ابن تيمية واعظًا وخطيبًا
مرشد الحيالي
لم يرتقِ الإمام ابن تيمية - رحمه الله - المنبر على الأرْجح، يلقي من خلاله خطبة الجمعة، خلافًا لما ذكره الرحَّالة ابن بطوطة في مذكراته[1].
وإن كان الشَّيخ قد دخل الدَّعوة من جميع جوانبها، وشتَّى مجالاتها، وربَّما لو رقي الشَّيخ المنبر لسطر ذلك من جملة مآثره، وسجّل له في سيرته العطِرة، ولدوِّنت مواعظُه وخطبُه في مصنَّف، وأصبحت زادًا للخطباء في مجال وعظهم وإرشادهم؛ لما يمتلك الشَّيخ من قوَّة الحجَّة ووضوحها، ولما له من الأسلوب البياني الرائع، والعلم الغزير في جَميع الفنون والعلوم، شهِد له بذلك الأعداء قبل الأصدقاء[2]، ولكان قد أضيفت تلك الخطب والمواعظ إلى تراث الشَّيخ ضِمْن ما ألَّفه وصنَّفه في بيان المنهج الصَّحيح في العقيدة والسلوك، كما نقل إليْنا تلامذته رسائله ومؤلَّفاته، علمًا أنَّ الشَّيخ جلس للوعْظ والتَّدريس وعُمره تسعَ عشرة سنة.
وكانت دروسه ومواعظه موضع اهتمام وإكبار من أهل العلم قاطبة[3]؛ لكثرة ما تضمَّنت دروسه من فوائد ودُرر، وكان - رحمه الله - "يتكلَّم في الجوامع على المنابر - مواعظ لا خطب - بتفْسير القرآن وغيره، من بعد صلاة الجمُعة إلى العصر"[4]، وبحضور جهابِذة من علماء عصْره، والسَّبب في كوْن الشَّيخ لم يلتزِمْ هذا النَّوع من الوعْظ في رأيي يَرجع إلى ما يلي:
1- لَم يتقيَّد الشَّيخ بهذا النَّوع من التَّبليغ والوعظ، رغْم أهميَّته وكونه وسيلةً مؤثِّرة في التوجيه؛ بسبَب ما لقِيه من تضْييق وإيذاء طوال مسيرته العلميَّة، ومن قبل بعض علماء عصرِه، ووزراء دولته؛ ممَّا أدَّى إلى صدور مرسوم المنْع في حقِّه من إلْقاء الدروس والفتيا لعدَّة مرَّات، ممَّا كان يصعب - والحال تلك - من ممارسة وظيفة التَّعليم والتَّوجيه في المسجِد وخارجه، فكيْف من ارتِقاء المنبر وإلقاء الخطب؟! ومع ذلك فالشَّيخ لم يمتنِع من التَّوجيه والتَّربية حتَّى وهو في داخل محبسِه، كما سيأتي توضيحُه.
2- كرَّس الشيخ - رحمه الله - حياته كلَّها في سبيل الدِّفاع عن قضايا الأمَّة، وتحمَّل من أجْل ذلك المتاعب والمصائب، وحمل راية الإصْلاح والتَّوجيه والتَّربية في السلْم والحرْب، والسرَّاء والضرَّاء، ودخل إلى معترك حياة النَّاس الاجتماعية يوجِّه ويعلم، ويربِّي وينقُد ويصحِّح، ممَّا أغْناه ذلك عن الاقتِصار على هذا النَّوع من أنواع القول والتَّبليغ، وهو الخطابة.
3- برز دور الشَّيخ كواعظٍ وخطيب وبقوَّة في مجالات عدَّة؛ لما يمتلِك من أسلوب بياني، وحجَّة قاهرة تُزلزل الباطل وتقهره وتقمعه، وشجاعة نادِرة وقوَّة إيمان عميق، وثقة بالله لا حدودَ لها، أعطتْه الجراءة في مواقف كان الكثير من علماء عصره - على جلالةِ قدرهم وعلوّ كعبِهم - يُحجم عن الإقدام عليها[5]، بل تسبَّبت - تلك الجراءة - في بعْض الأحيان إلى تخلِّي بعض الأصحاب والأحباب عنه، فكان لا يعتدّ ولا يهتم لما يقال ويُشاع عنْه بذلك لقوَّة تمسُّكه بالحق، وثباته عليه، ومن هذه المواقف التي برز فيها الشَّيخ كواعظٍ وخطيب مفوّه ما يلي:
أوَّلاً: مواعظه للملوك:
ومن ذلك تصدِّيه للملك التَّتري قازان، هذا الملك الذي تنخلِع القلوب من أماكنِها عند رؤيتِه، وترتعِد الفرائص خوفًا من بطشِه وجبروته، فكان لمواعظ الشَّيخ التي اتَّسمتْ بقوَّة الحجَّة وأسلوب بياني رائع، وبعبارات قاسيةٍ أحيانًا، لكنَّها صادرة من قلبٍ امتلأ يقينًا وخوفًا من الله، كسَرَ بِموعظتِه وبصوتِه الجهْوري شهوة قازان المادّيَّة الظَّالمة، وكبح جماح هواه، وكان لها أبْلغ الأثر في نصْرة الإسلام وأهله، ودفْع شرور عظيمة عن أمَّة الإسلام، ويذكر البزار: أنَّه لما ظهر الملك التتري على دمشْق قام الشَّيخ من فورِه، وشجَّع المسلمين، وألْهب حماسَهم في خطبة وموعظة لم تكن من فوق أعواد المنبر، بل كان في مُجتمع النَّاس وناديهم، ووعدهم بالنَّصر والظَّفر، وتلا عليهم الآيات والأحاديث المتضمّنة للجهاد، أمَّا هو فانتدب ومَن معه لملاقاة الملِك نفسِه، وما أن رآه حتَّى أوْقع الله في قلْب الملك الهيبة، وأدْناه وأجلسه بجنبِه، يقول الحافظ ابن كثير في تصوير مشهد لقاء الشَّيخ بالملك: "ولقد قال أحد الَّذين شاهدوا اللقاء: كنت حاضرًا مع الشَّيخ، فجعل يحدِّث السُّلْطان بقول الله ورسولِه في العدل، ويرفع صوته ويقرب منْه ... والسلطان مع ذلك مقبلٌ عليْه مصغٍ لما يقول، شاخص إليْه لا يُعْرِض عنه، وإنَّ السلطان من شدَّة ما أوْقع الله في قلبه من الهيْبة، والمحبَّة، سأل: مَن هذا الشَّيخ؟ إنِّي لَم أر مثله ولا أثبت قلبًا منه، ولا أوْقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتُني أعظم انقيادًا لأحد منه، فأُخْبِر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل".
وممَّا خاطبه به في هذه المقابلة وعن طريق الترجمان: "قُل لقازان: أنت تزعُم أنَّك مسلم، ومعك قاض وإمام، وشيخ ومؤذِّنون على ما بلغنا، وأبوك وجدّك كانا كافرَين، وما عمِلا الَّذي عمِلت؛ عاهدا فوَفَيا، وأنت عاهدت فغدرْت، وقُلتَ فما وفيت، وجُرت، ثمَّ خرج بعد هذا القوْل من عنده معزَّزًا مكرَّمًا"[6].
وكان لتلك الخطبة - لما حوتْه من أسلوب رادع، وحجَّة قوية، ودعاء مؤثر في آخِرِها عليْه - والموعظة المؤثرة التي أوْقعت في قلب قازان الخوف والرهبة - أثرُها في تخليص أسْرى المسلمين من بطْش ذلك الجبَّار العنيد.
ثانيًا: مواعظه لولاة الأمر:
فقدِ اتَّسمت بالرحمة والحكمة؛ لعلم الشيخ بما يجب لولاة أمر المسلمين من الحقوق، والواجبات الشرعيَّة من النصح بالرفق، والتعامُل معهم بالحسنى وفق منهج السَّلف، "وألا يشهِّر بهم علانية، فيتَّخذ من أخطائهم سبيلاً لإثارة الفتن؛ لأنَّ ملء القلوب على ولاة الأمر يُحدث من الشر والفتنة[7] ما لا يعلمه إلاَّ الله"، ففي رسالة يوجِّهها للسلطان، ينصحُه فيها بإقامة شعائر الإسلام وتنفيذها، يقول: "من أحمد بن تيمية إلى سلطان المسلمين، ووليِّ أمر المؤمنين، نائب رسول الله في أمَّته بإقامة فرْض الدين وسنَّته، أيَّده الله تأييدًا يصلح به له وللمسلمين أمر الدنيا والآخرة، ويقيم به جميع الأمور الباطنة والظَّاهرة ...".
ثم يقول: "وقد استجاب الله الدعاء في السلطان فجعل فيه الخير الَّذي شهدت به قلوب الأمَّة، ما فضَّله به على غيره، والله المسؤول أن يعينَه؛ فإنَّه أفقر خلْق الله إلى معونة الله وتأييده"[8].
تأمَّل ما تحت تلك الكلمات، من اللُّطف في القول، والحرْص على إقامة شرع الله بأسلوب حكيم، ومن تلك المواعظ قولُه لسلطان مصر لما وجده قد دخل القاهرة، وتفرَّق الجند عنْه بعد سماعهم أنَّ السلطان خارج لملاقاة التَّتر، فقال له: "إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته، أقمْنا له سلطانًا يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن.... إلى أن قال: لو قدّر أنَّكم لستم حكَّامه وسلاطينه، وهم رعاياكم وأنتم مسؤولون عنهم"[9]، ثم حث الأمراء والسلطان بالخروج بالجيش إلى ملاقاة العدو.
ثالثًا: مواعظه في مجامع النَّاس العامة:
وتشمل مجالات عدَّة من حياة الناس، مثل المحافل الشعبية والمناسبات الاجتماعية والنَّوادي الثقافية، انطلاقًا من قوْل الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((الذي يخالط الناس ...))، فلم يكُن ينتظر ليأتيَ إليه الناس يستفْتونه، ويسألونه فيعِظهم ويوجِّههم، بل كان يخرج بنفسه، وأحيانًا مع بعض الأصحاب وبقوَّة إلى حياة النَّاس الاجتماعية، ينصح ويحثّ، ويوجِّه ويدعو، ويأمُر بالتَّمسُّك بالمنهج السَّليم في كلِّ مناحي الحياة، وبما يناسب المقام، مع سداد الرَّأي، وقوَّة الأسلوب ووضوح الحجَّة، يقول البزار: "كان - رضي الله عنْه - من أشْجع النَّاس وأقواهم قلبًا، ما رأيت أحدًا أثبت جأشًا منه، ولا أعظم عناءً في جهاد العدوِّ منه، كان يُجاهد في سبيل الله بقلبِه ولسانه ويده، ولا يخاف في الله لومة لائم"[10].
"وأخبر غير واحد أنَّ الشَّيخ - رضي الله عنْه - كان إذا حضر مع عسْكر المسلمين في جهاد يكون بينهم واقيتهم، وقطب ثباتهم، إن رأى من بعضِهم هلعًا أو رقَّة أو جبانة، شجَّعه، وثبَّته وبشَّره، ووعدَه بالنَّصر والظفر والغنيمة، وبيَّن له فضْل الجهاد والمجاهدين، وإنزال الله عليهم السَّكينة".
بل كان واعظًا وخطيبًا حتَّى وهو في محبسه، فقد دخل الحبس ووجد المحابيس مشتغِلين بأنواع من اللعب، يلتهون بها عمَّا هم فيه، كالشطْرنج والنرْد ونحو ذلك من تضْييع الصَّلوات، فأنكر الشَّيخ عليهم ذلك أشدَّ الإنكار وأمرهم - من خلال خطبةٍ مؤثرة - بملازمة الصَّلاة، والتوجُّه إلى الله بالأعمال الصَّالحة، والتَّسبيح والاستِغْفار، والدّعاء، وعلَّمهم من السنَّة ما يحتاجون إليْه، ورغَّبهم في أعمال الخير، وحضَّهم على ذلك، حتَّى صار الحبْس بما فيه من الاشتِغال بالعلم والدين خيرًا من الزَّوايا والربُط والخوانق والمدارس"[11].
أي موعظة بليغة تلك التي تجعل من السجن - بالرغْم ممَّا يحيط به من ظروف - خيرًا من المدارس والزَّوايا؟!
وللشَّيخ مواقف عديدة في موعظة النَّاس وتذكيرهم، شملت مجالات عدَّة من حياة النَّاس، لا يسَع البحث لسردِها كلها، وقد تميَّزت تلك المواعظ المؤثرة بجملة ميزات جعلتها القمَّة في التأْثير والقبول، ولنبدأ ببيان صفة وعظِه، وطريقة إرشاده، وبما كان يستفتح دروسه، ثمَّ نتبع ذلك بمميزات الوعظ:
صفة مجالس وعظه:
أفضل مَن نقل إليْنا صفة وعظِه وإرشاده تلامذتُه وأصحابه، يقول البزَّار: "وأمَّا ذكْر دروسه، فقد كنت في حال إقامتي بدمشْق لا أفوِّتُها، وكان لا يهيِّئ شيئًا من العلم ليلقيَه ويُورده، بل يجلس بعد أن يصلِّي ركعتَين، فيحمد الله ويثني عليْه، ويصلِّي على رسوله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على صفة مستحْسَنة مستعذبة لم أسمعها من غيره، ثم يَشْرع فيفتح الله عليْه إيراد علوم، وغوامض ولطائف، ودقائق وفنون، ونقول، واستدلالات بآيات وأحاديث، وأقوال العلماء، ونصْر بعضها وتبْيين صحَّته، أو تزييف بعضِها وإيضاح حجَّته، واستشهاد بأشعار العرب، وربَّما ذكر اسم ناظمها، وهو مع ذلك يَجري كما يجري السيل، ويفيض كما يفيض البحْر، ويصير منذ يتكلَّم إلى أن يفرغ كالغائِب عن الحاضرين مغمضًا عينيْه، وذلك كله مع عدم فكر فيه أو رويَّة، من غير تعجرُف ولا توقُّف، ولا لحْن بل فيض إلَهي، حتَّى يبهر كلَّ سامع وناظر، فلا يزال كذلك إلى أن يصمت، وكنت أراه حينئذ كأنَّه قد صار بحضرة مَن يشغله عن غيره، ويقع عليه إذ ذاك من المهابة ما يرعد القلوب، ويُحيِّر الأبصار والعقول، وكان لا يذكُر رسولَ الله قطّ إلا ويصلِّي ويسلِّم عليه، ولا - والله - ما رأيت أحدًا أشدَّ تعظيمًا لرسول الله، ولا أحرص على اتّباعه ونصر ما جاء به منْه، حتَّى إذا كان ورد شيءٌ من حديثه في مسألة ويرى أنَّه لم ينسخْه شيء غيره من حديثِه يعمل به ويَقضي ويُفتي بمقتضاه، ولا يلتفت إلى قول غيره من المخلوقين كائنًا مَن كان، وقال - رضي الله عنه -: "كلّ قائل إنَّما يحتجّ لقولِه لا به إلاَّ الله ورسوله"[12].
أمَّا تواضُعه مع المدعوين، فيقول:
"وكان لا يسأَم ممَّن يستفْتيه، أو يسأله، بل يُقبل عليْه ببشاشة وجْه ولين عريكة، ويقِف معه حتَّى يكون هو الَّذي يفارقه، كبيرًا كان أو صغيرًا، رجُلا أو امرأة، حرًّا أو عبدًا، عالمًا أو عاميًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبنه، ولا يحرجه، ولا ينفِّره بكلام يُوحشه، بل يجيبه ويفهمه، ويعرفه الخطأ من الصَّواب بلُطْف وانبساط".
يتبع