عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 27-03-2020, 05:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,388
الدولة : Egypt
افتراضي رد: ترجمة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله للشيخ عبد المحسن بن حمد العباد البدر


وفي حجّ عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر وهو العام الذي تخلّف فيه عن الحجّ في آخر حياته لمرض نصحه الأطبّاء بعدم السّفر للحجّ من أجله كلّف من يقومُ بفتح بيته في مكّة، ومخيّمه في منى، وصُنْعِ الولائم وتقديمها للنّاس الذين اعتادُوا أن يأتُوا إليه ليستفيدوا من علمه، ويشاركوه في طعامه، وكان يتّصلُ بمن كلّفه بذلك بالهاتف للاطمئنان على ذلك.
وكان يبذلُ جاهَهُ في الشّفاعة للنّاس وفي مساعدتهم في تحصيل مطالبهم وقضاء حوائجهم.
ثمّ إنّه كان يتيسّرُ لي أن أزورهُ في وقت الحجِّ في منزله وفي المخيّم في منى، وفي هذه السَّنَة لمّا تخلّف عن الحجِّ سافرتُ إلى مكّة لَمَّا كان فيها قبل ذهابه إلى الطّائف بيومين، وذلك في يوم الخميس الموافق التّاسع والعشرين من شهر ذي الحجّة، ذهبتُ أنا وبعضُ أبنائي خصِّيصاً لزيارته، ولَمَّا جئنا إليه وسلّمنا عليه كعادته يبادرُ إلى السُّؤال عن الحال وعن الوالدين، ويدعُو إلى تناول طعام الغداء، فقلتُ له: إنّا قد جئنا من المدينة خصِّيصاً لزيارتك، ونتناولُ طعامَ الغداء معك ثمّ نرجعُ إلى المدينة، فقال رحمه الله: قال اللهُ عزّ و جلّ: (( وجبتْ محبّتي للمتحابِّين والمُتزاورين فِيَّ )).
وفي ذلك اللّقاء كان في مجلسه ستّون من أصحاب الحاجات، وقد ذكرَ عددَهُم أحدُ الذين كانوا يتولّون قراءةَ المعاملات عليه، وكان وصولنا إليه في السّاعة العاشرة صباحاً، ومنذ ذلك الوقت إلى أن أذّن لصلاة الظّهر وعنده كاتبان كلُّ واحدٍ منهما عنده عددٌ من المعاملات، يتناوبان القراءة عليه، وإذا حصلَ اتِّصالٌ بالهاتف رفع السّمّاعةَ وأجابَ على استفتاء من يستفي.
ولَمَّا أُذّن لصلاة الظّهر سأل كم عددُ الذين بقيت معاملتهم؟ قيل: إنّه بقي ثمانيةٌ، فقال: إن شاء اللهُ بعد الصّلاة ننهي معاملاتهم، وبعد الصّلاة رجعَ وأنهى ما بقي وجلسَ إلى أن قُدّم طعامُ الغداء، فقام الجميعُ لتناول طعامَ الغداء، وكان الطّعامُ كثيراً كعادته لأنّ الذين يحضرُون كثيرون، وكان عددُ الصّحون التي تحلّق عليها النّاسُ في ذلك اليوم ستّة صحون كبيرة، رحمه اللهُ وغفرَ له.
ولم يكتف رحمه الله في بذله النّفعَ للنّاس وحرصه على مساعدتهم فكتبَ كتاباً لأحد المشايخ الكبار وذلك في اليوم الثّامن من الشّهر الثّالث من عام ثمانية عشر وأربعمائة وألف، قال فيه: يسرُّني أن أخبركم بأنّه منذ زمنٍ طويلٍ وأنا قائمٌ بالعمل على مساعدة كثيرٍ من المحتاجين في داخل المملكة وخارجها، وتعمير المساجد في داخل المملكة وخارجها، وتعيين الدُّعاة في خارج المملكة وذلك على نفقه خادم الحرمين الشّريفين ووليّ عهده وعدد من الأمراء وأصحاب الخير والتُّجّار، ثمّ قال بعد ذلك: والدّوامُ لله، و ï‚‘ïپ€ïƒ¤ï€® ïƒ؟ïپ´ïپ’ ïپ°ïپ³ï€©ïƒچï€،ïپ³ï‚Œ ïƒڈïپژïپ±ïپ°ïپ’ïپ‘  ïƒ،، فإذا حدثَ بي حادثُ الموت أرجُو أن تتولّوا هذه الأعمالَ، وأن تحتسبُوا الأجرَ عند الله عزّ وجلّ.
سادساً: عبادتُه
كان رحمه الله عاملاً بعلمه، وثمرةُ العلمِ العملُ، فكان كثيرَ الذِّكْرِ لله عزّ وجلّ، وكثيرَ الدُّعاء، وكان ملازماً للحجِّ، وقد حجّ سبعاً وأربعين حجّةً رحمه الله، عرفتُ هذا لمّا زارَ منطقةَ الباحة في عام ألف وأربعمائة في شعبان سُئل، وكان من جواب السُّؤال أن ذكرَ عمرَهُ وأنّه في ذلك الوقت يبلغُ السّبعين من العُمُرِ، وأنّه حجّ ثمانياً وعشرين حَجَّةً، أخبرني بذلك أحدُ الحاضرين، وكان مواصلاً للحجّ حتّى العام الذي قبل العام الذي انصرمَ وهو العامُ الثّامنُ عشر بعد الأربعمائة والألف، فيُضافُ إلى الثّمان والعشرين تسعَ عشرة حَجَّةً، فيكونُ عددُ الحَجّات التي حجّها رحمه الله سبعاً وأربعين حَجَّةً.
ومِمَّا وقفتُ عليه مِمَّا يدلّ على عظم عنايته بالعبادة والاشتغال بها أنّه في عام سبعةٍ وتسعين وثلاثمائة وألفٍ في آخر شهر ذي القعدة ذهبتُ من المدينة إلى مكّة لحاجةٍ تتعلّقُ بالعمل إذ كنتُ نائبَه في الجامعة الإسلاميّة، وبتُّ عنده تلك اللّيلة في منزله، وكان في بيته مكان مستطيل، فكان يمشي فيه ذاهباً آيباً ويقرأُ القرآنَ، يريدُ أن يتحرّك ويقرأ القرآنَ الكريم.
وأيضاً أذكرُ أنّه في سنةٍ من السّنوات لمّا كان في الجامعة دخلتُ معه إلى المسجد النّبويّ بعد أذان الظُّهر، وكنتُ بجواره، فصلّى أربعَ ركعاتٍ وأنا صلّيتُ ركعتين، ومعلومٌ أنّه جاءَ أنّ السّننَ الرّاتبةَ عشرٌ وأنّها اثنتا عشرة والأكملُ هو اثنتا عشرة، ولمّا سلّم التفتَ إليَّ وقال: أنتَ ما صلّيتَ إلاّ ركعتين، فقلتُ: نعم، فقال: إنّ الاثنتي عشرة هي الأكملُ والأفضلُ.
فكان رحمه الله ملازماً لما هو الأكملُ والأفضلُ، وينبِّهُ ويرشدُ ويلفتُ النّظرَ إلى تحصيل الأكمل والأفضل رحمه الله.
وأذكرُ أيضاً لمّا ذهب إلى القصيم في عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف ليتزوّج من هناك كنتُ مع المشايخ الذين ذهبُوا معه، ولمّا كنّا في أثناء الطّريق في وادٍ من الأودية فيه شجرٌ، وفي وسط النّهار كسفت الشّمسُ فقام فصلّى بنا صلاةَ الكسوف في ذلك الوادي، رحمه الله.
سابعاً: مؤلّفاتُه
مؤلّفاتُ الشّيخ رحمه الله كثيرةٌ، وهي رسائلُ مفيدةٌ وعظيمةٌ، وقد بدىء بجمع هذه الرّسائل وكذا الفتاوى، وطُبع منها حتّى الآن اثنا عشر مجلَّداً، تسعةُ مجلّداتٍ تتعلّق بالعقيدة والدّعوة إلى الله في موضوعات مختلفة، ثمّ المجلّدُ العاشرُ والحادي عشر والثّاني عشر بدىء فيها بالفقه بكتاب الطّهارة وإلى نهاية كتاب الجمعة من كتاب الصّلاة.
ومن مؤلّفاته:
ـ الفوائد الجليّة في المباحث الفَرَضِيّة.
ـ وكتاب التّحقيق والإيضاح لكثيرٍ من مسائل الحجِّ والعمرة والزّيارة على ضوء الكتاب والسُّنّة، وهو كتابٌ عظيمُ النّفع، كثيرُ الفائدة كما يعلمُ ذلك الخاصُّ والعامُّ. وقد طُبع في حياة الملك عبد العزيز رحمه الله، وتوالت طبعاتُه حتّى بلغت الملايين من النّسخ، كما ترجم وطبع في لغات مختلفة.
ـ ومنها نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع:
وكان ذلك في الزّمن الذي حصلت فيه هذه الفتنةُ، وكثُر الكلامُ فيها في الإذاعات والصّحف، فكان منه رحمه الله أن ألّف كتاباً عظيماً نافعاً في ذلك وطبع طبعته الأُولى عام خمسةٍ وثمانين وثلاثمائة وألف، مع أنّ بعض الشّباب في هذا العصر يتكلّمُون في كبار العلماء ويقولون عنهم: إنّهم لا يفقهون الواقع، وهذا الكتابُ الذي كتبه اسمُه: (( نقدُ القوميّة العربيّة على ضوء الإسلام والواقع ))، وكان ذلك قبل أن يُولد كثيرٌ من هؤلاء الذين يقولون: إنّهم يعرفُون الواقع، ومن اطّلع عليه عرفَ ما فيه من الفقه والفهم على ضوء الكتاب والسُّنّة والواقع.
ـ ومنها ثلاث رسائل في الصّلاة.
ـ والتّحذير من البدع: يشتمل على التّحذير من أربع بدعٍ، وهي بدعةُ الاحتفال بالمولد النّبويّ، وليلة النّصف من شعبان، وليلة الإسراء والمعراج، والرّدّ على الوصاية المنامية المزعومة من المدعو أحمد خادم الحجرة النّبويّة.
ثامناً: صلتي الخاصّةُ به
عرفتُ الشّيخَ رحمه الله في السَّنَةِ التي قدمَ فيها من الخَرْجِ إلى الرّياض؛ لأنّه قدم في أوّل عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف، وأنا جئتُ من بلدي الزُّلْفِي بعدما أخذتُ الشّهادةَ الابتدائيةَ في عام واحدٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، ودخلتُ في
معهد الرّياض العلمي، وكان هو بدأ التّدريسَ
في تلك السَّنَة، ولكنّه لم يكن يُدرِّسُنا بل يدرّس بعض الأفواج الذين قبلنا، وما ظفرتُ بتدريسه
إلاّ في السَّنَةِ الأخيرةِ في عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ كان مدرِّساً لطلاّب السَّنَة النِّهائيّة طلاّب السَّنَة الرّابعة من كليّة الشّريعة، وأوّل رؤيتي إيّاه ولقائي به في عام اثنين وسبعين وثلاثمائة وألف، وكان في ذلك الوقت عددٌ من المشايخ الكبار يقومون بإلقاء الدّروس في مسجد الشّيخ محمّد ابن إبراهيم رحمه الله بين المغرب والعِشاء، وهم الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله، والشّيخ محمّد الأمين الشّنقيطي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّحمن الإفريقي رحمه الله، والشّيخ عبد الرّزّاق عفيفي رحمه الله، وكان المسجدُ يَعُجُّ بطلبة العلم، وأذكر أنّه كان يلقي دروساً في التّفسير في سورة مريم.
ثمّ كان اتّصالي به كثيراً في الفسح بين الدّروس وفي المسجد وأزورهُ في منزله، ولمّا جاء عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف كنتُ بحمد الله من الذين رُشّحُوا للتّدريس في الجامعة الإسلاميّة في آخر عام تسعةٍ وسبعين وثلاثمائة وألف، حيثُ طلبتُ من الشّيخ محمّد بن إبراهيم رحمه الله أن يجعلني في سِلْكِ التّدريس فقال: إنّه يوافقُ على ذلك ولكنّه يريدُ أن أدرّس في الجامعة الإسلاميّة عند افتتاحها، فقلتُ: أنا على أتمِّ الاستعداد، وفي عام ثمانين وثلاثمائة وألف لم تُفتح الجامعةُ الإسلاميّةُ، وكان يُذكرُ بعضُ الأشخاص الذين سيتولّون رئاستَها، ولَمَّا جاء افتتاحُها عام واحد وثمانين وثلاثمائة وألف، وعلمتُ أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز هو الذي سيتولّى إدارتَها نائباً عن رئيسها الشّيخ محمّد ابن إبراهيم رحمه الله فرحتُ فرحاً شديداً لما لهذا الرّجُل العظيم من منزلةٍ في نفسي، فصحبتُه خمسةَ عشرَ عاماً من أوّل عام واحدٍ وثمانين وثلاثمائة وألف إلى قرب نهاية عام خمسةٍ وتسعين وثلاثمائة وألف وهو منتصفُ شهر شوّال من ذلك العام، حيث كان هو المسؤولُ في الجامعة في عشر سنواتٍ كان نائباً للرّئيس، ولكنّه هو المباشرُ للتّنفيذ، والقائمُ على إدارتها وتنفيذ أعمالها، وبعد ذلك كان رئيساً للجامعة. وكنتُ في تلك المدّة معه في مجلس الجامعة، وكان رحمه الله قد جعلني في مجلس الجامعة منذ إنشائها، وفي عام ثلاثةٍ وتسعين عيّنتُ نائباً للرّئيس بترشيح منه وموافقة من الملك فيصل رحمهما الله؛ فكنتُ ملازماً له في العمل، وأتّصلُ به باستمرارٍ، وكنتُ آتي إليه في المنزل أحيانا قبل الذّهاب إلى الجامعة وأجلسُ معه قليلاً، وكان معه الشّيخُ إبراهيم الحصيّن رحمه اللهُ، وكان يقرأُ عليه المعاملات من بعد صلاة الفجر إلى بعد ارتفاع الشّمس.
وفي يوم من الأيّام قال لي: رأيتُ البارحةَ رؤيا وهو أنّني رأيتُ كأنّ هناك بَكْرَةٌ جميلةٌ [أي: ناقةٌ] وأنا أقودُها وأنتَ تسُوقُها، وقال: أوّلتُها بالجامعة الإسلاميّة، وقد تحقّق ذلك بحمد الله فكنتُ معه في النّيابة مدّة سنتين ثمّ قمتُ بالعمل بعده رئيساً بالنِّيابة أربعةَ أعوامٍ، وحصلَ للجامعة في ذلك خيرٌ كثيرٌ ولله الحمدُ. فكانت صلتي بالشّيخ رحمه الله وثيقةً، وبعد انتقاله إلى رئاسة البحوث العلميّة استمرّت صلتُه بالجامعة حيث كان عضواً في مجلسها الأعلى كما أسلفتُ، وكان يرأسُ المجالسَ نيابةً عن خادم الحرمين الشّريفين إذا غابَ، لأنّ الرّئيسَ الأعلى للجامعة خادمُ الحرمين الشّريفين، وقد أنابَ سماحةَ الشّيخ في حال غيابه نيابةً مطلقةً.
تاسعاً: وفاتُه
توفِّي رحمه اللهُ ـ كما يعلمُ الجميعُ ـ في صبيحة يوم الخميس السّابع والعشرين من شهر المحرّم، قبل أذان الفجر بدقائق، وصُلِّي عليه في المسجد الحرام بعد صلاة الجمعة، ودُفن في مقبرة العَدْلِ في مكّة المكرّمة، وشهدَ جنازتَهُ العددُ الذي لا يحصيه إلاّ اللهُ.
وذلك لما للشّيخ رحمه اللهُ من المنزلة العظيمة والمحبّة في النّفوس، وأرجُو أن يكون ممّن قال اللهُ عزّ وجلّ فيهم:  •ïپ¢ïƒژ ï‚ڑïƒ؛ïƒڈï€، ïپ±ïƒ£ïپڑïپ´ïپ‚ïپµïƒ¤ ïپ±ïƒ¨ï€½ïƒڈïپٹïپ´ïƒ£ïپµïپ² ïƒڈïپچï‚»ïپ¹ïپ³ïƒڈïƒپ ïپ€ïپ¹ïƒ¨ïƒ´ïپ¦ïپµï‚‹ïپ¹ï‚™ ïپژïƒںïپ§ïپ³ï€¹ ïƒںïپ*ï‚»ïپµïپˆïƒ·ïپ±ï‚§ï‚چ ïپ´ï‚ٹïپ² ïƒ،، ومن الذين جاء ذِكْرُهُمْ في الحديث: (( إنّ الله إذا أحبَّ العبدَ نادى جبريل وقال: إنّي أحبُّ فلاناً فأحبّهُ، ثمّ يُنادى في أهل السّماوات: إنّ الله يحبُّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبُّه أهلُ السّماوات، ثمّ يوضع له القَبولُ في الأرض )).
ولو كنتُ أقولُ الشِّعْرَ لقلتُ الشِّعْرَ في رثائه ولكنّني لستُ بشاعرٍ، إنّما أتمثّلُ بشعر الشّعراء، وعندما كان يُوارى في قبره رحمه الله تذكّرتُ بيتاً هو مطلعُ قصيدةٍ للشّيخ محمّد بن عبد الله بن عثيمين المتوفّى سنة ثلاثٍ وستّين وثلاثمائة وألف، رثى فيها الشّيخ سعد بن عتيق وهو شيخُ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمةُ اللهِ على الجميع، وقد توفِّي سنة تسعٍ وأربعين وثلاثمائة وألف، وكان عمرُ الشّيخ لمّا توفِّي شيخُه سعد بن عتيق تسعةَ عشر عاماً، وبين وفاتيهما إحدى وسبعون سَنَةٌ، وهذا البيتُ هو قولُه:
أهكذا البَدْرُ تُخْفي نُورَهُ الحُفَرُ
ويُفْقَدُ العلمُ لا عَيْنٌ ولا أَثَرُ
هذا هو مطلعُ القصيدةِ. ولمّا عدتُّ إلى المدينة رجعتُ إلى ديوانه المسمّى بـ: (( العقد الثّمين من شعر الشّيخ محمّد بن عثيمين ))، واطّلعتُ على القصيدة وهي تبلغُ ثلاثةً وأربعين بيتاً، اخترتُ منها بعضَ الأبيات، وهي تنطبقُ على الشّيخ تماماً:
أهكذا البَدْرُ تُخْفي نـُـورَهُ الحُــفَــرُ
ويُفْقَــدُ العلـمُ لا عَيْــنٌ ولا أَثَــرُ
خَبَتْ مصابيـحُ كنّا نستـضىءُ بــها
وطوّحَتْ للمغيب الأنجُــمُ الزُّهُـرُ
واستحكمتْ غُرْبَةُ الإسلام وانكسفتْ
شمسُ العلومِ التي يُهدى بها البَشَرُ
تُخُرِّمَ الصّــالِحُون المقتـدَى بـِهِــمُ
وقامَ منهم مقامَ الـمُبـتـدا الخَـبَــرُ
فلستَ تسمـعُ إلاّ كــانَ ثمّ مـضى
ويلحَقُ الفارطَ البــاقي كـما غَبَرُوا
وأذكرُ أنّ الحافظَ ابن حجرٍ رحمه اللهُ ذكرَ في
(( الإصابة )) في ترجمة قيس بن عاصمٍ المنقري التّميمي من أصحاب رسول الله ، وكان سيّداً في قومه، وقد رثاهُ عبدةُ بن الطّيّب في قصيدةٍ منها قولُه:
وما كان قَيْسٌ هُلْكُهُ هُلْكَ واحدٍ
ولكـنّــهُ بنيـانُ قومٍ تهــدّمَــا
وهو ينطبق على الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه اللهُ.
فهو لم يكن فقيدَ أسرةٍ، ولا فقيدَ قريةٍ أو مدينةٍ، ولا فقيدَ قطرٍ أو إقليمٍ، وإنّما هو فقيدُ العالَم الإسلاميّ رحمه الله وغفرَ له.
وقد خلف رحمه اللهُ أربعةً من البنين وستّاً من البنات، وأحدُ البنين وهو أحمد من طلبة العلم، أصلحَ اللهُ بنيه، وبارك فيهم، وغفرَ للشّيخ ولنا جميعاً، ولكنّه خلّفَ الألوفَ من البنين الذين يستفيدون من علمه ويدعون له، وقد قال عليه الصّلاةُ والسّلامُ: (( إذا مات ابنُ آدم انقطعَ عملُه إلاّ من ثلاثٍ، صدقةٍ جارية، أو علم ينتفعُ به، أو ولد صالح يدعُو له ))، فأبناؤُه من نسبه وأبناؤُه في العلم كلُّهم يدعون له، والمسلمُون يدعون له رحمه الله وغفر له.
وخلفَهُ في عمله في الإفتاء في المملكة ورئاسة هيئة كبار العلماء ورئاسة إدارة البحوث العلميّة والإفتاء نائبُه في الإفتاء الشّيخُ عبد العزيز بن عبد الله بن محمّد آل الشّيخ حفظهُ اللهُ وباركَ فيه، وجعلهُ خيرَ خلفٍ لخير سلفٍ، وهو معروفٌ في جدّه بالاشتغال بالعلم وفي خطبه النّافعة المفيدة في جامع الإمام تركي وفي مسجد نمرة بعرفة.
وكان القائم بأعمال رئاسة البحوث العلميّة والإفتاء والدّعوة والإرشاد قبل انتقال سماحة الشّيخ عبد العزيز بن باز من الجامعة الإسلاميّة إليها هو الشّيخ إبراهيم بن محمّد ابن إبراهيم آل الشّيخ.
وإنّا نفرحُ كثيراً إذا رأينا في آل الشّيخ مَنْ هم من أهل العلم.
وأقول: إنّ من محاسن ولاة الأمر في هذه البلاد عنايتَهم بآل الشّيخ، وحرصَهم على تمكينهم من الأعمال المهمّة، وذلك أنّ أصلَ هذه الولاية التي حصلَ النّفعُ فيها على مدى قرنين من الزّمان أو أكثر إنّما كان بالتقاء إمامين عظيمين هما الإمامُ محمّد بن سعود رحمه الله، والإمامُ الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله، وقيامهما بالدّعوة إلى الله عزّ وجلّ، ونصرة دِين الله.
عاشراً: أمنيّات ومقترحات
وأختم هذه الكلمات بأمنيّات ومقترحات هي:
أوّلاً: أنّ الشّيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله كان مرجعاً للعُلماء، إذا جاءت المشكلاتُ رجعُوا إليه في حلِّها ومعرفة حكمها، وقد ذهبَ ورحلَ رحمه الله، والعلمُ الذي في صدره ذهبَ معه، ولكن بقي علمُه الذي في الأوراق والرّسائل والفتاوى، والذي نتمنّاه ونرجُوه ونقترحُه أن يعتني خَلَفُه في إتمام ما بُدىء به من جمع هذه الرّسائل والفتاوى وطبعها ونشرها للاستفادة منها، وقد طبع منها اثنا عشر مجلّداً كما أسلفتُ، وهي تبلغُ المجلّدات الكثيرة، ونسألُ الله عزّ وجلّ أن ييسّر جمعَها وطبعَها وتمكين طلبة العلم من الاستفادة منها.
ثانياً: وصيّةٌ لي ولطلبة العلم عموماً وهي الجِدُّ والاجتهادُ في طلب العلم وبذل الوُسْع في تحصيله، والعناية بأخذه ونشره وبذله؛ كما كانت حالُ الشّيخ رحمه اللهُ تعلّماً وعملاً وتعليماً ودعوةً ونصحاً.
ثالثاً: أوصي بعض ذوي الهمم العالية من طلبة العلم بالاتّجاه إلى إعداد رسائل علميّة وأبحاث تتناول إبراز جوانب مختلفة من جهود الشّيخ العلميّة في العقيدة والتّفسير والحديث والفقه والدّعوة إلى الله وغير ذلك.
رابعاً: من المعلوم أنّ الجامعةَ الإسلاميّةَ بالمدينة المنوّرة عالميّةُ النّفعِ، والشّيخُ عبدُ العزيز بن باز عالميُّ النّفع، وهو الذي باشر تأسيسها، وتولّى غرسها منذ افتتاحها واستمرّ فيها خمسةَ عشرَ
عاماً، وإنّ اسمَ الجامعة الإسلاميّة اسمٌ جميلٌ، ويزدادُ جمالاً إذا أطلق عليها اسمُ: (( جامعة الشّيخ
عبد العزيز بن باز الإسلاميّة ))، وقد بذلتُ لذلك أسباباً ـ نفع اللهُ بها.
هذه بعضُ الأمنيّات والمقترحات التي في ذهني يسّر الله تحقيقها، وأسألُ الله عزّ وجلّ أن يغفر لسماحة الشّيخ، وأن يجزيهُ أحسنَ الجزاء، وأن يبارك في علمه، وأن يثيبهُ على ما قدّم، وعلى ما حصل منه من الصّدقات الجارية، وأن يعظم له الجزاء، وأن يوفّقنا جميعاً لما يرضيه، ولما فيه تحصيل العلم النّافع والعمل به، إنّه سبحانه وتعالى جوادٌ كريمٌ، وصلّى اللهُ وسلّم وبارك على عبده ورسوله نبيّنا محمّدٍ، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
منقول
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.42 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.79 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.29%)]