: "وأما قصده دائمًا للصلاة والسلام، فما علمت أحدًا رخَّص فيه"، إلى أن قال: "وما أحسن ما قال مالك: "لن يصلح آخرَ هذه الأمة إلا ما أصلَح أولها"... ولكن كلما ضعف تمسك الأمم بعهود أنبيائهم ونقص إيمانهم، عوضوا عن ذلك بما أحدثوه من البدع والشرك وغيره".
وهكذا الشاطبي رحمه الله، فنراه في كتابه الاعتصام كثيرًا ما يستدلُّ بها في جملة من المسائل التي ناقشها، وتارة ينسبها إليه، وتارة يسوقها بمعناها، كما قال (1/ 205): "ولن يأتي آخر هذه الأمة بأهدى ممن كان عليها أولها"، وقال (2 / 30): "ولم يأتِ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها".
وهكذا في الموافقات (3/ 401 - 402) لما ذكر قوله عز وجل: ï´؟ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى ï´¾ [النساء: 36]، قال - يردُّ على بعضهم تفسيرَه لها: "وهو من المواضع المشكلة في كلامه، ولغيره مثل ذلك أيضًا، وذلك أن الجاري على مفهوم كلام العرب في هذا الخطاب ما هو الظاهر من أن المراد بالجار ذي القربى وما ذكر معه ما يفهم منه ابتداء، وغير ذلك لا يعرفه العرب، لا من آمن منهم ولا من كفر، والدليلُ على ذلك: أنه لم يُنقَل عن السلف الصالح من الصحابة والتابعين تفسيرٌ للقرآن يماثلُه، أو يقاربه، ولو كان عندهم معروفًا، لنُقل؛ لأنهم كانوا أحرى بفهم ظاهر القرآن وباطنه باتفاق الأئمة، ولا يأتي آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها، ولا هم أعرف بالشريعة منهم..." إلخ كلامه، وغيرهم كثير، ولكن نكتفي بهذا للتمثيل.
إذ هي حقًّا تُمثِّل بحق قاعدةً عظيمة من قواعد الإسلام، وهي تنصُّ على وجوب الاتباع، وفيها منهج صريح في رد البدع، ووجه ما قاله أيضًا رحمه الله: "أترى الناس اليوم أرغبَ في الخير ممن مضى؟"[9]؛ وذلك أن الخير كل الخير في اتِّباع مَن سلف، والشر كل الشر في ابتداع من خلف، ولقد أحسن مَن قال حين قال - وكان مالك كثيرًا ما ينشده - :
وخيرُ أمورِ الدين ما كان سُنةً ♦♦♦ وشرُّ الأمورِ المحدثاتُ البدائعُ
فينبغي - والأمر كذلك - الحرصُ على ترسم خُطَى السلف، وأختم بكلمة من إمام كبير من علماء المسلمين الأولين، وهو حسن بن علي البربهاري - شيخ الحنابلة في وقته رحمه الله المتوفى سنة (329) - قال رحمه الله تعالى: "واحذر من صغار المُحدَثات؛ فإن صغار البدع تعود حتى تصير كبارًا، وكذلك كلُّ بدعة أُحدثت في هذه الأمة، كان أولها صغيرًا يشبه الحق؛ فاغترَّ بذلك مَن دخل فيها، ثم لم يستطع المخرج منها، فعظُمت وصارت دينًا يُدان به.
فانظر رحمك الله كلَّ من سمعت كلامه من أهل زمانك خاصة، فلا تعجلنَّ ولا تدخل في شيء منه حتى تسأل وتنظر: هل تكلَّم فيه أحد من أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أو أحد من العلماء؟ فإن أصبت أثرًا عنهم، فتمسَّك به ولا تجاوزه لشيء، ولا تختَرْ عليه شيئًا؛ فتسقطَ في النار.
واعلم رحمك الله أنه لا يتمُّ إسلام عبد حتى يكون متبعًا ومصدقًا مسلمًا، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يكفوناه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقد كذَّبهم، وكفى بهذا فرقةً وطعنًا عليهم، فهو مبتدع ضالٌّ مُضلٌّ، مُحدث في الإسلام ما ليس فيه"[10].
وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
[1] اقتضاء الصراط (ص: 367)؛ لابن تيمية، ومجموع الفتاوى (20/ 375)، (27/ 384 - 396).
[2] اقتضاء الصراط (ص: 367)؛ لابن تيمية.
[3] إغاثة اللهفان (1/ 200).
[4] من لقاء له في "أثير" إذاعة بغداد، ونشر عام 1372هـ الموافق 1952م.
[5] كما فعل الشريف حمزة الكتاني في "الاجتهاد والمجتهدون بالأندلس والمغرب" (ص: 36).
[6] صحيح ثابت عن مالك، وقد نقلها عنه القاضي عياض في "الشفا" (2/ 87 - 88)، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (1/ 353): "الثابت المنقول عنه - يعني: مالكًا - بأسانيد الثقات، في كتب أصحابه كما ذكره إسماعيل بن إسحاق القاضي، وغيره" ثم ذكرها؛ وانظر - أيضًا: مجموع الفتاوى (27/ 118)، والفتاوى الكبرى (4/ 362)، واقتضاء الصراط المستقيم (2/ 285)، ومنهاج السنة (2/ 444)، وذكرها الشاطبيُّ في الاعتصام (1/ 111) بلفظ: "لن يأتيَ آخر هذه الأمة بأهدى مما كان عليه أولها".
[7] الفتاوى؛ للشاطبي (ص: 198).
[8] وانظر: إغاثة اللهفان من مصايد الشيطان (1/ 200)؛ لابن القيم، وأحكام الجنائز (ص:222)؛ للألباني.
[9] الموافقات (3/ 213)؛ للشاطبي.
[10] نقلًا عن مناسك الحج والعمرة (ص: 46)؛ للألباني.