عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 03-04-2020, 03:29 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,873
الدولة : Egypt
افتراضي الأحكام المتعلقة بالهلال

الأحكام المتعلقة بالهلال
صالح اللحيدان


الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وقائد الغر المحجلين، وإمام المتقين أنصح الخلق وأبرهم وأزكاهم وأتقاهم وأعلمهم بمراد الله - سبحانه وتعالى - وأشدهم في أمر ربه - جل وعلا - اختاره الله للرسالة الخالدة والشريعة الخاتمة المهيمنة وأعطاه من كمال البيان مالم يعط غيره من الناس، وبعد: فقد كانت صحفنا المحلية وبعض مجلاتنا قد نشرت لي مقالاً عن الهلال متى تثبت رؤيته وماذا يجب على الناس في عباداتهم المنوطة بالهلال صياماً وحجاً وبماذا يكون دخوله واعتمادهم أعلى الرؤية أم على الحساب وأقوال العارفين به؟
وقد كثر الحديث عن ذلك، وتعدد القائلون فيه من منتسب لطلب العلم الشرعي ومدع علم الفلك، وكثر الخوض في ذلك وتعمد بعض الكتاب إثارة المشاعر في كل وقت يكون الناس في استقبال عبادة تتعلق بالهلال، وقد أثر على هؤلاء الكتاب ما رأوه من تقدم العلم الفلكي في هذه العصور، ومعرفة كواكب قد لا يكون الناس في السابق عرفوها، وتأثر بعض هؤلاء بمقولة بعض العلماء المتقدمين التي خالفوا فيها الإجماع، وربما كانت جرأة بعضهم - رحمهم الله - أن قرر إبطال الشهادة من العدول إذا خالفها الحساب ظناً منهم - رحمهم الله - أن الحساب قطعي الدلالة، وأن الشهادة ظنية الدلالة، وأن الظني لا يقاوم القطعي فراح بعض من اطلع على مثل هذا القول - المردود من قبل أهل العلم - ينادي به ويتعلق به ويجعله حجة ترد بها البينة التي اعتبرها الشارع وبنى عليها الحكم الشرعي دون أن يرد ذلك إلى كلام الله - عز وجل - أو كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم أو يعرضه على كلام من هم أقعد في العلم من صاحب ذلك القول وأدق فهماً ومعهم إجماع الأمة كما تأثر بعض الكتاب ببعض نشرات ندوات فلكية لم يرجع أصحابها في كلامهم إلى أدلة الشريعة وقواعدها ولم يتأملوا ما في أدلة الكتاب والسنة من اليسر والتيسير ولا عرضوا أفكارهم على أهل العلم بأدلة الكتاب والسنة.
وصار أولئك الكتاب عن حسن نية فيما نظن يشككون الناس في عباداتهم وصيامهم وفطرهم وفي حجهم؛ فدعاني ذلك وما ذكرته في مقالي المنشور في آخر رمضان عام 1409 هـ إلى الكتاب التي أسوق الآن نصها مع قليل من التصرف والزيادة في بعض المواضع متعمداً في ذلك الأدلة الشرعية وكلام خيار الأمة بعد نبيها فهم أعرف الناس بمراد الله ومراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم – وما فعلته الآن من التعديل القليل والزيادة اليسيرة، فبقدر ما تدعو الحاجة إليه، وقد رأيت إعادة نشر المقال استجابة لأمر شيخنا ووالدنا سماحة الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله بن باز (الرئيس العام لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد)، وتلبية لرغبة زميلنا العزيز الدكتور محمد بن سعد الشويعر (رئيس تحرير مجلة البحوث الإسلامية) لينشره في مجلة البحوث، ولاشك أن ما ينشر في مجلة هي بمنزلة كتاب يقتنى ويرجع إليه يحتاج لإجراء تعديل عما كان ينشر في صحف سيارة، ومحافظة مني على أصل المقال أسوق نصه مع التعديل الذي أشرت إليه وإضافة للزيادة التي نوهت عنها إما في صلب المقال أو على شكل تعليقات على المقال (1)، وأنا لا أشك أن كتابات من كتبوا إنما كان باعثها حب جمع المسلمين ولم شتاتهم ظناً منهم أن ذلك يجمعهم، ومثل ذلك لا يجمع في الحقيقة وإنما يجمع الأمة اتحاد المسيرة في ظل القرآن الكريم والسنة المطهرة وما قامت عليه الدولة الإسلامية الأولى من صفاء العقيدة، وصدق الانقياد لأمر الله وأمر رسوله، والرجوع إلى ما قال الله ورسوله في كل الأحوال والرغبات والمقاصد وإليك أيها القارئ الكريم نص الكلمة السابقة مدخلاً فيها ما ذكرته من التصرف الذي لا يخرجها عن مبناها، ولا يخل بمعناها إن شاء الله جل جلاله.
الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة ورضي لنا الإسلام ديناً وبعث إلينا رسوله محمداً هادياً ومعلماً، فأقام الحجة وأوضح المحجة وبين للناس ما نزل إليهم من ربهم أكمل بيان وأتمه ولم يمت - عليه الصلاة والسلام - حتى بين لنا فروع الدين وأصوله فلا يضل عن هديه بعد ذلك إلا هالك، وربنا - سبحانه وتعالى - لم يجعل علينا في ديننا أي حرج بل جعل أموره سهلة مبسطة ميسرة، وأقام لأوقات العبادة دلائل واضحة لا يختص بمعرفتها فئة خاصة من الناس، وإنما يشترك في معرفتها الخاصة والعامة، ولم يقيدها بعلم دقيق غامض بل أناط معرفتها بأمور محسوسة وكواكب سيارة يعرفها المتعلم والعامي، ويهتدي بطلوعها وغروبها المكلفون جميعاً، وهذا من رحمة الله بعباده وإحسانه إليهم وجميل لطفه بهم، فله الحمد والشكر على نعمه التي لا تعد ولا تحصى إذ لم يجعل أمور عباداتنا معلقة على علوم دقيقة تفتقر إلى حساب وحدس وتخمين لما في ذلك من الحرج والعناء وحدوث الغلط والاضطراب وحصول الشك والقلق، وبعد:
فيا أخي المسلم إن الباعث لي على كتابة هذا الحديث هو ما تكرر من كتابات صحفية عند قرب مواسم العبادة الدورية، أو قرب خروجها كالصيام والعيد والحج مما أوجد بلبلة وتساؤلات كثيرة، وما كنت أرغب الكتابة في ذلك قبل الآن لعلمي أن ما حوته الكتب من علوم القرآن والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة فيه مقنع لطالب الحق، وأن العبرة بما جاء عن المعصوم صلوات الله وسلامه عليه، ولكن الأمر في الآونة الأخيرة بدأ يتسع خرقه ويتفاقم خطبه، وصار الناس يجدون كتابات جازمة بأحكام صادرة عن غير ذوي الشأن المعنيين بالأمر، وفيها تحدٍّ سافر، وتشكيك في العبادة، وإعطاء الحساب المبني على الظن حكم القرآن ومتواتر السنة من قطيعة الدلالة ووجوب رد الشهادة إذا خالفته رغم أن حذاق الحساب يجزمونه بأنه لا يمكن أن يتوصل بالحساب إلى أمر قاطع، ولا إلى دليل حاسم، ومن يطالع أكثر ما كتب باعتناء وتجرد يجد ظاهراً لا لبس فيه، وقد كثر القول والتذمر من العامة والخاصة كما كثر ترديد عبارات قوية مثل: أما يوضع لهذا الاندفاع حد؟ أما يوقف الخوض فيما يربك العامة ويؤثر على نفوسهم؟ وقد يوجد بسبب أمثال هذه الكتابات من الاختلاف والفرقة ما يعم ضرره ويعظم خطره مما أوجب الكتابة فيه مع أن أهل العلم قد تكرر منهم البيان وإيضاح الحكم الشرعي.
وتوالت كتابات شيخنا سماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز وغيره ثم إنه قد اتصل بي بعض من أرى رأيهم محل تقدير واهتمام ورغب إلى أن أقول شيئاً في هذا الأمر وأكتب كتابة موسعة لعل الله أن ينفع بها، وكنت متردداً في ذلك، وأخيراً انشرح صدري للكتابة، وفضلت الاستجابة لرأيه وعزمه، وبما أن الأمر يتعلق بركن من أركان الإسلام بل بركنين هما الصيام والحج فلا بد من الاهتداء بقول المبلغ عن الله رسالاته الذي لا ينطق عن الهوى بل بكلام هو وحي يوحى، وهو عليه الصلاة والسلام قد أوتي الكتاب ومثله معه، وكان أنصح الخلق وأبرهم فلم يتركنا نتخبط في ظلم الجهل ونتقارع بحجج الهوى بل أعطانا مصابيح كاشفة وهاجة لا يبقى معها شك أو ريبة لمنصف ينشد الحق ويسعى في طلبه، وإليك أيها القارئ جملة منها وسأقتصر على ما في الصحيح إذ القصد إعطاء القارئ الذي قد تكون أثرت عليه بعض تلك المقالات ما يبدد عنه غيومها ويزيل عنه آثارها لاسيما وقد اقترنت بذكر بعض أقطاب العلم ممن لهم في النفوس منزلة عالية، ولكن على فرض أن في بعض كلام أهل العلم ما يؤيد ما نشر فإن مما لاشك فيه أن العبرة والعمدة على الله - سبحانه وتعالى -: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه)(2)، والمراد بالشهود رؤية الهلال كما هو المتبادر وبه فسره أهل العلم العارفون بمدلول لغة القرآن وهم القدوة في ذلك لا من خالف إجماع السلف كما سوف يمر بك، إن شاء الله.
ثم تأمل كلام الصادق المصدوق تجده فصلاً في الموضوع واقعاً على المحز ينجلي به عن القلب كل غمة وهاك ما وعدتك به:
قال الإمام البخاري (3) في صحيحه باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا)) حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر عن رمضان فقال: ((لا تصموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن غم عليكم فاقدروا له)).
حدثنا عبد الله بن مسلمة حدثنا مالك عن عبد الله بن دينار عن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم قال: ((الشهر تسع وعشرون ليلة فلا تصوموا حتى ترونه فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين)).
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا محمد بن زياد قال سمعت أبا هريرة - رضي الله عنه - يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قال أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم -: ((صوموا لرؤيته وأفطرو لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدت شعبان ثلاثين)).
حدثنا آدم حدثنا شعبة حدثنا الأسود بن قيس حدثنا سعيد بن عمرو أنه سمع ابن عمر - رضي الله عنهما - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا يعني مرة تسعة وعشرين مره ومرة ثلاثين)) أ. هـ.
قال الحافظ في الفتح بعد كلام له على معنى الحديث: فعلق الحكم بالصوم وغيره بالرؤية لرفع الحرج عنهم ولو حدث بعدهم من يعرف ذلك ـ يعني الحساب ـ بل ظاهر السياق يشعر بنفي تعليق الحكم بالحساب أصلاً يوضحه قوله في الحديث الماضي: ((فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين))، ولم يقل فاسألوا أهل الحساب والحكمة في كون العدد عند الإغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الخلاف والنزاع، وقال (4): ونقل ابن العربي عن ابن سريج أن قوله: ((فاقدروا له))، خطاب لمن خصه الله بهذا العلم وأن قوله: ((فأكملوا العدة)) خطاب للعامة قال ابن العربي: فصار وجوب رمضان عنده مختلف الحال يجب على قوم بحساب الشمس والقمر وعلى آخرين بحساب العدد، قال: وهذا بعيد عن النبلاء يعني فكيف برسول رب العالمين، وقال ابن الصلاح: معرفة منازل القمر هي معرفة سير الأهلة، وأما معرفة الحساب فأمر دقيق يختص بمعرفته الآحاد، قال: فمعرفة منازل القمر تدرك بأمر محسوس يدركه من يراقب النجوم، وهذا هو الذي أراده ابن سريج، وقال به في حق العارف بها في خاصة نفسه، ونقل الروياني عنه أنه لم يقل بوجوب ذلك عليه، وإنما قال بجوازه..الخ.
وقال (5) عن اعتبار الحساب: وقال ابن بزيزة: وهو مذهب باطل فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب وقال - رحمه الله -: وقال ابن بطال: في الحديث يعني حديث إنا أمة أمية ـ رفع لمراعاة النجوم بقوانين التعديل وإنما المعول الرؤية وقد نهينا عن التكلف ولاشك أن في مراعاة ما غمض حتى لا يدرك إلا بالظنون غاية التكلف أ.هـ (بعض روايات الحديث في صحيح مسلم (6).
وقال الإمام مسلم (7): حدثني يحي بن يحي قال: قرأت على مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ذكر رمضان فقال: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه فإن أغمى عليكم فأقدروا له)).
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حدثنا عبيد الله عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر رمضان فضرب بيديه فقال: ((الشهر هكذا وهكذا)) ثم عقد إبهامه في الثالثة ((صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمى عليكم فاقدروا له ثلاثين))، وساق أحاديث في هذا المعنى إلى أن قال - رحمه الله -: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا غندر عن شعبة وساق السند إلى ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه سمع النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب الشهر هكذا هكذا))، يعني تمام الثلاثين.
وقال - رحمه الله - حدثنا يحي بن يحي أخبرنا إبراهيم بن سعد عن سعد عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا فأن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً))، وساق - رحمه الله - روايات عدة في هذا المعنى.
قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم: باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال والفطر لرؤية الهلال، وأنه إذا غم في أوله أو آخره أكملت عدة الشهر ثلاثين يوماً.
قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه، فإن أغمي عليكم فاقدروا له))، وفي رواية: ((إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا فإن غم عليكم فاقدروا له))، وفي رواية: ((فإن غم عليكم فصوموا ثلاثين يوماً))، وفي رواية: ((فإن غمي عليكم فأكملوا العدد))، وفي رواية: ((فإن غمي عليكم الشهر فعدوا ثلاثين))، وفي رواية: ((فإن أغمي عليكم فعدوا ثلاثين))، هذه الروايات كلها في الكتاب على هذا الترتيب، وفي رواية للبخاري: ((فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين))، واختلف العلماء في معنى: ((فاقدروا له))، فقالت طائفة من العلماء: معناه ضيقوا له وقدروه تحت السحاب، وممن قال بهذا أحمد بن حنبل (8)، وغيره ممن يجوز صوم يوم ليلة الغيم عن رمضان كما سنذكره إن شاء الله - تعالى -، وقال ابن سريج وجماعة منهم مطرف بن عبد الله وابن قتيبة وآخرون: معناه قدروه بحساب المنازل وذهب مالك والشافعي وأبو حنيفة وجمهور السلف والخلف إلى أن معناه قدروا له تمام العدد الثلاثين يوماً؟
قال أهل اللغة: يقال قدرت الشيء أٌقدره وقدرته وأقدرته بمعنى واحد وهو التقدير، قال الخطابي: ومنه قوله - تعالى -: ((فقدرنا فنعم القادرون))(9)، واحتج الجمهور بالروايات المذكورة: ((فأكملوا العدة ثلاثين))، وهو تفسير لقوله: ((فقدروا له))، ولهذا لم يجتمعا في رواية بل تارة يذكر هذا، وتارة يذكر هذا، ويؤكده الرواية السابقة: ((فاقدروا له ثلاثين))، قال المازري: حمل جمهور الفقهاء قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فاقدروا له)) على أن المراد كمال العدة ثلاثين كما فسره في حديث آخر قالوا: ولا يجوز أن يكون المراد به كلام المنجمين لأن الناس لو كلفوا به ضاق عليهم؛ لأنه لا يعرفه إلا أفراد والشرع إنما يعرف الناس بما يعرفه جماهيرهم والله أعلم.
وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((فإن غم عليكم))، فمعناه حال بينكم وبينه غيم، يقال: غم وأغمي وغمي بتشديد الميم وتخفيفها، والغين مضمومة فيها يقال: غبي.. الخ انتهى من شرح النووي على صحيح مسلم.
وبهذا اكتفى بالنقل من أحاديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلاصته من شرح الحافظ في الفتح على البخاري، وما أتبعه من أحاديث مسلم، ومن شرح الإمام النووي الذي قال فيه السبكي صاحب المقولة الشاذة في ردة الشهادة إذا خالفها الحساب أنه أي النووي محرر المذهب الشافعي وحسبه أنه صاحب المجموع والروضة وشرح صحيح مسلم وتهذيب الأسماء وغيرها.
وقال الحافظ (10) أيضاً بعد نقل الخلاف في خصوص النظر في الحساب والمنازل فقال: وقال ابن الصباغ: أما بالحساب فلا يلزمه بعني الحاسب بلا خلاف بين أصحابنا قلت: ونقل ابن المنذر قبله الإجماع على ذلك فقال في الإشراف: صوم يوم الثلاثين من شعبان إذا لم ير الهلال مع الصحو لا يجب بإجماع الأمة، وقد صح عن أكثر الصحابة والتابعين كراهته هكذا أطلق، ولم يفرق بين حاسب وغيره فمن فرق بينهما كان محجوجاً بالإجماع قبله أ. هـ
أخي القارئ:
بعد هذه المقدمة النفسية من كلام المعصوم - صلى الله عليه وسلم - يحسن بنا أن نفكر متجردين عن الهوى: ما الذي نجنيه من الكتابة عن الصيام وتكذيب شهود رؤية الهلال لأن الحساب قد دلنا على أن الشهر لن يهل أو أنه لم يولد؟ هل عندنا بذلك أثارة من علم ممن يرد قوله؟ أو أننا صدقنا نتيجة حسابنا إن كنا نحسن الحساب، أو أننا وثقنا بخبر حاسب قال لنا ذلك مع افتقار خبره إلى مقومات قبول الخبر من الثقة والأمانة والخبرة الطويلة وتجربة صوابه دائماً.. الخ، وعدم الاستغناء عنه بخبر من أمرنا الله بتصديقه وقبول أمره والوقوف عنه نهيه والرضا بحكمه بدون أي تردد لأن الله عصمه وأيده.
أما غيره من أهل الحساب فإن قدماءهم ومحدثيهم لا يدعون لأنفسهم العصمة ولم يسجلوا هذا في كتبهم ولو سجلوه لرد العلماء عليهم فكيف نسبغها عليهم بكل بساطة ودون مراعاة لما كان عليه سلفنا الصالح الذين هم أحرص على جمع الكلمة وتوحيد الأمة وكانوا أتقى لله وأبر وأفقه في العلم من غيرهم، والاقتداء بهم خير وفلاح وبر، وإن ترك قولهم لقول أهل الحساب ضلال وعقوق وإزراء بهم وما كانوا لذلك أهلاً.
أخي القارئ:
إننا قد كفينا الأمر وإن نبينا - صلى الله عليه وسلم - أمامنا فعلينا أن نوليه ما يستحقه من الاحترام والتقدير على كل قول أو رأي، إن علماء الأمة يقولون إن تأخير البيان عن وقت الحاجة غير جائز فهل يليق بنا أن ننسب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخفاء شيء من شرع الله أو أنه جهل الرد إلى أمر نحن اهتدينا له، إن أمراً وسع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه يجب أن يسعنا وسوف ترى أيها القارئ الكريم تفصيل القول في معنى وصف أمتنا بالأمية إن شاء الله - تعالى -.
إنني أعلم أن من كتب في صحفنا عن الرؤية وعدم صحتها لا ينسب لنفسه أنه اهتدى لما لم يهتد إليه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأني أحسن الظن بهم من عرفته منهم ومن لم أعرفه، لكني أرى أنهم كلفوا أنفسهم تحمل حملاً ثقيلاً ووقفوا بما كتبوه رادين لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدون قصد إذ لا يعقل أن مسلماً يدين بالإسلام حقاً يرضى أن يرد سنة رسول الله بحساب سوف نقرأ قول أصحابه عنه فيما يأتي إن شاء الله ونعرف بذلك ما تجشمه هؤلاء هداهم الله وإيانا وبصّرنا وإياهم بديننا إذ أن البصيرة في الدين من هدي سنة المرسلين.
إن أمة الإسلام مضى لها أكثر من أربعة عشر قرناً وأجمعت على عدم اعتبار الحساب في إثبات عبادة الصوم والحج وإذا وجد فرد قد شذ (11) ردوا قوله ولم تقل بالحساب إلا طائفة الإسماعيلية الطائفة المعروفة، ومن كان قريباً منها من الطوائف كما ذكر ذلك حفّاظ الإسلام من القرون الأولى إلى من جاء بعدهم من الحفّاظ وللفائدة وإزاحة لما قد يكون قد علق بالأذهان من جراء النقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في بعض كتابات من كتبوا مدّعين في كتاباتهم بلا دليل شرعي خطأ الشهود الذين شهدوا بالرؤية، وعن الكسوف، ونعذر ظهور الهلال إذا وجد كسوف أقول: لقد أرشدنا سيد الرسل وخاتمهم إلى ما نعتبره من الكسوف وقال: ((إذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الصلاة))، وقد رواه وغيره من أحاديث الكسوف عامة مخرجي السنة في كتاب الكسوف، وسكت عن الاقتران والافتراق، وسبب الكسوف التجلي فلم يرتب على ذلك حكماً سوى الصلاة حتى يكشف عنا، أيليق بنا أن نزيد ونقول ترد بذلك الشهادة ويحكم كذب الشهود العدول الذين لا غرض لهم في ظاهر الأمر بل عليهم من المشقة والتعرض للمتاعب ما يعلمه من يتولى أخذ شهادتهم ومطالباتهم بإحضار من يشهد بعدالتهم وأمانتهم، ألم يقل ربنا - جل وعلا -: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) (12)، ومع ذلك أيترك الله أمراً في منتهى الخطورة فلا يرشدنا إليه في كتاب ولا سنة إن هذا الظن بالله وبرسوله غير لائق، ومن كتب عن الهلال لا أشك أنه لم يرد في ذهنه هذا الظن لكن كتابته تؤدي إليه فهل يرضى لنفسه ذلك؟ ثم تعال معي لقرأ بعض كلام أهل العلم حول هذا الموضوع لتزداد طمأنينة لأن علماءنا الأجلاء بحثوا هذا الأمر بعلم وتعقل، وأرسوا لنا فيه قواعد متينة، وليس ذلك قول طائفة واحدة منهم بل هو قول عامة علماء الأمة خلفاً عن سلف.
* بعض أقوال أهل العلم: -
ونبدأ بشيخ الإسلام ابن تيمية لأن بعض من كتب عن الهلال ورد الشهادة لمخالفة الحساب قد شوش على الناس بالنقل عنهم فأحببت البدء به ولو كان من سبقه من أئمة الإسلام ردوا على من قال بالحساب وسفهوا رأيه وعدوه خالف الإجماع، قال - رحمه الله - بعد مقدمة عظيمة في كمال الدين ووجوب اتباع الصراط الله المستقيم، وأن الله أمرنا أن لا نكون كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات، وأن الله أمرنا بالاعتصام بالدين وأنه يقع المتنازع في تفصيله فتارة يكون بين العلماء المعتبرين في مسائل الاجتهاد وتارة يتنازع فيه قوم جهال بالدين منافقون أو سماعون للمنافقين يقبلون منه... الخ، وبسط الكلام في ذلك بمعان رائعة وألفاظ شائقة (13)، ثم قال: وكان مقتضى تقدم هذه المقدمة أني رأيت الناس في صومهم وفي غيره أيضاً منهم من يصغي إلى ما يقوله بعض جهال أهل الحساب من أن الهلال يرى أو لا يرى، ويبني على ذلك إما في باطنه وإما في باطنه وظاهره حتى بلغني أن من القضاة من كان يرد شهادة العدد من العدول لقول الحاسب الجاهل الكذاب أنه يرى أو لا يرى؛ فيكون ممن كذب بالحق لما جاءه، ثم قال وفيهم يعني القضاة من لا يقبل قول المنجم لا في الباطن ولا في الظاهر، لكن في قلبه حسيكة من ذلك وشبهة قوية من جهة أن الشريعة لم تلتفت إلى ذلك لا سيما إن كان قد عرف شيئاً من حساب النيرين واجتماع القرصين ومفارقة أحدهما الآخر بعدد درجات وسبب الإهلال والإبدار والاستسرار والكسوف والخسوف (14).
ثم قال: فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم والحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز والنصوص المستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك كثيرة وقد أجمع المسلمون عليه ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلاً ولا خلاف حديث إلا أن بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة زعم أنه غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، وهذا القول وإن كان مقيداً بالإغمام ومختصاً بالحاسب فهو شاذ مسبوق الإجماع على خلافه، فأما اتباع ذلك في الصحو أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم، وقد يقارب هذا قول من يقول من الإسماعيلية بالعدد دون الهلال وبعضهم يروي عن جعفر الصادق جدولاً يعمل عليه وهو الذي افتراه عليه عبد الله بن معاوية، وهذه الأقوال خارجة عن دين الإسلام وقد برأ الله جعفر منها، ثم قال: وأنا إن شاء الله أبين ذلك وأوضح ما جاءت به الشريعة دليلاً وتعليلاً شرعاً وعقلاً، ثم سرد - رحمه الله - أحاديث كثيرة وقال: فهذه الأحاديث المستفيضة المتلقاة بالقبول دلت على أمور: أحدها أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب))، هو خبر تضمن نهياً فإنه أخبر أن الأمة التي اتبعته هي الأمة الوسط أمة لا تكتب ولا تحسب فمن كتب أو حسب لم يكن من هذه الأمة في هذا الحكم بل يكون قد اتبع غير سبيل المؤمنين الذين هم هذه الأمة، فيكون قد فعل ما ليس من دينها، والخروج عنها محرم منهي عنه، فيكون الكتاب والحساب المذكوران منهياً عنهما.
وقال - رحمه الله -: فبين النبي - صلى الله عليه وسلم - أنا أيتها الأمة الأمية لا نكتب هذا الكتاب ولا نحسب هذا الحساب فعاد كلامه - عليه السلام - إلى نفي الحساب والكتاب فيما يتعلق بأيام الشهر الذي يستدل به على استسرار الهلال أو طلوعه ثم قال: لا نحتاج في أمر الهلال إلى كتاب ولا حساب إذ هو تارة كذلك وتارة كذلك يعني تسعة وعشرين وثلاثين-والفارق بينهما الرؤية فقط ليس بينهما فرق آخر من كتاب ولا حساب كما سنبينه فإن أرباب الكتاب والحساب لا يقدرون على أن يضبطوا الرؤية بضبط مستمر وإنما يقربون ذلك فيصيبون تارة ويخطئون أخرى. وظهر بذلك الأمية المذكورة صفة مدح وكمال من وجوه: فمن جهة الاستغناء عن الكتاب والحساب بما هو أبين منه وأظهر وهو الهلال، ومن جهة أن الكتاب والحساب هنا يدخلهما الغلط، وبعد كلام حول الحساب والجداول والتقويم والتعديل قال: ولهذا ما زال العلماء يعدون من خرج إلى ذلك قد أدخل في دين الإسلام ما ليس منه، إلى أن قال وما جاءت به الشريعة هو أكمل الأمور وأحسنها وأبينها وأصحها وأبعدها عن الاضطراب وذلك أن الهلال أمر مشهود مرئي بالإبصار، ومن أصح المعلومات ما شوهد بالإبصار، ثم ذكر أن الطريق لمعرفة الهلال الذي تتعلق به الأحكام مثل صيام رمضان الرؤية فقط بالسمع والعقل وسرد الأدلة على ذلك، أما أهل الحساب فقال عنهم - رحمه الله - بأن العقل يؤكد عدم انضباط حسابهم فذكر ما نصه: وأما العقل فاعلم أن المحققين من أهل الحساب كلهم متفقون على أنه لا يمكن ضبط الرؤية بحساب بحيث يحكم بأنه يرى لا محالة أو لا يرى البتة على وجه مطرد وإنما قد يتفق ذلك، قال ولهذا كان المعنيون بهذا الفن من الأمم الروم والهند والفرس إلى أن قال: ومثل بطليموس الذي هو مقدم هؤلاء ومن بعدهم قبل الإسلام وبعده لم ينسبوا إليه في الرؤية حرفاً واحداً.
ثم قال: فتبين أن قولهم في رؤية الهلال وفي الأحكام من باب واحد ويعلم بأدلة العقل امتناع ضبط ذلك. ويعلم بأدلة الشريعة تحريم ذلك والاستغناء عما نظن منفعته بما بعث الله به محمداً - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والحكمة وقال: والمعتمد على الحساب في الهلال كما أنه ضال في الشريعة مبتدع في الدين، فهو مخطئ في العقل وعلم الحساب، إلى أن قال عن الهلال: وقد يراه بعض الناس لثمان درجات وآخر لا يراه لاثنتي عشرة درجة، ولهذا تنازع أهل الحساب في قوس الرؤية (15) تنازعاً مضطرباً وأئمتهم كبطليموس لم يتكلموا بذلك بحرف لأن ذلك لا يقوم عليه دليل حسابي أ. هـ.
أخي القارئ الكريم..
لقد لخصت لك ونقلت من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - ما بسطه في أكثر من مئة صفحة من كتاب الصيام (16) لنفاسته وليكف اندفاع بعض الكتاب الذين ذكروا أنهم اعتمدوا على بعض كلام شيخ الإسلام - رحمه الله - ومع تكريري إحسان الظن بهم إلا أني أقول لهم: "ما هكذا يا سعد تورد الإبل"، احرصوا على الانكفاف عما يثير ويشوش على الناس في عباداتهم وحسبكم سنة نبيكم المعصوم وهبوا أن شيخ الإسلام أو تلميذه ابن القيم أو خلافهما قال: إذا أكد الحساب عدم الرؤية أو حصل كسوف ترد الشهادة لذلك فهل قال من لا يرد قوله المسدد بالوحي النازل عليه من السماء صباح مساء ومع ذلك فإن الشيخين - رحمهما الله - لم يقولا ترد الشهادة لذلك، وقد برأهما الله من الإقدام على رد الشهادة الصحيحة لمجرد الحساب الذي حكى عنه الإمام شيخ الإسلام ما قربت لك بعضه ونقلت لك خلاصته، وقد بين أن القول بالحساب قول الطائفة الإسماعيلية ومن نحا نحوها من الفرق التي هي على شاكلتها وإليك بعض كلام الأئمة الأعلام من سائر المذاهب وسوف ألحق ذلك ببعض كلام علماء الفلك المعاصرين إن شاء الله ليعلم أن قدماء الفلكيين ومتأخريهم لم يدعوا قطعية حسابهم فكانوا بذلك منصفين.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 37.69 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.06 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.67%)]