عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-04-2020, 09:54 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,707
الدولة : Egypt
افتراضي رد: شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي

شرح حديث أبي ذر: إني حرمت الظلم على نفسي

سماحة الشيخ محمد بن صالح العثيمين


فمن حكمته تعالى: أن جعلنا نخرج باديةً أبشارنا، باديةً جلودنا، حتى نعرف أننا محتاجون إلى كسوة تستر عورتنا حسًّا، كما أننا محتاجون إلى عمل صالح يستر عورتنا معنى، لأن التقوى لباس، كما قال تعالى: ï´؟ وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ï´¾ [الأعراف: 26]، فأنت انظر في نفسك تجد أنك محتاج إلى الكسوة الحسية لأنك عار، كذلك أيضًا محتاج إلى الكسوة المعنوية - وهي العمل الصالح - حتى لا تكون عاريًا، ولهذا ذكر بعض العابرين للرؤيا أن الإنسان إذا رأى نفسه في المنام عاريًا فإنه يحتاج إلى كثرة الاستغفار، لأن هذا دليل على نقصان تقواه، فإن التقوى لباس.

وعلى كل حال؛ فنحن عراة إلا بكسوة الله - عزَّ وجلَّ - وقد سخر الله لنا من الكسوة ما نكسو به أبداننا - ولله الحمد - من أصناف اللباس المتنوعة، لا سيما في البلاد الغنية التي ابتلاها الله - عزَّ وجلَّ - بالمال، فإن المال - في الحقيقة - فتنة يخشى على الأمة منه، كما قال محمد صلى الله عليه وسلم: «والله ما الفقر أخشى عليكم، وإنما أخشى عليكم أن تفتح عليكم الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم؛ فتهلككم كما أهلكتهم»، فالمال ابتلاء وبلوى، تحتاج إلى صبر على أداء ما يجب فيه، وإلى شكر على ما يجب له.

وعلى كل حال، أقول: إن الله - سبحانه وتعالى - من علينا باللباس، ولولا أنَّ الله يسَّره لنا ما تيسر، ولو أنك نظرت في الخلق في وقتك الآن، وتأملت لوجدت - كما سمعنا - من يبتون عراة، ليس على أبدانهم ما يسترهم، ربما يسترون السَّوءةَ بالأشجار ونحوها، وليس عليهم ما يسترهم دون ذلك، فمن الذي سترك ومنَّ عليك؟ هو الله، ولهذا قال - عزَّ وجلَّ -: «يا عبادي كلكم عارٍ إلَّا من كسوته، فاستكسوني أكسُكم».

ونقول في قوله: «اسْتكْسُوني أَكسُكم»، كما قلنا في قوله: «استطعموني أطعمكم»، يعني أن الاستكساء يكون بالقول، ويكون بالفعل؛ أما الذي بالقول: فبأن تسال الله - عزَّ وجلَّ - أن يكسوك، وإذا سألت الله أن يكسو بدنك حِسِّيًّا، فسأل الله أن يكسو عورتك المعنوية بالتوفيق إلى طاعته.

وأما الاستكساء بالفعل فعلى وجهين:
الوجه الأول: بالأعمال الصالحة، والوجه الثاني: بفعل الأسباب الحسية التي تكون بها الكسوة؛ من إحداث المعامل، والمصانع، وغير ذلك.

وفي الربط بين الطعام والكسوة والهداية مناسبة؛ لأنَّ الطعام في الحقيقة كسوة البدن باطنًا، لأن الجوع والعطش معناه خلو المعدة من الطعام والشراب، وهذا تعرٍّ لها، والكسوة ستر البدن ظاهرًا، والهداية الستر المهم المقصود وهو ستر القلوب والنفوس من عيوب الذنوب.

ثم قال تعالى: «يا عبادي، إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم»، هذا أيضًا من تمام نعمة الله على العبد، إنه - جلَّ وعلا - يعرض عليه أن يستغفر إلى الله ويتوب إليه، مع أنه يقول: «إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا»، أي: جميع الذنوب، من الشرك بالله، والكفر، والكبائر، والصغائر، كلها يغفرها الله، ولكن بعد أن يستغفر الإنسان ربه، ولهذا قال: «فاستغفروني أغفر لكم»، أي اطلبوا منى المغفرة حتى أغفر لكم.

ولكنَّ طلب المغفرة ليس مجرد أن يقول الإنسان: اللهم اغفر لي، بل لابدَّ من توبةٍ صادقة يتوب بها الإنسان إلى الله - عزَّ وجلَّ.

والتوبة الصادقة هي التي تجمع خمسة شروط:
الشرط الأول: أن يكون الإنسان مخلصًا فيها لله - عزَّ وجلَّ - لا يحمله على التوبة مراءاة الناس، ولا تسميعهم، ولا أن يتقرب إليهم بشيء، وإنما يقصد بالتوبة الرجوع إلى الله حقيقة، والإخلاص شرط في كل عمل، ومن جملة الأعمال الصالحة: التوبة إلى الله - عزَّ وجلَّ -، كما قال تعالى: ï´؟ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 31].

الشرط الثاني: أن يندم الإنسان على ما وقع منه من الذنب، يعني أن يحزن، ويتأسف، ويعرف أنه ارتكب خطأ حتى يندم عليه، أما أن يكون ارتكاب الخطأ وعدمه عنده على حدٍّ سواء؛ فهذه ليست بتوبة، بل لابد من أن يندم بقلبه ندمًا يتمنى أنه لم يقع منه هذا الذنب.

الشرط الثالث: أن يقلع عن الذنب فلا توبة مع الإصرار على الذنوب، كما قال تعالى: ï´؟ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ï´¾ [آل عمران: 135]، أمَّا أن يقول إنه تائب من الذنب وهو مصر عليه، فإنه كاذب مستهزئ بالله - عزَّ وجلَّ -، فمثلًا لو قال: أتوب إلى الله من الغيبة، ولكنه كلما جلس مجلسًا اغتاب عباد الله؛ فإنه كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من الربا ولكنه مصر عليه؛ يبيع بالربا ويشتري بالربا، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من استماع الأغاني، ولكنه مصر على ذلك، فهو كاذب في توبته، ولو قال: أتوب إلى الله من معصية الرسول صلى الله عليه وسلم في إعفاء اللحية، وكان يحلقها، وهو يقول أتوب إلى الله من حلقها: فإنه كاذب، وهكذا جميع المعاصي إذا كان الإنسان مصرًّا عليها فإن دعواه التوبة كذب، ولا تقبل توبته.

ومن التخلي عن الذنب والإقلاع عنه: أن يرد المظالم إلى أهلها إذا كانت المعصية في حقوق العباد، فإن كانت في أخذ مال فليرد المال إلى من أخذه منه، فإن كان قد مات فليرده إلى ورثته، فإن تعذر عليه أن يعرف الورثة، أو نسي الرجل، أو ذهب الرجل إلى مكان لا يمكن العثور عليه، مثل أن يكون أجنبيًّا، فيرجع إلى بلده، ولا يدري أين هو، ففي هذه الحال يخرج ما عليه صدقة ينويها لصاحب المال الذي يطلبه.

وإذا كان الذنب في غيبة، وكان المغتاب قد علم أن هذا الرجل قد اغتابه، فلابد أن يذهب إلى المغتاب ويتحلل منه، وينبغي للمغتاب إذا جاءه أخوه يعتذر إليه أن يقبل، وأن يسامح عنه، فإذا جاء إليك أخوك معتذرًا مقرًّا بالذنب، فاعف عنه واصفح ï´؟ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ï´¾ [المائدة: 13]، ولكن إذا لم يقبل أن يتسامح عن غيبته إلا بشيء من المال؛ فأعطه من المال حتى يقتنع ويُحلِّلَك.

كذلك إذا كانت المعصية مُسَابَّةً بينك وبين أحد حتى ضربته مثلًا، فإن التوبة من ذلك أن تذهب إليه وتستسمح منه، وتقول: ها أنا أمامك اضربني كما ضربتك، حتى يصفح عنك، المهم أن من الإقلاع عن المعصية إذا كانت لآدميٍّ أن تتحلَّل منه، سواء كانت مظلمةَ مالٍ، أو بدن، أو عِرض.

الشرط الرابع: أن يعزم على ألا يعود في المستقبل، فإن تاب وأقلع عن الذنب لكن في قلبه أنه حانت الفرصة عاد إلى ذنبه، فإن ذلك لا يقبل منه، فهذه توبةُ لاعب، فلابد أن يعزم، فإذا عزم ثم قُدِّر أن نفسه سولت له بعد ذلك، وفعل المعصية، فإن ذلك لا ينقض التوبة السابقة، لكن يحتاج إلى توبة جديدة من الذنب مرة ثانية.

الشرط الخامس: أن تكون التوبة في الوقت الذي تقبل فيه، فإن فات الأوان لم تنفع التوبة، ويفوت الأوان إذا حضر الإنسان الموت. فإذا حضره الموت فلا توبة ولو تاب لم ينفعه، لقوله تعالى: ï´؟ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ ï´¾ [النساء: 18]، الآن لا فائدة فيها، ولهذا لما أُغرِق فرعون: ï´؟ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرائيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ ï´¾ [يونس: 90] فقيل له ï´؟ آلْآنَ ï´¾، يعني أتقول هذا الآن ï´؟ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ï´¾ [يونس: 91]، فات الأوان، ولهذا يجب على الإنسان أن يبادر بالتوبة، لأنه لا يدري متى يفجؤه الموت، كم من إنسان مات بغتة وفجأة، فليتب إلى الله قبل أن يفوت الأوان.

أما الثاني الذي يفوت به أوان التوبة: إذا طلعت الشمس من مغربها، فإن النبي - عليه الصلاة والسلام - أخبر أن الشمس إذا غابت سجدت تحت عرش الرحمن - عزَّ وجلَّ -، واستأذنت الله، فإن أُذِن لها استمرَّت في سيرها، وإلا قيل: ارجعي من حيث جِئْتِ، فترجع بإذن الله وأمره، فتطلع على الناس من المغرب، فحينئذ يؤمن جميع الناس، يتوبون ويرجعون إلى الله، ولكن ذلك لا ينفعهم، قال الله تعالى: ï´؟ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ï´¾ يعني عند الموت، ï´؟ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ï´¾ يعني يوم القيامة للحساب، ï´؟ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ï´¾ يعني طلوع الشمس من مغربها، ï´؟ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا ï´¾ [الأنعام: 158].

هذه خمسة شروط للتوبة، لا تقبل إلا بها، فعليك يا أخي أن تبادر بالتوبة إلى الله، والرجوع إليه، ما دمتَ في زمن الإمهال، قبل ألا يحصل لك ذلك، واعلم أنك إذا تبت إلى الله توبة نصوحًا؛ فإن الله يتوب عليك، وربما يرفعك إلى منزلة أعلى من منزلتك، انظر إلى أبيك آدم، حيث نهاه الله عن الأكل من الشجرة، فعصى ربه بوسوسة الشيطان له، قال الله تعالى: ï´؟ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى ï´¾ [طه: 121، 122]، لما تاب نال الاجتباء. واجتباه الله، وصار في منزلةٍ أعلى من قبل أن يعصي ربه، لأن المعصية أحدثت له خجلًا وحياء من الله، وإنابة إليه، ورجوعًا إليه، فصارت حاله أعلى حالًا من قبل.

واعلم أنَّ الله أشدُّ فرحًا بتوبة عبده المؤمن من رجل كان على راحلته وعليها طعامه وشرابه في أرض فلاة، لا أحد فيها، فأضاع الناقة، وطلبها فلم يجدها، فنام تحت شجرة ينتظر الموت، فإذا بخطام ناقته متعلقًا بالشجرة، قد جاء الله بها، فأخذ بخطامها، وقال من شدة الفرح: «اللهمَّ أنت عبدي، وأنا ربُّك، أخطأ من شدَّةِ الفرح»، أراد أن يقول: اللهم أنت ربي، وأنا عبدك، ولكن أخطأ من شدة الفرح، لأن الإنسان إذا أشتد فرحه لا يدري ما يقول، كما أنه إذا اشتد غضبه لا يدري ما يقول، فالله بتوبة عبده المؤمن أشد فرحًا من فرح هذا بناقته. نسأل الله أن يتوب علينا وعليكم، ويرزقنا الإنابة إليه.

وقوله جل ذكره: «يا عبادي إنَّكم لن تبلغوا نفعي فتنفعوني ولن تبلغوا ضري فتضروني»، يعني أنه - تبارك وتعالى - غني عن العباد، ولا ينتفع بطاعتهم ولا تضره معصيتهم، فإنه - عزَّ وجلَّ - قال في كتابه: ï´؟ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ï´¾ [الذريات: 56، 58]، فالله - عزَّ وجلَّ - لا ينتفع بأحد، ولا يتضرر بأحد لأنه غني عن الخلق - جلَّ وعلا -، وإنما خلق الخلق لحكمة أرادها - تبارك وتعالى - خلقهم لعبادته، ثم إنه وعد الطائعين بالثواب، وتوعد العاصين بالعقاب، وحكمةً منه؛ لأنه خلق الجنة والنار، وقال: لكلٍّ منكما على ملؤها، فالنار لابد أن تُملأ، والجنة لابد أن تملأ كما قال - عزَّ وجلَّ -: ï´؟ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ï´¾ [هود: 119]، إذن فالله تعالى لن ينفعه طاعة الطائعين، ولن تضره معصية العاصين، ولن يبلغَ أحدٌ ضرره مهما كان.

ولهذا قال فيما بعد هذه الجملة: «لو أنَّ أوَّلكم وآخركُم وأنسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقَى قلب رجلٍ واحدٍ منكم، ما زاد في ملكي شيئًا». لو أن أول الخلق وأخرهم وأنسكم وجنهم كانوا مُتَّقين، على أتقى قلب رجلٍ واحدٍ، ما زاد ذلك في ملك الله شيئًا، لأن الملك مُلكه، لا للطائعين ولا للعاصين.

كذلك أيضًا يقول - جلَّ وعلا -: « يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وأنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئًا»، لو كان العباد كلُّهم، من جنٍّ وإنسٍ، وأولهم وآخرهم، لو كانوا كلهم فجَّارًا وعلى أفجر قلب رجل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا، قال الله تعالى: ï´؟ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ ï´¾ [الزمر: 7]، فالله - جلَّ وعلا - لا ينقص ملكه بمعصية العصاة، ولا يزيد بطاعة الطائعين، هو ملك الله على كل حال.

ففي هذه الجمل الثلاث دليل على غنى الله - سبحانه وتعالى -، وكمالِ سلطانه، وأنه لا يتضرَّر بأحدٍ ولا ينتفعُ بأحدٍ؛ لأنه غني عن كلِّ أحد.

ثم قال تعالى: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنَّكم قاموا في صعيدٍ واحد، فسألوني، فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المِخْيط إذا أُدْخلَ البَحر»، هذه الجملة تدلُّ على سعة ملك الله - عزَّ وجلَّ - وعلى كمال غناه - تبارك وتعالى - لو أن الأولين والآخرين، والإنس والجن، قاموا كلهم في صعيد واحد، فسألوا الله ما تبلغه نفوسهم، من أس مسألة وإن عظمت، فأعطي الله كل إنسان ما سأل، بل أعطي الله كل سائل ما سأل، فإن ذلك لا ينقص من ملك الله شيئًا؛ لأن الله جواد، واجد، عظيم الغني، واسع العطاء - عزَّ وجلَّ.

«إلَّا كما يَنْقصُ المِخْيطُ إذا أُدْخلَ البحرَ». اغْمِس المِخْيطَ في البحر، وانظر؛ ماذا ينقص البحر؟ إنه لا ينقص البحر شيئًا، ولا يأخذ المخيط من البحر شيئًا يمكن أن ينسب إليه، وذلك لأنه - عزَّ وجلَّ - واسع الغنى، جواد، ماجد، كريم - سبحانه وتعالى.

«يا عبادي، إنما هي أعمالكم أحصيها، لكم، ثم أوفيكم إياها»، ومعنى «إنَّما هي أعمالُكم» أي: الشأن كله أن الإنسان بعمله، يحصى الله أعماله، ثم إذا كان يوم القيامة وفاه إياها. ï´؟ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ï´¾ [الزلزلة: 7، 8]، «فمَنْ وجَدَ خيرًا فليحمَدِ الله، ومَنْ وجَدَ غير ذلك فلا يَلُومنَّ إلَّا نفْسَه»؛ لأنه هو الذي أخطأ، وهو الذي منع نفسه الخير، أما إذا وجد خيرًا فليحمد الله؛ لأنَّ الله تعالى هو الذي منَّ عليه أولًا وآخرًا، مَنَّ عليه أولًا بالعمل، ثم منَّ عليه ثانيًا بالجزاء الوافر ï´؟ مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ï´¾ [الأنعام: 160].


فهذا الحديث حديث عظيم، تناوله العلماء بالشرح واستنباط الفوائد والأحكام منه، وممن أفرد له مؤلفًا: شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -، فإنه شرح هذا الحديث في كتاب مستقل، فعلى الإنسان أن يتدبر هذا الحديث ويتأمله، ولا سيما الجملة الأخيرة منه، وهي أن الإنسان يجزى بعمله، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرٌّ، وهذا هو وجه وضع المؤلف لهذا الحديث في باب المجاهدة، أن الإنسان ينبغي له أن يجاهد نفسه، وأن يعمل الخير حتى يجد ما عند الله خيرًا وأعظم أجرًا. والله الموفق.

«شرح رياض الصالحين» (2/ 114 - 137)








__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.27%)]