عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 22-03-2020, 03:11 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,301
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الصفحات المُضيَّة من ترجمة الإمام ابن تيمية

الصفحات المُضيَّة من ترجمة الإمام ابن تيمية
محمود داود دسوقي خطابي




مكانته ومرتبته الاجتهادية:
لقد تبوَّأ الإمامُ ابن تيمية مكانةً عِلميةً عاليةً مرموقة، وظلَّ طوالَ حياته يترقَّى، حتى صار أعلمَ أهل زمانه بالمعقول والمنقول، وكانت لـه اليدُ الطُّولَى في التصنيف، كما كان مبرزًا في علوم اللغة، وكان عَلَمًا في الجهاد والإصلاح والصلاح، شهِد بذلك كلُّ مَنْ رآه أو تعامل معه، و"لقد أجمع الذين عاصروه على قوَّة فِكْره، وسَعة علمه، وأنه بعيدُ المدى، عميقُ الفِكرة، يستوي في ذلك الأولياء والأعداء؛ فإنَّ تلك القوة الفكرية هي التي أثارتِ الأولياء لنُصرته، وأثارتِ الأعداء لعداوته"[87].

و"أما معرفته بصحيح المنقول وسقيمه، فإنه في ذلك مِن الجبال التي لا تُرْتَقى ولا يُنال سنامها، فقلَّ أن ذُكِر لـه قول إلا وقد علِمه بمبتكره وذاكره، وناقله وأثره... حتى كان إذا ذَكَر آية أو حديثًا وبيَّن معانيَه وما أُريد به، أُعجِب العالِم الفطن من حُسن استنباطه، ويدهشه ما سمعه أو وقَف عليه منه"[88].

ووُصِف بأنه كان غزيرَ العلم "أما غزارة علومه، فمنها: ذكْر معرفته بعلوم القرآن المجيد، واستنباطه لدقائقه، ونقْله لأقوال العلماء في تفسيره، واستشهاده بدلائله، وما أوْدَعه الله - تعالى - فيه من عجائب وفنون حِكَمِه، وغرائب نوادره، وباهر فصاحته، وظاهر ملاحته، فإنَّه فيه الغايةُ التي يُنتهى إليها، والنهاية التي يُعوَّل عليها"[89].
وقد قال أحدُ أصحابه وتلاميذه ممن يكبره سِنًّا[90]: "ولا يعرف حقَّه وقدْرَه إلا مَن عرَف دين الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم - وحقه وقدْره"[91]، فمكانته العِلمية كانت في الذروة من العلماء، وكان مرجعَ الناس في العلوم العقلية والنقلية.

وأمَّا مرتبته الاجتهادية، فإنَّه قد بلَغ مرتبةً اجتهادية عالية، وهذه المنزلة هي أنَّه مِن كِبار المجتهدين المنتسبين إلى مذهب الحنابلة في الفِقه، و"إنه - بلا شكٍّ - مِن حيثُ أدواتُ الاجتهاد، والمدارك الفقهيَّة، ومن حيث عِلْمه بالسُّنة واللُّغة، ومناهج التفسير وفَهْمه للقرآن وأصول السُّنة، وإحاطته بالحديث دِرايةً وروايةً، يُوضَع في الدرجة الأولى مِن الاجتهاد، فإنْ نظرنا إلى ذلك وحْده، فسنضعه في مرتبة المجتهدين المستقلِّين، ولكن نجده قد سلَك في استنباطه مسلَكَ الإمام أحمد في الجُملة، متقيدًا بأصوله، وفوقَ ذلك أنَّ الذي انفرد به لا يُعدُّ كثيرًا؛ بل نادرًا لا يكاد ينفرد - كما نوهنا - فإنْ تقيدْنا بهذه الناحية، فإنَّا بمقتضى القواعد المقرَّرة نضعه ضمنَ المجتهدين في المذهب الحنبلي، إنَّه - بلا شك - قد استوفى في شخْصه كلَّ شروط المجتهد المطلَق من الأدوات، والعِلْم والمدارك، ولكن مِن ناحية الموضوعاتِ التي وصَل فيها إلى نتائجَ مخالفة، ومِن حيث منهاجُه، نجدها لا تخرُج به عن الإطار المذهبي"[92].

ونحْن مع الشيْخ أبي زهرة فيما قرَّره من المرتبة العِلميَّة لشيخ الإسلام وتربُّعِهِ - رحمه الله - على عرْش الاجتهاد المطلَق، إلا أنَّنا لا نُسلِّم بالقول بأنَّ اجتهاداته لا تخرج به عن الإطار المذهبي؛ لأنَّ هذا يخالف الواقع، وما قرَّره شيْخ الإسلام نفسُه وكِبار تلامذته؛ مثل: الإمام ابن قيِّم الجوزية وغيره، فقد كان - رحمه الله - مجتهدًا مطلقًا، غير متقيِّدٍ بمذهب معيَّن، ولا دائر في فلَك المذهبيَّة، وكان لا يَقبل من أقوال المذاهب إلا ما وافَقَ الدليل، ومما يدلُّ على صِحَّة ما نقول، ما خالَف فيه شيخُ الإسلام المذاهبَ الأربعةَ من المسائل، ومِن أشهر هذه المسائل بَحْثُه في جواز طواف الحائض إذا لم يُمكن لها أن تطوفَ طاهرةً، وخَشِيت فواتَ رفقتها، واعتبار طلاق الثلاث بلفظ واحِد طلقةً واحدةً ولو فُرِّقت، وأنَّ الحَلِف بالطلاق يَمينُه مكفّرة.

وهذه المرتبة العِلمية والاجتهادية إنَّما وصل إليها؛ "نظرًا لاستبحاره في السُّنة، وتفسير القرآن، وعلوم السلف"[93]، ونتيجةً لعلوِّ كعْبه في العلوم الشرعية، فإنه أصبح في آخِر عمره لا يتقيَّد بمذهب معيَّن؛ بل بما أدَّاه إليه اجتهاده، وقد وصفَه تلميذه الإمام الذهبي بقوله: "وبقِي عدَّة سنين لا يُفتي بمذهب معيَّن؛ بل بما قام الدليلُ عليه عنده"[94]، ويرجع هذا لرِفْعة شأنه، وعلوِّ كعْبه، وتبحُّره في العلوم الشرعية والعقلية، حيث تأتي إليه الفتاوى فيُفتي بما أدَّاه إليه اجتهادُه وإدراكه، مع إحاطته بعلوم السَّلف، ولربَّما خرَج من نتائج فتاواه لموافقةِ إمام من الأئمَّة المتبوعين، أو وافَق عالِمًا من سلف هذه الأمَّة من غير تقليد، وإنَّ القارئ لفِقه ابن تيمية في كلِّ أبوابه يلمَح فيه عقليةَ الفقيه المجتهد، الذي تحرَّر من القيود المذهبية في دِراسته، ولا يلمح فيه المقلِّدَ التابع من غيْر بيِّنة وبُرْهان، هذا بالنسبة للفِقه، أمَّا في الاعتقاد، فهو على مذهَب السَّلف الصالِح؛ مذهب أهل السنة والجماعة.

أقوال العلماء فيه:
لَقَدْ أثْنى كِبارُ علماء عصْر الإمام ابن تيمية عليه، وأكثروا من ذلك؛ لِمَا لمسوه من جَمْعه بيْن القول والعمل، وبيْن الإمامة في الدِّين والزهد في الدنيا بزَخارِفها، وبما رأَوْا منه من موافقة للسلف الصالح، وإحيائه لهَدْيهم، وحمْله رايةَ الجهاد في سبيل الله.

ولو أردْنا استقصاءَ كلِّ مَن أثْنى عليه مِن علماء عصْره، ومَن أتى بعده، لَمَا استطعنا إلى ذلك سبيلاً؛ نظرًا لكثرة مَن أثنى عليه من علماء عصره، أو مَن أتى بعدهم، أمَّا ما يتعلَّق بعلماء عصره، فإنَّنا "نستطيع أن نقول: إنَّ كل علماء عصْره عَلِموا قدْرَ علمه، حتى مَن ناوأه وحاول إيذاءه؛ لأنَّه قد ضاق صدرُه حرجًا بمخالفته، وما يأتي به من جديد، وإنْ لم يستمدَّ من القديم قوته، فلم يوافق عليه"[95]، ولنقتبس بعضًا مِن تلك المشكاة، والتي تكوَّنت من العلماء الذين أثْنَوْا عليه، فمن هؤلاء:
الإمام ابن دقيق العِيد: "لَمَّا اجتمعتُ بابن تيمية رأيتُ رجلاً كلُّ العلوم بيْن عينيه، يأخذ ما يريد ويدَع ما يريد، وقلت له: ما كنتُ أظنُّ أنَّ الله بقِي يخلُق مثلَك!"[96].
ومنهم الإمام الذهبي: "كان آيةً من الذكاء وسُرْعة الإدراك، رأسًا في معرفة الكتاب والسُّنة والاختلاف، بحرًا في النقليَّات، هو في زمانه فريدُ عصْره علمًا وزهدًا، وشجاعةً وسخاءً، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر، وكثرةَ تصانيف"[97]، وقال أيضًا: "وهو أكبرُ مِن أن يُنبِّهَ على سِيرته مثلي، فلو حُلِّفتُ بين الركن والمقام، لحلفتُ أني ما رأيت بعَيني مثلَه، وأنه ما رَأَى مثلَ نفسه في العِلم"[98].
وقال الإمام عَلم الدِّين البِرْزَالي: "كان إمامًا لا يُلحق غبارُه في كل شيء، وبلغ رُتبةَ الاجتهاد، واجتمعت فيه شروطُ المجتهدين"[99].
وقال الإمام ابن الزَّمْلَكاني: "اجتمعتْ فيه شروط الاجتهاد على وجهها، وإنَّ له اليدَ الطُّولى في حسن التصنيف، وجَوْدة العبارة، والترتيب والتقسيم، والتديُّن، وكتب على تصنيف له هذه الأبيات:
"مَاذَا يَقُولُ الْوَاصِفُونَ لَهُ وَصِفَاتُهُ جَلَّتْ عَنِ الْحَصْرِ
هُوَ حُجَّةٌ لِلَّهِ قَاهِرَةٌ هُوَ بَيْنَنَا أُعْجُوبَةُ الدَّهْرِ
هُوَ آيَةٌ فِي الْخَلْقِ ظَاهِرَةٌ أَنْوَارُهَا أَرْبَتْ عَلَى الْفَجْرِ" [100]








وقال الإمام ابن سيِّد الناس: "ألفيتُه ممَّن أدْرك من العلوم حظًّا، وكان يستوعب السُّنن والآثار حِفظًا، إن تكلَّم في التفسير فهو حامِل رايته، وإنْ أفْتى في الفِقه فهو مدرك غايته، أو ذاكَر بالحديث فهو صاحِب عِلْمه، وذو روايته، أو حاضَر بالنِّحل والمِلل لم يُرَ أوسعُ من نِحلته، ولا أرْفعُ من درايته، برَّز في كلِّ فن على أبناء جِنسه، ولم ترَ عينُ مَن رآه مثلَه، ولا رأتْ عينه مثلَ نفسه"[101].
وقال الإمام المِزيُّ: "ما رأيتُ مثلَه، ولا رأى مثلَ نفسه، وما رأيت أحدًا أعلمَ بكتاب الله وسُنة رسوله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ولا أتبع لهما منه"[102].
وقال الإمام ابن الحريري[103]: "إنْ لم يكن ابن تيمية شيخَ الإسلام، فمَن هو؟!"[104].
وقال أبو حيَّان التوحيدي: "ما رأتْ عيناي مثله، ثم مدحه أبو حيان على البديهة لَمَّا اجتمع به في المجلس"، فقال:
لمََّا أَتَيْنَا تَقِيَّ الدِّينِ لاَحَ لَنَا
دَاعٍ إِلَى اللَّهِ فَرْدٌ مَا لَهُ وَزَرُ

عَلَى مُحَيَّاهُ مِنْ سِيمَا الأُولَى صَحِبُوا
خَيْرَ الْبَرِيَّةِ نُورٌ دُونَهُ الْقَمَرُ

حَبْرٌ تَسَرْبَلَ مِنْهُ دَهْرُهُ حِبَرًا
بَحْرٌ تَقَاذَفَ مِنْ أَمْوَاجِهِ الدُّرَرُ

قَامَ ابْنُ تَيْمِيَّةٍ فِي نَصْرِ شِرْعَتِنَا
مَقَامَ سَيِّدِ تَيْمٍ إِذْ عَصَتْ مُضَرُ

فَأَظْهَرَ الْحَقَّ إِذْ آثَارُهُ دَرَسَتْ
وَأَخْمَدَ الشَّرَّ إِذْ طَارَتْ لَهُ الشَّرَرُ

كُنَّا نُحَدَّثُ عَنْ حَبْرٍ يَجِيءُ فَهَا
أَنْتَ الإِمَامُ الَّذِي قَدْ كَانَ يُنْتَظَرُ


وقال الإمام ابن الوردي:
إِنَّ ابْنَ تَيْمِيَّةَ فِي كُلِّ العُلُومِ أَوْحَدُ
أَحْيَيْتَ دِينَ أَحْمَدٍ وَشَرْعَهُ يَا أَحْمَدُ [105].

فهذه بعضُ النقول عن تِلْك الأعلام من كِبار علماء عصْره، والذين شاهدوه وعاصروه، وقالوا ما قالوه فيه بعدَ الاجتماع به، وأمَّا أقوال المتأخِّرين، فكثيرةٌ جدًّا، وإنما ينقُلون عن هؤلاء الأئمَّة الأعلام، وبعضهم يقول فيه مِن خلال مؤلفاته وتراجمه، ومِن هؤلاء المتأخِّرين عنه الإمام ابن رجب الحنبلي[106]: "الإمام الفقيهُ، المجتهد المحدِّث، الحافِظ المفسِّر الأصولي، الزاهد، شيخ الإسلام، وعَلَم الأعلام، وشهرته تُغْني عن الإطناب في ذِكْره، والإسهاب في أمره"[107].


والإمام ابن حجر العسقلاني[108] بقوله: "قرَأ بنفسه ونَسَخ سُنن أبي داود، وحصَّل الأجزاء، ونظر في الرجال والعِلل، وتفقَّه وتمهَّر، وتميَّز وتقدَّم، وصنَّف ودرَّس وأفْتى، وفاق الأقران، وصار عجبًا في سُرعة الاستحضار، وقوَّة الجَنان، والتوسُّع في المنقول والمعقول، والاطلاع على مذاهب السَّلَف والخَلَف"[109].

والإمام السيوطي بقوله: "شيخ الإسلام، أحَدُ المجتهدين"[110].

والإمام الشوكاني[111] بقوله: "شيْخ الإسلام، إمام الأئمَّة، المجتهد المطلق"[112].

والشَّيْخ محمَّد أبو زهرة[113] بقوله: "الإمام الجَريء، العالِم الكاتِب، الخطيب المجاهِد"[114]، كـما وصفَه بـأنَّه مـجتهدٌ منتسِب لمـذهب الحنابلة[115].

كما وصَفه الإمام مـرْعي الكرمي[116]، بقوله: "شيْخ الإسلام، وبحْر العلوم، ومفْتي الفِرق، المجتهد تقي الدِّين، ابن تيمية"[117].

وغيرهم الكثير والكثير، ممَّن ترْجَموا لهذا الإمام، فمنهم مَن ترجَمه في كتاب مِن كتبه، ومنهم في أكثر مِن ذلك، كما أنَّ مَن يترجمون لحياة هذا الإمام إمَّا تكون ترجمةً لجانب معين: علمي أو فقهي أو تربوي، أو عقدي أو إصلاحي، وإما ترْجمة عامَّة لحياته، مما يدلُّ على علوِّ كعْبه، ورِفْعة شأنه بيْن العلماء المتقدِّمين والمتأخِّرين.

دَوْره الإصلاحي والجهادي وسبب محنته:
دَوْره الإصلاحي: هناك ثمَّة فرْق بيْن المصلحين والصالحين: فالمصلِحون يبنون الأجيال والجماعات والأمم، بينما الصالِحون لا يَبنون إلا أنفسَهم، وشأن المصلِحين عظيم؛ إذ إنَّه يرتبط، بمصير أمَّته، وإنَّ إمامًا كالإمام ابن تيمية كان مِن كِبار المصلحين؛ لأنَّه ما تخلَّى عن أمَّته وعكَف على كتبه ودرسه، بل شارك أمَّتَه همومَها وأفراحها، وتمثَّل إصلاحه في أمور خارجية لها ارتباطٌ بالأمم الأخرى.

فمِن الأمور الداخلية يبرز دورُه الإصلاحي في نشْر العلم، وتعظيم الكتاب والسُّنة، وتوقير أئمَّة السلف الصالح، وذلك بالتطبيق العملي للاقتداء والاتباع ونَبْذ التقليد، ومِن ذلك أيضًا فتْح باب الاجتهاد، ومِن الأمور الداخلية أيضًا القضاءُ على بعض البِدع، والتي قد تسرَّبت إلى الأمَّة الإسلامية، وكذلك حثُّه للسلطان على قِتال الطوائف الممتنِعة عن تطبيق الشريعة، وإفتاؤه بأنَّ قتالهم هو من جِنس قِتال الخوارج الذين قاتلَهم عليٌّ - رضي الله عنه - ومِن جنس الذين قاتلَهم أبو بكرٍ الذين امتنعوا مِن إعطاء الزكاة، ومن تلك الطوائف مَن يكونون ذوي شوكة، فيحاربون من قِبَل السلطان، ومنهم غير ذلك، فيجادلون بالحُجَّة ويقارعون، حتى يرجعوا إلى أحكام الشريعة المطهَّرة.

ومِن الأمور التي كان له دورٌ في إظهارها: أمرُه بالمعروف ونهيه عن المنكر، بدءًا مِن السلطان والأمراء، بحثِّهم على تطبيق الشَّرْع، وإقامة حكم الله - سبحانه وتعالى - ومرورًا بالعلماء والقضاة، ودَوْره في اختيار بعضهم إذا طلَب منه الأمير ذلك، وانتهاءً بالعامَّة وتعليمهم، سواء في المسجد، أو في السُّوق، أو في الحياة العامَّة، حتى في الحَبْس والسِّجن، ودعوتهم لفِعْل الخيرات وترْك المنكرات.

ومِن الأمور الخارجية، والتي هي متعلِّقة بالأُمم الأخرى: دحْضُ افتراءات المعتدين، وتفنيد شبهاتهم، وردُّه عليهم تارةً، ودعوتهم إلى الإسلام تارةً أخرى، وأيضًا كان لـه دَوْر في محاربة البِدع الوافدة على المسلِمين من أمور التشبُّه والأعياد، أموأمأ وتقديس المخلوقات كما في كتابه: "اقتضاء الصِّراط المستقيم"، ومنها أيضًا الردُّ على من يَسُبُّ النبيَّ محمدًا - صلَّى الله عليه وسلَّم - كما في كتابه: "الصارم المسلول على شاتم الرسول - صلَّى الله عليه وسلَّم".

وقد بارَك الله لهذا الإمام في مَسْعاه، فما قُبِضت رُوحُه إلا وقد طبقتْ شهرته الأرض شرقًا وغربًا، وكان لكلامه وأحواله وتآليفه أبلغُ الأثر في إحياء الأُمم، ونهضة الشعوب، وإيقاظ الهمم، حتى إنَّه قد اعتنق آراءَه الإصلاحية كثيرٌ من العلماء بعدَه، واستنار المجدِّدون بهداه لِمَا التزم به من التقيُّد بالكتاب والسُّنة على فَهْم علماء هذه الأمَّة من السلف السابقين، وممَّن اتبعهم بإحسان، كما قامتْ حركات إصلاحية في شتَّى بقاع الأرْض، وأقامت مبادئها على تلك الأصول والقواعد التي أسَّسها ذلك الإمامُ العملاق.

أمَّا جهاده، فهو غُرَّة في تاريخ ذلك الإمام، حتى إنَّه ليكادُ أن تكون حياته كلُّها جهادًا، سواء على المستوى الداخلي أم الخارجي، وقد مرَّتِ المواقِف الجهاديَّة والقتالية، وسبقت الإشارةُ إلى شجاعته وجُرأته مع التتار، أو مع النصارى، أو حتى مع الفِرَق المبتدعة الضالَّة ذات الشوكة الخارجة عن السلطان، وكذلك مِن جِهاده بالكلمة أمامَ الحكَّام؛ لإلزامهم بتطبيق الأحكام الشرعية.

أما مِحَنه، وهي التي كانت ملازمةً له في حياته، و"لسنا نقصد بمِحْنة الشيخ إهانتَه، فقد عاش - رحمه الله - معزَّزًا مكرمًا، حتى في محْبَسه، فحيثما حلَّ كان الإجلالُ والاحترام؛ وإنما نقصد بالمِحْنة: الحبس وتقييد حُريَّته في الخروج والدعوة"[118]؛ إذ العالِم أشد شيءٍ على نفسه حبسه عن تبليغ شرْع الله، وعدم تعليمه الناس، والمسلِم يبتليه الله - سبحانه وتعالى - بابتلاءات، وهي "محنٌ من الله - تعالى - يبتليه بها، ففرْضُه فيها الصبر والتسلِّي"[119].

وهي في ظاهرِها مِحن، ولكنَّها مِنَح وعطايا في صورة بلايا، وإنَّما ابتُلي هذا الإمام بتلك المحن على مرِّ سِنِي عمره؛ نظرًا لأنَّه قد "بلغتْ مكانته الذروةَ، فقد علا على المنافسة، وصار اسمُه في كلِّ مكان، وكان ذا عزيمة من حديد، ولسان ذرب قوي، وإرادة عاملة، وقد كان ذلك لمصلحةِ الإسلام والمسلمين، وقد أثارتْ منزلته حِقدَ مَن لم يبلغ شأوَه من هذه الصفات، ولم يصلْ إلى مرتبته منها"[120].

فصدْعُه بالحق مع إخلاصه، جعلاه كالشامة بيْن علماء عصره، والذين قبعوا على التقليد الأعْمى، أو التعصُّب المقيت، أو الهوى؛ طمعًا في منصب لا يدوم، "وهكذا نجد ابنَ تيمية المصلح والمربِّي، يدخل في معركة متعدِّدةِ الجبهات، ويحارب على مختلف الواجهات؛ دفاعًا عن مصدرية القرآن والسُّنة، ودحضًا لكلِّ وساطة مهما كان شكلُها وصاحبها، مما ألَّب عليه خُصومَه من المذاهب والطرق، وسلطان زمانه الذي أدْخله سجنَه، حتى مات فيه - رحمه الله - لكنَّه ترَك لنا تراثًا ضخمًا، يؤصِّل فيه للمنهج التوحيدي في مجال التديُّن وتربية الناس عليه، شكَّل مادةً مرجعية هامَّة للحركات الإصلاحية التي جاءتْ بعد"[121].

وعلى كلٍّ، فمِحن هذا الإمام جعلَها الله - سبحانه - مِنحًا عليه وعلى مَن حلَّ ومكث عندَهم، فلما "سار إلى مصرَ، وكان ذلك سنة 705هـ، وحيثما حلَّ كان نورًا وهداية، فعندما مرَّ بغزة عقَد في جامعها مجلسًا كبيرًا، وألْقى درسًا من دروسه الحَكيمة... وكذلك في سنة 707هـ قام بالتدريس في مصر، حتى نفَعَ الله به خَلْقًا كبيرًا، ورَأَوْا فيه رجلاً خالصًا في قلْبه وعقْله لله ربِّ العالمين"[122].

ولكن كان ما كان مِن أصحاب الحَسَد الدفين في قلوب المرْضى من هؤلاء، إنَّما كان لجهره بكلمة الحقِّ وخضوعهم، ولأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر وتركهم، ولمحبَّة الناس لـه، بل إنَّ منهم مَن وشى ضدَّه عند ذوي السلطان؛ لأنَّه خالفهم في آرائهم؛ كغُلاة المتصوِّفة والمبتدعة، وجهلة المقلدة، وأصحاب المناصِب والخائفين على أماكنهم، والذين قد باعوا دِينَهم بدنيا غيرهم.

وكذلك حياةُ الإمام منظومة مِن المِحن تتابعتْ عليه، حيث إنَّه سُجِن سبع مرَّات[123]: أربع مرات بمصر، بالقاهرة والإسكندرية، وثلاث مرَّات بدمشق، وكانت بداية السجن له حينما بلَغ الثانية والثلاثين من عمره، وبعد عودته من الحج، حيث بدأ تعرُّضه لأخبئةِ السجون، وبلايا الاعتقال والترسيم عليه؛ "أي: الإقامة الجبرية" خلالَ أربعة وثلاثين عامًا، ابتداءً من عام 693هـ إلى يوم وفاته في سجن القلعة بدمشق، يومَ الاثنين 20 ذي القعدة سنة 728هـ، ولسجناته أسباب متعدِّدة:
أما السجنة الأولى، فكانتْ بدمشق عام 693 هـ لمدة قليلة.
وأمَّا السجنة الثانية، فكانتْ بمصر بسبب مسائلَ في الصِّفات؛ كمسألة العرْش والنزول، وكانتْ لمدة سَنَة وسِتَّة شهور مِن رمضان 705هـ - شوال ربيع الأول 707 هـ.
وأما السجنة الثالثة، فكانتْ بمصر بسبب مسألة منْعِه الاستغاثةَ والتوسل بالمخلوقين، وكلامه في ابن عربي الصوفي، وكانت هذه المدة يسيرة، ابتداءً من أول شوال 707 هـ - 18 شوال 707 هـ.
وأمَّا السجنة الرابعة، وكانتْ بمصر، وهي امتدادٌ للثالثة لمدَّة تزيد على شهرين من آخر شوال 707 هـ - أول سنة 708 هـ.
وأما السجنة الخامسة، فكانت بمصر، وهي امتدادٌ للرابعة، حيث وقَع الترسيم عليه بالإسكندرية لمدة سبعة شهور وأيام، من غرة ربيع الأول 709 - شوال 709هـ، وكان ذلك بإيعازٍ من بعض المغرِضين.
وأما السجنة السادسة، فكانتْ بدمشق بسبب مسألة الحَلِف بالطلاق، وأنه من الأَيْمان المُكفَّرة، وكانتْ لمدة خمسة شهور وثمانية وعشرين يومًا من 12 رجب 720 هـ - إلى 10 محرم 721 هـ.
وأما السجنة السابعة والأخيرة، فكانت بدمشق بسببِ مسألة الزِّيارة السُّنية والبدعية للمقابر، ودامت لعامين وثلاثة أشهر وأربعة عشر يومًا، ابتداءً من يوم الاثنين 6 شعبان 726 هـ - إلى ليلةِ وفاته ليلة الاثنين 20 ذي القعدة 728 هـ[124].

وجعَل الله - سبحانه وتعالى - له وللأمَّة خيرًا كثيرًا، ولقد هدَى الله - عزَّ وجلَّ - على يديه في السجن خَلْقًا كثيرًا، كما انتشر علمُه من مصر إلى شمال إفريقيا والأندلس، والأمر كما قال الله - عزَّ وجلَّ -: ï´؟فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًاï´¾ [النساء: 19]، وقال: ï´؟وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَï´¾ [البقرة: 216].
يتبع


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.07 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.44 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.61%)]